سياسةمحليات لبنانية

لماذا نحن متخلفون؟

 

   حيدر شومان
كثيرا ما يُطرح في واقعنا العربي سؤال يشتد إلحاحاً كلما اشتدت بنا النوائب، واحتدمت الخطوب وضاقت علينا الأرض بما رحبت: لماذا نحن متخلفون؟
ويستتبع هذا السؤال عاصفة من التساؤلات التي تسير في ركابه: لماذا نقبع في ظلام من الفكر ونعاني العبودية في النظرية والتطبيق، والمنهج والممارسة، والسيرورة والصيرورة؟ لماذا تقدَّم الغربيون وتراجعنا؟ لماذا نستورد منهم وسائل معيشتنا، وأدواتٍ تضمن بقاءنا، وآلاتٍ تَسير بنا وتُسيِّرنا، وطرقاً تحدد وجهتنا ومسلكنا ومعتقدنا وإيماننا وإلحادنا، تحدد حبنا وبغضنا، أملنا ويأسنا، انطلاقنا ونكوصنا، فيمخر البعض في عبابها السقيم وهو يظن أنه سلك السبيل القويم، وينبذ غيرهم القدر المتيقن من سبل مناراتها وهو يظن أيضاً أنه سلك السبيل القويم؟
من الإجحاف والتعامي ألا نعترف بما بلغه الغربيون من تطور وتقدم في الحياة بجميع أركانها وعناوينها العامة والخاصة، ومن الإجحاف والتعامي عدم الإقرار بأننا أصبحنا في موضع سحيق لم يعد بالإمكان فيه من اللحاق بركبهم بل ولا القدرة على التواصل الفكري أو المادي معهم في عصر الكومبيوتر والاتصالات حيث تكاد طرفة العين وانتباهتها أن تؤثر على مسيرة التقدم والتطور، فكيف بسباتنا العميق المميت!
وينبري البعض ليعلل الإجابة عن سر وسبب وحقيقة وكنه تخلفنا باستعمار الغرب وتآمره وامبرياليته وطمعه ببلادنا سوقاً ليبيع بضاعته، وأيدي عاملةً رخيصة لتنفيذ مآربه، وأراض للتوسع وتأمين المواد الأولية و… وسعيه لإغراقنا في سراديب الجهل كي لا نعي فساد سريرته، ولا نفقه عظيم جريرته. فأغدق علينا كل ما يؤجج نار شهواتنا ويحرّك غرائزنا ويميت فينا الوعي والعقلانية، فأسقط فينا الفرد والجماعة والمجتمع، فأصبحنا قبائل تتناحر، وطوائف تتصارع، ومذاهب تتعارك، وأحزاباً تتحارب، وأوطاناً تتنازع على الحدود وغير الحدود. كما أنشأ فئات من كل أمة جعل بينها حاكماً مستبداً يعلو ولا يعلى عليه، يخرس الألسن ويكم الأفواه، ويبطش بمن سولت له نفسه اعتراضاً أو استنكارا. والغريب أنه وليد من يدَّعون الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والحيوان والجماد.
وإذ لا يمكن أن نعترض على هذا التعليل، أو نرفض هذا التأويل، فإن فيه الكثير من الصواب والواقعية، بل إن التاريخ المعاصر، وقبل ذلك بقرون قليلة، يثبت صحة كل ما سلف وكثير غيره.
ولكن…
ما الذي مكَّن الغرب وأهله من رقابنا، فأمسينا دمى جامدة، وإرادات لا تتحرك إلا لتقديسه، وألسنة لا تطلق إلا لتمجيده، وأعيناً لا تبصر إلا محاسنه، وأقداماً لا تسير إلا في هداه؟
ما الذي أيقظه من سباته فانتفض في وجه العواصف وسار في درب التحديات فحطَّم حصون الجهالة وأسوار التقوقع؟ وما الذي أربك أحوالنا وأظلم نفوسنا وجعلنا منهزمين متواكلين، نقدّس الماضي، ولا نتهيأ للغد القريب بل ولا للساعة الآتية؟
ألم يعش الغرب عصوراً وُصفت بالمظلمة الدامسة، الكالحة العابسة، جهلاً وانحطاطاً، خنوعاً واستكانة، يُفتك بالمفكرين والعلماء، ويُسجن من يعترض أو يجادل، ولو كان العقل سلاحه، والعلم كفاحه؟ فرفع باسم الاصلاح سيف الفساد، واغتال باسم الدين أناساً مؤمنين، وساد الظلم حاكماً وشعاره القسط والعدل.
وفي المقابل ألم نرفع حينها للعلم لواءه، وللفكر رايته، وانتشلنا الأمم الغارقة في غياهب الدياجير، وهدينا البلاد الضالة إلى سواء السبيل، ونزعنا قيود التخلف من أيدي الخانعين فحررناهم، ومن عقول التائهين فأرشدناهم؟ ألم نكن للحضارة عنوانها، وللفكر محجته المشعة؟
فلماذا تغيروا وتغيرنا وتقدموا وتخلفنا؟
لماذا عُزوا بعد ذل وذُللنا بعد عز؟
والإجابة تأتي دوماً من البعض صارخة، حاسمة، واجزة، ناجزة، وهي إن في ابتعادهم عن الدين خلاصهم، ودنوَنا منه هلاكنا، ويظن صاحبها أنه بلغ في حجته المراد، وأراح في مقولته العباد.
ولكن…
تُجمع آراء المذاهب، دينية وغير دينية، أن تقدم الغربيين كان في ابتعادهم عن ممارسات رجال الدين الفاسدة، من ابتداع صكوك الغفران، وبيع أراضٍ في الجنة، وأنهم ممثلو الله على الأرض، وصوته الذي يحكم بين الناس، فعاثوا في الأرض الفساد، وأهلكوا العباد، وقضوا على صوت العلم والعلماء، فكان التخلف سمة عصرهم، والتقوقع عنوان حكمهم، فأصبح الدين قريناً لهم، والكنيسة علامة ظلمهم، مع أن المسيحية من هذه الممارسات براء.
ولو أن الذين ثاروا على تلك الممارسات الخاطئة، قاموا بإصلاح ما فسد من أمور دينهم ودنياهم لتبدلت أحوالهم وتحسنت أوضاعهم، دون أن تعيش البشرية خلال قرون مآسي وويلات وحروباً، دينية وسياسية، طوائف وجماعات ودولاً، كان أبرزها حربان كونيتان في القرن الماضي، وسقوط عشرات الملايين وقوداً لتلك الصراعات، ولما يزل قطار التقدم الغربي الدامي في مسير لا يتوقف.
أما نحن فقد ابتعدنا عن الدين، فتفرق جمعنا، واتسع صدعنا، وتمزَّق شملنا، وفسد أمرنا، ففشلنا وذهبت ريحنا، وجهلنا وتبدد شملنا، وضللنا وسقمت نفوسنا، وعدنا إلى حكم الجاهلية، نعبد الأوثان وغير الأوثان.
لقد ابتعدنا عن الدين فسقطنا، ولقد قضوا على فساد رجال الدين فارتفعوا، فلم لا نصلح حالنا، ونقضي على سوء ممارساتنا، ونحتضن الدين الذي نبذوه، ونلوذ إلى الله الذي خاصموه، فنرتفع درجات في تطويع الماديات كما ارتفعوا، ولا نهوى دركات في شؤون السماء كما هووا، فنمشي في مناكب الأرض الذلول، ونفوز بالعاقبة المثلى، وتكون لنا الأولى والآخرة؟
من السذاجة تعداد مكامن الضعف في روح المجتمع الغربي، واستقراء ضروب السقم في جسده، والإفاضة في الحديث عن ما وصل إليه، حيث ضاعت الروابط العائلية والأسرية، وانتهت علاقات الناس العامة والخاصة فيما بينهم، وسقطت المحرمات باسم اللهو واللذة وابتغاء الكمال الدنيوي وتخفيف المعاناة… من السذاجة التركيز دوماً على موبقات الغرب وتسليط الأضواء الساطعة على ما كل ما نرى فيه هفوة أو فجوة أو سوأة، لنهنأ ونسعد أننّا أفضل حالاً فنزداد استكانة. ألم تغزُنا رياحه من كل صوب، وبتنا نفخر بأكل طعامه، والتزين بلباسه، والسفر عبر طائراته وبواخره وسياراته، ومشاهدة قنواته، وقراءة كتبه، والتأثر بأفكاره وممارساته، سياسية واجتماعية وفكرية ودينية و… ألم نقلد أساليبه التي تطال كل جزئية في حياتنا؟
دعونا من الغرب وانزلاقاته، ولنخض في شؤوننا وحقيقة ما آلت إليه سقطاتنا، فإن في ذلك طريقاً لمعرفة الداء وتشخيص الدواء، وترقب الأمل في ميدان العمل، لا في البكاء على أطلال التاريخ الغابر، والارتماء في أحضان العجز الخائر، لقد رُدَّت مجتمعاتنا إلى أرذل العمر، ولم نعد نعلم بعد علم شيئاً، وفي كل يوم نزداد تقهقراً ونكوصاً، وتخلفاً وسقوطاً، وتشتتاً وحبوطاً، وقطار التاريخ في رحلته يسير، فهل ينتظر من تخلف عن محطته؟
إنها أسئلة مؤلمة، ولا شك أن أجوبتها تؤلم أكثر…

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى