رأيسياسةمحليات لبنانية

لبنان: من كؤوس العلقم إلى مشاعات الطيّون والرمّان

الدكتور نسيم الخوري

هناك شعور عارم بالمساواة بين الأفرقاء في لبنان، لكنهم عالقون جميعاً بين “نحن وهم” أو “نحن غيرهم وهم غيرنا” ثمّ “أنا وأنت” بالمذكر وخصوصاً بالمؤنّث. هكذا تمتدّ المسافات وتتكدّس بالأحداث والإهانات والكراهية والإنقسامات والحروب ليبقى الوطن الصغير معلّقاً بالسؤآل: أيّ لبنانٍ نريد؟

لنعترف جميعاً:

وعندما تلوح المساواة بين الأفراد والجماعات والأحزاب كما الحال في لبنان، أو حتّى بين الدول، تقوى بسرعة مشاعر التنافر والتغاير وتتراكم الأحقاد عبر اللمح والخطب المشحونة للخروج من المقولة التاريخية ” لا غالب ولا مغلوب” إلى رغبة السلطة والسيطرة وتعبيد طرق العبور الى الغلبة. غالباً ما يورث هذا الشعور تبادل في التحقير والقهر والإيذاء وحتّى القتل والإلغاء، وخصوصاً عندما لا يلمس المتساوون أو أحدهم فضائل العدالة والإنصاف في تساويهم. فرضت هذه المقولة نفسها على المقدّمة بعد الأحداث الدموية الخطيرة وتداعياتها التي أرعبت اللبنانيين في حقول الطيون والرمّان، لتُعيدهم إلى مذاق ال1975 الذي لم يُلغه اتّفاق الطائف في ال1991 لأنّ البرلمان سقى اللبنانيين 3 كؤوس من علقم:

1-  تعيين نواب برلمان ال1972 الباقين يومها على قيد الحياة بعد عودتهم من الطائف، نوّاباً ملأوا المقاعد الشاغرة من دون انتخابات برلمانية في البلد المتشاوف بنظامه الديمقراطي. لقد اتّسمت تصريحاتهم يومذاك بزهو تحقيقهم آليات الشعور بالعدالة والمساواة الإنتقالية بين دستور وآخر، إلى محو مشاعر الغبن والتسلّط والحرمان المُزمنة بين الطوائف والمذاهب في حكم لبنان.

2- إصدار البرلمان الجديد قانون العفو العام في لبنان(رقم 84/91 في 26/8/1991) عن كلّ الجرائم المرتكبة خلال الحرب الأهلية وخصوصاً أمراء الميليشيات الذين هم أنفسهم تسلموا مقاليد ​السلطة​ في لبنان، وعاثوا فساداً ونهباً بالدولة ليطلق الرئيس الياس الهراوي آنذاك على الجمهورية تسمية “البقرة الحلوب”. اتّخذت الدولة الجديدة العميقة بسرعة سيطرة زعماء الميليشيات الذين بدّلوا ثيابهم العسكرية بعد شطبهم  للجرائم  والفساد الذي أذهل اللبنانيين خلال 18 سنة وما زال. الأمر نفسه حصل بعد الانفجار الأهلي في ربيع ال1985 إذ صدر أوّل قانون مماثل عن الجرائم المرتكبة حتّى 15/10/1958، وصدر قانون العفو الثاني عن الجرائم التي حصلت أثر حرب حزيران 1967 حتى قبل 1/1/1968 .

3- سألت رئيس الوزراء في حكومة الطائف الأولى، بصفتي عضو مجلس إدارة تلفزيون لبنان  الرسمي مكلّف بشؤون البرمجة والإنتاج، عن توجيهاته بالنسبة لتراتبية نشرات الأخبار، وجاءني الجواب أنّ الوزراء فئتان: الأولى مميّزة ممثّلة بالذين خرجوا من المتاريس إذ يُفترض، كما اتُفق، أن تتصدّر أخبارهم وأنشطتهم على الفئة الثانية أي الشخصيات التقليدية والمألوفة. صعقني الجواب طالباً التوضيح، فقال بأنّهم هؤلاء سيسقطون حتماً وسينبذهم المشاهدون بعد انخراطهم في الدولة. لم يقنعني الجواب الذي احترمناه لماماً بل نادراً، لكن من اعتبرتهم الدولة مميّزين  قبضوا عليها سلماً بعدما دمّروها بقضها وقضيضها حرباً. ترسّخت الإنقسامات وفصول الفساد والمحاصصات، وفشلت كل محاولات التآلف عبر طاولات الحوار. لم يتصالح اللبنانيون مع ماضيهم كمسار أساس لوعي الحاضر وبناء المستقبل. لم تُرصد حقائق تاريخية جديرة بنقل المجتمعات المتنافرة من مجتمع أكلته الحروب والمآسي إلى آخرى مُهيّأة للسلام والتلاقي. بقي الشعور الجميع بالمساواة والإختلاف في كلّ شيء مذهبياً حتى الخبث والكيد في تسمية الشهداء.

تابع العالم، باهتمام وتدقيق ما حصل قرب قصر العدل والمطالبة بتنحي القاضي الناظر بملف تفجير المرفأ الذي يبيض تفجيرات. سآخذ مثلاً وحيداً لردود أفعالٍ سيّدات شهيرات نشرن صورهن شبه عاريات وتعليقات تفيد بأنّ هذا هو لبنان الحقيقي الحر الديمقراطي الغربي. لن تُردم تلك الفجوات بين عادات الشعوب وثقافاتها في لبنان، لكنّ للمساواة عناصرها القوية في عصر الفضاء ؟

أودّ النفاذ من مظاهر التغاير المُبالغ فيها بين الفئات اللبنانية إلى المُغالاة المُزعجة في التعليقات والكلام الفارغ الذي لا يضيف شيئاً إلى هدوء المواقد والمواقع.

لماذا؟

لأن لبنان الحاضر الذي يُروّج له، بصفته المجتمع النادر في تآلف كياناته وثقافاته ودياناته وعقائده المتنوّعة، وهو ما زال ساقطاً حتّى عبر الكلام والصور التوصيفية الشعبية القاسية والمستفزّة. خلعت الأحاديث والتقييمات المكبوتة أقنعتها وصارت تجاهر مّعلنة عبر الكلام العام الذي يمكن اختصاره:

ويبقى الوطن كأنّه حلقة ذهبية معلّقة بأنفٍ أو برمش عين امرأة أو رجلٍ لا يتمايزان تبعاً للموضة التي لا تُزعج لكنّها توصف بال”المستوردة” لأُجازف مسميّاً لبنان مجدّداً ب”الوطن المستورد” الذي أضاع جذوره بين شرق وغرب ولو أنها فاعلة ومرغوبة وممتدة في الأرجاء. ولهذا أيضاً سيبقى المواطن خائفاً محدّقاً في وجه الموت، لا يعنيه إن واجهه بلغة البشر أم بلغة الكائنات المفترسة وكلاهما متساويان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى