فنون

قواص البطريرك تحفة تاريخية أدبية للزميل أنطوان سلامة


عودنا الزميل أنطوان سلامة أن يغني المكتبة اللبنانية والعربية بمواضيع مميزة ،وهذه المرة كان "قواص البطريرك " تحفة تاريخية أدبية تحاكي الحقبة التي تأسس فيها لبنان الكبير عبر بطل القصة منصور الذي شغل منصب قواص البطريرك الياس الحويك.
وفي حبكة مشوقة تجمع الحب والنضال، يضيء الكتاب على مأساة اللبنانيين في مجاعة حرب ال14، ويقدم بشكل جذاب احدى الخلفيات التي ارتكز اليها البطريرك في تأسيس لبنان الكبير، وهي حاجة سكان جبل لبنان، أي المتصرفية الى القمح.
ويصلح كتاب قواص البطريرك الى أن يكون مسلسلا تلفزيونيا أو فيلما سينمائيا، لما يتضمنه من سيناريو مشوق، واختبارات حياتية تجمع الحالة الخاصة المتمثلة بأبطال القصة، والحالة العامة التي تصور جبل لبنان في أواخر الحكم العثماني. ويتميز الكتاب بغناه في سرد معلومات تاريخية بقالب قصصي تطغى عليه مغامرات عاطفية تخفف من سوداوية المجاعة، فيدفق النص سلسا الى القارىء.

يمكن إدراج هذا الكتاب في إطار الإصدارات الكثيرة التي تناولت مؤخرا الحرب العالمية الأولى ومآسيها اللبنانية، لكنه يتفرد في أسلوبه وطريقته في المعالجة والتقديم الجذاب.
الكتاب صدر عن دار "سكريبت"،ويروي الزميل سلامة في أحد فصوله:
"في اليوم الأول من عيد الأضحى سنة ١٩١٤، انهمك البطريرك بكتابة برقية معايدة الى والي بيروت ومفتيها، علّه يعالج ندوب زيارته البارجة الفرنسية في جونيه.
انزوى في غرفته، يفكّر في ما يرضي مسلمي الولايات الغاضبين من الموارنة الذين يرتدي خواجاتهم الزيّ الفرنجي، ويعلّمون أولادهم اللغة الفرنسية في مدارس الإرساليات، ويحلمون بانعزال كنبع ماء حلو في بحر.
أزاح ستارة الشباك فرأى يوحنا منحنياً بغنبازه يقلب تراب مسكبة البقدونس والى جانبه منصور واقفاً بشرواله. ابتسم قبل أن يطرق بابه الأسقف الذي قال له من دون مقدّمات: "الأخبار سيئة، أخبرني نجيب باشا ملحمه، أنّ العثمانيين انخرطوا كلياً في الحرب، ويتجهون الى حماية ظهرهم بإقفال الأديار ونفي الأعيان الى الشام والقدس، وبإقفال المعابر البرية لعزل مسيحيي المتصرفية عن بلاد الشام".
مسح البطريرك ذقنه بيده اليسرى وأجاب:" يعني الحصار… الله يدبّر".
انتهى هذا النهار ولم يكتب البطريرك برقيات التهنئة، توالت عليه مراسلات المطارنة تنبئه بأنّ الأسوأ لا محال آتٍ.
لم يتصوّر البطريرك أنّ دير بكركي سيخضع لأحكام المجلس العرفي في عاليه، وأنّ الجيش العثماني يسيطر على طريق زحله، يقطع الأشجار، يطرد الناس من البيوت طلبا لدفء في حرب كونية.
ضحك ساخراً: "رزق الله على إيام زوجة المتصرف مظفّر باشا، نترحّم على فساد هذه الحرمة"، قال ما قاله حين أعلمه الأسقف أيضاً، بأنّ والي بيروت "بكر سامي" أرسل اليه أوراق يانصيب ليشتريها دعما للجيش العثماني في حربه ضدّ الحلفاء.
ضاق الحصار على البطريرك بعدما تأكدّ أنّ جمال باشا قائد الجيش العثماني الرابع أمر بالاستيلاء على محفوظات القنصلية الفرنسية في بيروت. انكشف أكثر.
عرف أنّ جمال باشا هو الحاكم المطلق، بيده يُمسك رقاب العباد، وبيده الأخرى يختم على قرارات ديوان الحرب وأحكامه العرفية.
تقاطعت لديه الأخبار بأنّ جمال باشا ينوي إذلاله.
نزل البطريرك الى بهو المائدة فلم يستطع الجلوس لأكل لقمة تين مطبوخ مع السمسم.
خرج الى الساحة، لفّ وجهه بشال صوف ومشى وحيداً، حذراً، كأنّ العيون تلاحقه من برّ أقفلته جحافل الأتراك، ومن بحر أغلقت مساراته أساطيل الحلفاء، وبين الإثنين يقف البطريرك على حبلٍ من شوك.
لمعت برأسه فكرة. قوّاصه منصور الأميّ سيتحوّل ساعي بريد البطريركية. ساعي بريد ينقل الرسائل ولا يجيد قراءتها. التكتم خير وسيلة للمواجهة، للصمود.
سيرسل رسالة غداً صباحاً الى المطران بولس مسعد ليطلعه على أجواء الشام وحقيقة القرار التركي بنفيه إليها.
يروي منصور لأحفاده أنّه في الحرب الأولى عاش أجمل أيامه. يضع حبيبته "دوبا" بجانبه في العربة ويطيران معا، من ضيعة الى مدينة، ومن أسقفية الى قنصلية. يعبران فوق النجوم، يخبئ ليرات الذهب في دكة شرواله فيشتريان ما يحلو لهما، يدخلان أسواق بيروت والشام وطرابلس، كغازيين غنما لتوّهما مغارة ذهب من أيام الرومان.
وإذا نزل عليهما ليل، قصدا نزلاً وأمضيا ليلة نَدِيّة حيث لا يبصرهما أحد.
التزم منصور توجيهات البطريرك الصارمة، يعطي رسالته للمرسَل إليه، ويمزقها حالاً بعد قراءتها، ينتفها بأصابعه كي لا يبقى أثر لها، ويعود بها ممزّقة إلى البطريرك ليتأكد من تلفها.
لم يعرف منصور يوماً مضمون تلك الرسائل، وأكثرها الى المطارنة في أبرشيات حلب وصيدا وصور وعكا وبيروت ودمشق وبعلبك، والبترون، وإلى وجهاء.
لم تتعرقل مهمات منصور أبداَ، فعلى الرغم من الحواجز العسكرية على مداخل المتصرفية وخارجها، إحكاما لحصار بري منظّم، انفتحت له المعابر، ينظر العسكر التركي إلى وجه "دوبا" فيومئون اليه بالمرور. هكذا وصلت رسائل البطريرك الخطيرة إلى من يريد، عبر ضحكة امرأة وجنون عاشق يعيش خارج الزمن الأسود.
أمضى البطريرك وقته في تلك المرحلة يكتبُ الرسائل السرية أكثر مما يصرّح. يتلقى أيضا المخابرات بلغة مبطنّة. ساد الصمت في البطريركية مخافة أن تسمع الجدران التي تشي.
تعلّق البطريرك بقوّاصه الذي يُنفّذ ولا يعترض. مدّ خطوط التواصل مع وجهاء مسيحيين تقربوا من جمال باشا، وكانوا يرسلون اليه إشارات تساعده في اتخاذ القرارات، في مرحلة الخطأ فيها يقود الى المشنقة أو النفي."
الكتاب صدر عن دار "سكريبت" وهو الرابع للزميل سلامة الأستاذ في جامعة الكسليك ،ورفيق الدرب الطويل في تلفزيون لبنان ،بعد كتب عن    أدوار حنين والياس أبو شبكة وطانيوس شاهين .ألف مبروك.
واصف عواضة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى