رأي

قضية الزواج المدني في لبنان :نعم انها حكاية ابريق الزيت


   بالإذن من الزميل بيار أبي صعب في مقالته المنشورة في جريدة “الأخبار” اليوم تحت عنوان “الوزيرة الليبرالية وحكاية ابريق الزيت ” .فقد عشت فصولا من هذه القضية خلال العقود الماضية تستحق أن تروى.
   في منتصف تشرين الثاني عام 1998 كانت طائرة الرئيس الراحل رفيق الحريري تتهادى بنا في الجو بين الرياض ودمشق، بعد زيارة شملت طهران والعاصمة السعودية، عندما فاجأني رئيس الحكومة من دون مقدمات بالقول:لن أوقع على مشروع قانون الزواج المدني لإحالته الى مجلس النواب “.
قلت له :هذا خبر كبير يا دولة الرئيس .هل نستطيع النشر ؟
رد بالقول: نعم أنشر عن لساني ..
كانت الساعة تقترب من السابعة والربع مساء ،ونشرة أخبار تلفزيون لبنان في السابعة والنصف .قلت للرئيس الحريري :للأسف..مش حنلحّق نشرة الأخبار قبل الهبوط في دمشق..
أجاب: التلفون أمامك ..اتصل بالتلفزيون ..
وبالفعل أجريت اتصالا مباشرا بمدير الاخبار الزميل عارف العبد وأبلغته  الخبر الذي افتتح به النشرة ،ما عكس ضجة سياسية وإعلامية كبرى في البلد.وعند هذا الحد مات مشروع الزواج المدني في تلك المرحلة ،ومات معه حلم صاحب المشروع الرئيس الراحل الياس الهراوي قبل أسبوع واحد فقط من انتهاء ولايته وتسلم الرئيس أميل لحود رئاسة الجمهورية في 24 تشرين الثاني عام 1998 . 

وكان الرئيس الهراوي قد تقدم بمشروع القانون السالف الذكر في 2 شباط 1998 ،ووضعه على جدول أعمال مجلس الوزراء حيث تمت الموافقة عليه بأغلبية 21 وزيرا بعد مناقشات مستفيضة بتاريخ 18/3/1998، لكنه أثار نقاشا واسعا في البلاد، وخاصمته قيادات الطوائف الدينية،وظل هذا المشروع في حلبة التداول تسعة أشهر من دون أن يجد طريقه الى مجلس النواب ،حيث تردد الرئيس رفيق الحريري في التوقيع عليه وإحالته الى مجلس النواب الى أن حسم أمره أخيرا في رفضه بصورة علنية.
   وقد أيدت المشروع في ذلك الحين منظمات حقوق الإنسان ولجنة حقوق المرأة وعدد كبير من المحامين والمثقفين والجامعيين وشرائح أخرى من كل الطوائف، أضف اليها  العديد من القوى السياسية كالمجلس الوطني اللبناني، حركة “أمل”، “الحزب الإشتراكي”، “الكتلة الوطنية”، “حزب الكتائب”، “الوطنيين الأحرار”، “التيار الوطني الحر”، “الحزب الشيوعي” و”القومي السوري”، “الحزب العلماني الديموقراطي” و”رابطة الشغيلة”.  وقد علق الرئيس نبيه بري على النقاش الدائر آنذاك قائلا: “إننا سكارى حتى النخاع في الطائفية”.
    وأذكر أن رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الامام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين تريث في إبداء موقفه من هذا الموضوع ،وأرسل الى مفتي الجمهورية في ذلك الحين الشيخ محمد رشيد قباني متمنيا عليه التريث أيضا ،”لأن الموضوع لا يعني المسلمين فقط ،بل أن الزواج المدني هو مشكلة مسيحية قبل أن يكون مشكلة إسلامية ،ويستحسن التشاور مع المرجعيات الروحية المسيحية وإصدار موقف مشترك ،على الأقل بين المرجعيات الإسلامية” .وقد جمع الشيخ شمس الدين يومها نقابتي الصحافة والمحررين في لقاء في مقر المجلس الشيعي ،وتحدث مطولا عن هذا الموضوع ،وقال ما معناه “إن زواج المسلمين هو أقرب ما يكون الى الزواج المدني ،ولكن لدينا مشكلة شرعية واحدة ،تتلخص في تحريم زواج المسلمة من غير المسلم ،أما المسلم فيستطيع أن يتزوج من غير المسلمة وأن تبقى على دينها وتمارس طقوسها الدينية في منزل الزواج”.
   الا أن المفتي قباني فاجأ الامام شمس الدين بعد أيام ببيان منفرد يرفض فيه مشروع الزواج المدني رفضا مطلقا ،ولطالما كرر هذا الموقف كلما لاح في الأفق مشروع من هذا النوع ،حتى أنه في العام 2013 أصدر بيانا جاء فيه:”ان كل من يوافق من المسؤولين المسلمين في السلطة التشريعية والتنفيذية على تشريع وتقنين الزواج المدني ،هو مرتد وخارج عن دين الإسلام ولا يُغسل ولا يُكفّن ولا يُصلى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين “.
   قبل أيام فاجأت وزيرة الداخلية ريا الحسن الرأي العام بموقف يدعو الى إجراء حوار حول الزواج المدني عندما سئلت عن هذا الموضوع ،وقالت إنها تحبذ أن يكون هناك اطار للزواج المدني ،و”هذا الأمر سوف أتحدث فيه وسوف أسعى الى فتح الباب لحوار جدي وعميق حول هذه المسألة مع كل المرجعيات الدينية وغيرها ،وبدعم من رئيس الحكومة سعد الحريري حتى يصبح هناك اعتراف بالزواج المدني “.
  والمعروف أن المعني الأول  بتعديل قانون الأحوال الشخصية في لبنان هو وزير الداخلية ،باعتبار أن المديرية العام للاحول الشخصية تابعة لوزارة الداخلية.لكن هذا الموضوع معقد الى الحد الذي سُفحت فيه من قبل مشاريع واقتراحات وأفكار كثيرة لم تجد طريقا لها الى التحقيق ،بسبب معارضة المرجعيات الروحية لهذا الموضوع .
  وانطلاقا من ذلك لم تنتظر دار الفتوى الإسلامية في لبنان طويلا لابداء رأيها في هذا الأمر فأصدرت بيانا رفضت فيه رفضا مطلقا موضوع الزواج المدني، في إشارة واضحة الى تصريحات الوزيرة الحسن التي يبدو أنها فوجئت بهذا الموقف وأسقط من يدها،الأمر الذي دفع الرئيس سعد الحريري الى الطلب منها طي هذا الأمر وسحبه من التداول .والواضح أن هذا الموضوع سيطوى مرة أخرى ،لأن ماعجز عنه الرئيس الراحل رفيق الحريري ،لن يستطيع سعد الحريري السير فيه ،ليس فقط انطلاقا من موقف دار الفتوى الإسلامية،بل لا يخفى على أحد أن المملكة العربية السعودية تعارض بشدة هذا الأمر.
   لا يعني ذلك أن حديث الزواج المدني سيُطوى في لبنان ،لأن هناك شرائح لبنانية واسعة لن تستكين في طرحه .لكن هذا الأمر سيبقى كحكاية إبريق الزيت ،طالما أن النظام السياسي الطائفي هو الذي يحكم لبنان .
   في المناسبة حكاية ابريق الزيت لها أكثر من رواية ،وتتلخص في تكرار طرح الأمور من دون جدوى ،وأقرب هذه الروايات الى المنطق أن عائلة كان لديها ابريق يرشح زيتا ،فحاولت استبداله مرات عدة ،لكنه ظل يرشح ،ومع ذلك لم تقتنع هذه العائلة واستمرت تستبدل الأبريق من دون جدوى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى