رأي

عن المكان المرتحل قسراً نحو البعيد(باسم باجوق)

 

كتب باسم باجوك- الحوارنيوز

لم يعد في المكان حيز إلا للخريف، للموت ومشتقاته، ولضجيج الرغبة بالثأر من اولئك الآتين من بعيد. لا حيز في المكان للمطالبة بإطالة الأوتوستراد الشمالي لكي يبلغ أقصى الجنوب، الكل قد أشاح وجهه شطر الجدار الحدودي وما وراءه. لم يعد في المكان حيزٌ للكتابات المدرسية والأشعار الرومانسية والتبرك بحراثة الحقول رغم التسلل المستغرب للاخضرار في مثل هذا الوقت من العام. وحده صوت قرقعة السيوف الإسبارطية، ودخان صواريخ المحتلين القتلة الفطري الشكل، وشظايا الحديد والنار والحجارة، يعلون فوق كل شيء. صرنا “مهجرين” من المكان مع وقف التنفيذ. نعود فقط لنلقم بطون أرضه بعضاً من فلذات أكبادنا، ولنتزود منه ببعض دثار عز تأمينه لنا على النافذين. نتأبط غصة وأمنيات وصور بيوت تبقى عالقة في الأذهان. نشيح الطرف عمداً لنخنق عبراتنا عن شباب غضٍ خلفناهم وراءنا ليعاقروا وحدهم كآبة شوارعنا الخالية وبرودة ووحشة مساءات المكان القاتلين…

المكان يقع جنوب الأوتوستراد على مرتفعات غير ذات حظوة. لا ينعم البتة بالمركزية، ولا بدورة اقتصادية خدماتية قريبة، ولا بدفء مسائي مع نكهة مثلجات في عز ديسمبر، ولا بتباهي المتباهين من ساكني شمال الأوتوستراد الذين انتقلوا من مرحلة “الحرمان والاستضعاف” إلى مرحلة التنعم بخيرات التعايش والمحاصصة في مسخ الوطن الطائفي الفاسد النهائي لجميع أبنائه من دون أي إمكانية للتغيير (واللي مش معاجبو يهاجر أو يشرب من البحر). يُمنح المهجرون من المكان قصائد وفلاشات تتغنى بمجد وعزة ينالونها فقط خلال الحروب، وتتلقى بيوتهم خلالها ردات الفعل على طلبات من فئة “ما يطلبه المشاهدون من الشعارات الحربية” لوطنيين غيورين مؤيدين للمQاومة من طوائف أخرى…!

ما بعد الحروب يصبح الأوتوستراد والمستشفى والجامعة والحِسبة “ترفاً” لا يمكن تأمينه للمكان الواقع في “الأقاليم النائية البعيدة”. المكان ليس أكثر من مصيف ومنتجع للمغتربين والمتمولين العائدين في العطلات وخلال المهرجانات الانتخابية لإقامة الولائم والسهرات الغذائية التفشيخية للفعاليات والضيوف. معظم الفعاليات والضيوف من سياسيين ورجال دين ونافذين ومتمولين يقيمون خلال الشتاء في المدن المركزية البعيدة عن المكان. لا تجد فيه خلال ذلك الوقت الصقيعي إلا البسطاء محدودي الطموح الذين يستهجن متاولة شمال الأوتوستراد سكنهم في تلك الأماكن “البعيدة”. والذين لا ترى فيهم الفعاليات إلا أرقاماً عند التظاهرات، وأصواتاً غب الطلب المقدس خلال الانتخابات، وحضوراً رديفاً مؤنساً واقياً ساتراً خلال الصراعات…

أهل المكان الأعزاء. يا ساكني حافة البركان؛ لحفظ دينكم وكرامتكم وإعلاء كلمة الله، غادروا المكان مصحوبين بببركة الصلاة على محمد وآل محمد وجميع الصحب والأنبياء والمرسلين والصالحين والصديقين والفريسيين والصدوقيين. مغادرة المكان لا بد حتمية في مسخ وطن يشعركم صبح مساء بأنكم مغبونون مهزومون لأنكم ببساطة لا تهاجرون. عضوا على حنينكم واقطعوا شرايينكم المرتبطة بالمكان. لقد أديتم قسطكم للعلى من التضحيات والصمود والتصدي منذ الأزل ما قبل أحمد باشا الجزار، وما قبل سواه من ولاة الهمجية والغزاة من كل الساميين وملوك التوراة وسواهم من الطغاة. المكان ليس لكم. المكان ساحة لاصطدام النبؤات الدينية “لإعلاء كلمة الله وظهور مخلصي الأديان”. كلمة الله لا تعلو في الأماكن الأخرى، والمخلصون لا ينعمون بصلاحيات بعيداً عن المكان، على ما يبدو ويُفهم مما يقول المحاضرون المنظرون…

أأقول وداعاً أيها المكان الحبيب..!
لكأن أقدارنا الشتات والاشتياق والغربة والحنين. خُطُّوا علينا مخط القلادة على جيد الفتاة. وليس عنهم من محيص…!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى