إقتصادمصارف

غياب الرقابة على المصارف يعطل دور المصرف المركزي في الاستقرار النقدي والمالي

 

 

 


       وردت عبارة إعادة هيكلة القطاع المصرفي، في معظم المداولات والخطط والمناقشات، المتعلقة بالأزمة المالية والنقدية الخانقة، التي تعرض لها لبنان، ولم يسلم هذا القطاع من تحميله مسؤولية تلك الأزمة، ودائماً تكون تلك العبارة مصحوبة بالإشارة إلى الخلل البنيوي والوظيفي الذي أصاب المصرف المركزي، كونه يتمتع بصلاحيات واسعة في علاقته مع المصارف من جهة، ومن جهة ثانية، وظيفته في المحافظة على الاستقرار النقدي والمالي.
ومن أهم  تلك الصلاحيات، الرقابة على القطاع المصرفي، الذي يملك تأثيراً مباشراً في تحقيق الاستقرار المنشود، باعتباره يملك القدرة على خلق النقود، التي من شأنها سلوك أحد الطريقين: تلبية احتياجات الاقتصاد نسبة لحجمه، أو التوسع في الإئتمان بطريقة غير متناسبة مع هذا الحجم، ما يؤدي إلى التضخم، بسبب ارتفاع حجم الكتلة النقدية، بما يفوق الطلب الفعلي للاقتصاد الكلي، وحدوث ذلك لتحقيق الربحية للمصارف، على حساب أمرين: القدرة الشرائية بفعل التضخم، والسيولة بحال التعثر، خاصة في حالة تركز الإئتمان، الذي يزيد من المخاطر، التي إن حصلت، فهي كفيلة بابتلاع الأرباح ومعها رأس المال، الذي حكماً يفوق رأس مال المصارف، المكون من أموال المساهمين.
وفي المقابل، فإن انخفاض القروض الإئتمانية، وقصورها عن مواكبة النشاط الاقتصادي، سيشكل عائقاً أمام النمو الاقتصادي، وسيزيد من الطلب على تلك القروض، ما يرفع من معدلات الفوائد، كون الطلب على النقود أكبر من العرض النقدي، وهذا الارتفاع سيزيد من كلفة الإنتاج، ما يؤدي إلى الانكماش الاقتصادي، نتيجة تراجع الاستثمارات على المديين القصير والمتوسط من جهة، ومن جهة ثانية يشكل زيادة المستوردات على المدى الطويل، نتيجة عدم القدرة على تليية احتياجات السوق الداخلية، وتراجع النمو الصناعي، الذي سوف يؤثر على القطاعات الأخرى، ومن يملك مفتاح التوازن في الإئتمان، هو المصرف المركزي تحديداً، القادر على ضبط هذا الإئتمان بأدوات عديدة تتيح له ذلك، فالمصرف المركزي يضطلع بمراقبة الإئتمان وتوجيهه، وفقاً لحاجات النشاط الاقتصادي، وتنفيذاً للسياسة النقدية للحكومة، ويقدم  التسهيلات الإئتمانية للمصارف، عن طريق إعادة الخصم والتسليفات، بصفته بنك البنوك والملجأ الأخير للإقراض.
ولا بد من ذكر الأدوات التي يمتلكها المصرف المركزي، في تنفيذه لرقابته الكمية والكيفية، والتي تشكل صمام أمان للاستقرار النقدي والمالي، وهي كما يلي:
– نسبة الإحتياطي الإلزامي، عبر إلتزام المصارف بالاحتفاظ بجزء معين من ودائعه، في شكل رصيد نقدي دائم لدى المصرف المركزي بدون فائدة، وتهدف هذه الأداة إلى ضمان سيولة المصرف وحماية حقوق المودعين، والتأثير بفعالية على سياسة المصارف الإئتمانية.
– سياسة إعادة الخصم، وهو سعر الفائدة التي يتقاضاه المصرف المركزي، على قيم الأوراق التجارية والأوراق المالية، التي تقوم بخصمها البنوك لدى البنك المركزي، وكذلك سعر الفائدة على القروض التي يقدمها للبنوك التجارية المختلفة.
– عمليات السوق المفتوحة، عبر قيام المصرف المركزي بعمليات بيع وشراء أوراق مالية في السوق النقدي والمالي، للتأثير على حجم الإئتمان، مع العلم أن نجاح عمليات السوق المفتوحة في التأثير على الإئتمان، مرتبطة بوجود سوق للأوراق المالية متسعة وناشطة.
ما حصل، في القطاع المصرفي في لبنان، هو غياب الرقابة الكمية والكيفية للمصرف المركزي. فمن جهة الرقابة الكمية، التي تهدف للتأثير على حجم الإئتمان، توسعت المصارف في منح القروض الإئتمانية، بسبب فائض السيولة لديها، وسهّلت الحصول على تلك القروض، التي في معظمها للاستهلاك، ما زاد الطلب عليها، ونتج عن ذلك زيادة الطلب الداخلي على السلع والخدمات، وفي ظل ضعف الإنتاج الوطني، تم استيراد معظم هذا الطلب، ما أدى إلى ارتفاع فاتورة الاستيراد، وإصابة الميزان التجاري بالعجز الكبير، الذي شكل عاملاً حاسماً في عجز ميزان المدفوعات، وما يؤكد ذلك، حديث حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بتاريخ 29 نيسان 2020، بأن هناك مبلغ يقدر بحوالي 4 مليار دولار سنوياً، خصص للاستيراد يعتبر غير ضروري، وحصل ذلك لعدة سنوات.
إن معالجة الخلل في زيادة الإئتمان، يتمثل في قيام المصرف المركزي باستخدام أدواته، وأهمها رفع نسبة الإحتياطي الإلزامي، للحد من السيولة لدى المصارف، فيجعلها عاجزة عن التوسع في منح القروض، لمنعها من زيادة الكتلة النقدية عن المستوى المرغوب فيه، التي تؤدي للتضخم وارتفاع الأسعار، وتعتبر سياسة تغيير النسب للاحتياطي الإلزامي، من أقوى الأسلحة في البلدان النامية، ويكاد يكون من المستحيل استخدام السياسات الأخرى، بحيث يصعب استخدام عمليات السوق المفتوحة، بسبب ضيق أسواق النقد والمال، كما أن سياسة سعر الخصم محدودة، لضيق أسواق الخصم في هذه البلدان.
أما غياب الرقابة الكيفية، فحرمت القطاعات الإنتاجية من الإستفادة من القروض، المميزة بفوائدها المنخفضة بشكل كبير، وتهدف تلك الرقابة للتأثير على نوع الإئتمان، وتشمل بعض الإجراءات، التي تتعلق بتحديد حصص مختلفة لأنواع القروض، ويطلق عليها اصطلاح الرقابة الإنتقائية، لذلك، فإن بحث غياب الرقابة الكيفية، يكتسب ضرورة موضوعية، نظراً لتأثيرها المباشر على القطاعات الاقتصادية، وأهم أدوات تلك الرقابة، تتمثل في التمييز في سعر الفائدة لأنواع معينة للقروض، أو مدى توفير الموارد الإئتمانية، التي تقدم للمصارف المختلفة، فيستطيع المصرف المركزي أن يزيد من تمويل حيازة أصول معينة، مثل الأصول الصناعية أو الآلات أو المعدات، وذلك عن طريق رفع نسبة قيمة القروض الممنوحة بضمان هذه الأصول، أو خفض الحد الأقصى لسعر الفائدة، التي تتقاضاها المصارف على القروض المضمونة بهذا النوع من الأصول، أو مدّ الأجل الذي تسدد خلاله هذه القروض، وهو بهذه الطريقة يسهل زيادة الإئتمان إلى القطاع الصناعي، الذي يستخدم الآلات والمعدات أو الأصول الصناعية عموماً، كذلك فإن المصرف المركزي عندما يحدد الأصول المقبولة للخصم، أو يقبل إقراض المصارف بضمانها، فإنه بهذه الطريقة يؤثر على اتجاهات المصارف في استخدام مواردها.
لذلك، تتضح أهمية المصرف المركزي ودوره في توجيه الإئتمان، بحيث يملك أدوات عديدة، لتوجيه القروض باتجاهات معينة، تتناسب مع الخطط والسياسات الحكومية، المتعلقة بأهداف اقتصادية، وبدلاً من ذلك، ساهم المصرف المركزي في توسّع المصارف في القروض الاستهلاكية، وقام بهندسات مالية للحصول على العملة الأجنبية، لتغطية عجز ميزان المدفوعات، الذي يتسبب بجزء كبير منه عجز الميزان التجاري، وكذلك لتمويل عجز الموازنة العامة، وخدمة الدين العام، وهذه الهندسات كلفت الخزينة مبالغ كبيرة، نظراً لفوائدها العالية، وخاصة للمصارف التي سوّقت لسندات الخزينة، ما حفّز تلك المصارف على توظيف مواردها المالية في السندات، والتي هي أساساً ودائع الناس، وابتعادها عن تقديم قروض للمؤسسات والشركات والأفراد ذات الطابع الاستثماري، فتخلت المصارف عن دورها الطبيعي كوسيط بين المدخر والمستثمر، ومارست دور المصرف المرابي، بتقديم فوائد عالية على الودائع، كونها توظف تلك الودائع بفوائد أعلى، لتحقيق الأرباح الخيالية، ومن ناحية أخرى ارتفاع معدلات الفوائد على القروض، ما يؤثر سلباً على الاستثمار، وغياب الرقابة الكيفية ساهم في تدمير القطاعات الإنتاجية، وغابت معها الرقابة الكمية، ما سبب بمشكلة التضخم وارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى تركز الإئتمان، الناشىء عن توظيق نسبة كبيرة من الودائع في سندات الخزينة، مع معرفة تلك المصارف بعجز المالية العامة، وارتفاع الدين العام وكلفة خدمته، وارتفاع المخاطر الإئتمانية، لعدم وجود ضمانات فعلية، بل مقتصرة فقط على الضمانات القانونية، وتجاهل المؤشرات الكثيرة بتراجع التصنيفات الإئتمانية للبنان، وتدهور أوضاعه النقدية والمالية، ما يقوده إلى التعثر، وهذا ما حصل، فانكشفت الدولة والمصرف المركزي أمام المجتمع الدولي، واهتزت ثقة المودعين بالمصارف، وصدقت التوقعات بضياع تلك الودائع، في ظل تراجع التحويلات الخارجية، وزيادة المستوردات وتراجع الصادرات، ما أدى إلى شحّ في السيولة، وفقدان الدولار من السوق، ودخول البلد في أزمات مفتوحة، بدأت في خروج الناس للمطالبة بالتغيير، ووقف الفساد، واستعادة الأموال المنهوبة، وإصلاح القضاء، ومروراً بوضع المصارف قيوداً قاسية على السحوبات، ومنع أي سحوبات بالدولار، دون أي مسوّغ قانوني، مع عجز المصرف المركزي عن التدخل لوقف التدهور، وصولاً إلى أزمة فيروس كورونا، والانكماش الاقتصادي العالمي، وصعوبة الحصول على القروض والمساعدات، دون المرور بصندوق النقد الدولي، ما دفع الحكومة للرضوخ لخيار طلب مساعدة هذا الصندوق، والدخول بحال موافقته لمفاوضات صعبة، ستكون مؤلمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وكل ذلك جاء نتيجة خلل كبير في السياسات المالية والنقدية للدولة، وتخلي المصرف المركزي عن وظيفته ودوره الرقابي للقطاع المصرفي، وكذلك مهمته في المحافظة على الاستقرار النقدي والمالي، ومنع تدهور العملة الوطنية، وتنبيه السلطات المعنية بخطورة مسار الاستدانة، وزيادة الدين العام، وارتفاع نسبته للناتج المحلي الإجمالي، مع عدم القدرة على استدامة هذا الدين، وتحمل كلفة خدمته، التي تستنزف نصف إيرادات الخزينة.
لقد دخل لبنان في أسوأ أزمة اقتصادية ومالية ونقدية، والتي سيكون لها تداعيات خطيرة على أوضاعه الاجتماعية، مع ارتفاع معدلات الفقر بنسب عالية وغير مسبوقة، وأصبح الأمر يحتاج إلى معجزة للإنقاذ، وتأمين مناخات داخلية وخارجية مساعدة، تعيد للوطن استقراره وأمنه ووحدته.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى