إقتصادرأي

على طريق جهنم:الانهيار الشامل يتهدد لبنان(فيصل زيود)

 

  بقلم د.فيصل زيود

يشهد لبنان منذ عقود أزمات متلاحقة وانقسامات طائفية وسياسية عميقة حالت دون قيام دولة فعلية، ويعيش حاليًا أياما صعبة للغاية في ظل حكم هذه المنظومة السياسية الفاسدة، حيث يطغى منطق التسويات وتقاسم الحصص على الإصلاح، وتقاضي رشى وعمولات من قبلها على كل المشاريع العامة ، الأمر الذي أدّى الى أزمات متتالية بدءا من الأزمة الاقتصادية، ولعلها الأسوأ في تاريخه، التي جعلت أكثر من 70%  من سكانه تحت خط الفقر، ومن ثمّ ترافقت معها جائحة كورونا، وبالتوازي معهما حدث الانفجار الهائل في مرفأ بيروت (4 آب 2020) الذي كان أقوى انفجار غير نووي في العالم حيث دمّر المرفأ وحصد العدد الكبير من القتلى والجرحى الى جانب الدمار الهائل في المباني والممتلكات، فتحرّك المجتمع الدولي على أثر ذلك، متمثلا بالمبادرة الفرنسية لحلِّ الأزمة الاقتصادية، ومن بعدها استقالت حكومة دياب تحت وقع ما حدث. 

 

لم تتجاوب هذه المنظومة مع المبادرة الفرنسية التي قدّمت مقترحاتها للحل، تبدأبتشكيل حكومة مهمة من الاختصاصيين خارج التحاصص الحزبي، لكن نتيجة اصرار هذه المنظومة على افتعال خلافات مصطنعة في ما بينها، لتغطية نهبها للبلد، استمرّت في خلافاتها السياسية، ما حال دون تشكيل حكومة حتى اليوم، الأمر الذي سّرع السير نحو الهاوية ودفع بالبلاد إلى شفير الانهيار التام. 

 

بعد أشهر من انطلاق ثورة 17 تشرين على هذه المنظومة، حدث الانخفاض الكبير والمستمر لليرة اللبنانية مقابل الدولار والذي هو من أسوأ انعكاسات الأزمة، حيث وصل سعر الدولار في السوق السوداء إلى نحو خمسة عشر ألف ليرة، الأمر الذي  أدى الى خسارة العملة الوطنية أكثر من 85 بالمائة من قيمتها، ما انعكس سلبا على القدرة الشرائية لمعظم فئات الشعب اللبناني، فاشتدت الأزمة على حياة المواطنين أكثر بعد إغلاق البنوك ابوابها أمام العملاء وتشديد القيود على عمليات سحب العملات الأجنبية، الى جانب الخلاف السياسي الحاد بين القوى السياسية في الداخل اللبناني وعدم الاتفاق على تشكيل حكومة،الأمر الذي تسبب بعدم معالجة جدية للأزمة التي تزيد من معاناة الشعب اللبناني.

 هذا بدوره جعل لبنان أمام مواجهة تحديات اقتصادية كبيرة في المرحلة القادمة، ومن أهمّها  كيفية إعادة الثقة بالقطاع المالي والمصرفي وعودة التوازن إلى المالية العامة ، وهذا من الصعب تحقيقه لأن جوهر الأزمة الاقتصادية والمالية يكمن في غياب القدرة المالية بالدولار لكل من القطاع المصرفي وخزينة الدولة،خاصة بعد إعلان الحكومة التوقف عن سداد الديون الخارجية في ظل العقوبات الحالية والتي جعلت من المستبعد الحصول على التمويل الخارجي، الأمر الذي ينعكس بدوره سلبا على دخول العملات الأجنبية.

 

وهذا التدهور في القيمة الشرائية للمواطنين ترافق مع ارتفاع أسعار السلع التي تضاعفت بشكل كبير، على الرغم من محاولة الحكومة احتواء الوضع عبر دعم بعض السلع الاستهلاكية من احتياطي المصرف المركزي من الدولار الذي يُستخدم بشكل رئيسي لدعم استيراد القمح والمحروقات والأدوية، ما تسبب في وقوع خلافات بين المواطنين والعاملين في المتاجر والأسواق وتدافع لشراء السلع المدعومة من الدولة، وما زال المصرف المركزي يهرب الى الأمام عبر طبع العملة الورقية ووضعها في التداول، الأمر الذي نشأ عنه ارتفاع معدلات التضخم  وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين وارتفاع معدلات البطالة لتبلغ أكثر من 65% ؛ حيث نتج عنه ارتفاع في معدلات الفقر وازدياد التفاوت الاجتماعي وكذلك ارتفاع معدلات الهجرة، واستمر الوضع الاقتصادي بالتدهور بشكل متسارع حتى دخلنا في التضخم المفرط، ولم تستطع السلطة المركزية نتيجة خلافاتها وفقدانها القدرة على أداء واجباتها،  من تأمين أدنى المقومات المعيشية والحياتية، الأمرالذي جعل لبنان يتجه إلى تفسخ في عقده الاجتماعي ودخوله في مرحلة حرجة من الانكشاف المالي والفوضى الاجتماعية، وبالتالي إلى الانهيارالشامل. 

إزاء هذا الوضع السوداوي، يتّضح لنا غياب الإرادة السياسية الحقيقية للحل والمواجهة من خلال عدم وجود سياسة متكاملة لمواجهة الأزمة الاقتصادية، وهذا هو السبب الرئيسي للأزمة، الى جانب أسباب أخرى أدّت الى تفاقمها، وأهمها:

 

  1. السياسات الاقتصادية الريعية منذ التسعينات من القرن الماضي التي وضعت على حساب الاقتصاد المنتج، ومن الطبيعي أن الاقتصاد الذي يقوم على الريع دون إنتاج فعلي  سيؤدي الى الافلاس.
  2. الفساد والنهب المنظم لخزينة الدولة اللبنانية.
  3.  الهروب من التدقيق الجنائي، لكي تغطي هذه الطبقة السياسية فسادها وتحصل على عفو عام عن الجرائم المالية التي وقعت في لبنان منذ التسعينات وحتي اليوم. 
  4. تهريب الدولار والمواد الغذائية المدعومة إلى الخارج نتيجة جشع التجار. 
  5. الضغط الخارجي على الاقتصاد اللبناني ونظامه المصرفي، عبر وقف التحويلات الخارجية ما أدى الى عدم التعامل مع القطاع المصرفي اللبناني. 

 

بالرغم من أنّ الوضع الاقتصادي والاجتماعي أصبح ضاغطا على اللبنانيين ويهدد بانفجار شامل، فإنّ الطبقة السياسية غير مستعدة لتقديم أي تنازلات وما زالت تتلاعب بمصير الشعب والبلاد، ويوحي تصرفها بأنّها منفصلة عن الواقع، وبالرغم من الضغوط الدولية التي قادتها فرنسا لتشكيل حكومة، ما زال تشكيل الحكومة الجديدة يصطدم بشروط وشروط مضادة واتهامات متبادلة بالتعطيل بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف سعد الحريري منذ 22 تشرين الأول حتى اليوم. ولم تنجح جميع المبادرات المحلية والخارجية حتى الآن في تقريب وجهات النظر ، وهذا التعطيل المتبادل قد يستمر لأشهر.

 

انطلاقا مما تقدم، نجد إن الأزمة الاقتصادية والمالية هي سياسية بالدرجة الأولى وهي نتاج النظام السياسي اللبناني الذي افتقد الاستقرار السياسي. لذلك، يحتاج لبنان إلى تشكيل حكومة مهمة لكي:

  1.  تعيد بناء الثقة مع الداخل، بحيث تكون مرتكزًا لانتشال لبنان من أزمته عبر استقطاب موارد مالية جديدة. وهذه الثقة تتطلب السير بالإصلاحات، وأهمها: القضاء المستقل ومحاسبة الفاسدين، وتقليص النفقات العامة وتحسين الإيرادات الضريبية، وضبط الحدود وإصلاح المرافق العامة على رأسها قطاع الكهرباء الذي كبّد خزينة الدولة أكثر من 40 مليار دولار منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990 ، ولكن حتى الآن لا توجد نية سياسية للإصلاح خوفا من خسارة الشبكات التابعة لهم التي تغذ  المحسوبيات والزبائنية”. 
  2. تدعيم هذه الثقة مع الخارج أيضا لرفع العقوبات واتخاذ القرار الدولي بالدعم المالي. 

لكن تشكيل الحكومة في لبنان دونه عقبات كبيرة أهمها انتظار تسوية إقليمية تقوم بالضغط على الفرقاء اللبنانيين للقبول بتسوية معينة، حيث أنّ هناك رفضا من السعودية لأي حكومة يكون فيها حزب الله، وهذا بحد ذاته مشكلة فعلية، بوجه رئيس الحكومة المكلف، لأنّه من الصعب جدا أن تشكل حكومة في لبنان اليوم دون أن يكون فيها على الأقل شخص يسميه حزب الله .لذلك ان لم تحصل تسوية إقليمية وبعدها تمارس ضغوط دولية على السلطة السياسية لإقرار التدقيق الجنائي والقيام بالإصلاحات كما يفعل اليوم صندوق النقد الدولي والدول المانحة ، سيتجه الوضع الى انفجار اجتماعي وربما امني كذلك. 

 

بناء على هذا الوضع المأساوي، حذّرت مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان “ميشيل باشليه” من أن الوضع في لبنان يخرج بسرعة عن السيطرة، إثر تخبّط البلاد في أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخه الحديث. وأكدت “باشليه” أن بعض  اللبنانيين يواجهون خطر الموت بسبب هذه الأزمة حيث تآكلت قدرتهم الشرائية، فيما احتياطي الدولار لدى مصرف لبنان يكاد ان يتوقف عن القدرة على استيراد مواد حيوية مدعومة كالقمح والأدوية والوقود.

     نتيجة كل ذلك، يبدو المستقبل القريب سوداويا، نتيجة غياب حوكمة رشيدة، وبيئة أعمال جيّدة، خصوصا اذا تشكلت حكومة وفق المحاصصات السابقة، ومع نفس الطبقة السياسية، فإن ذلك لن يغير من الوضع المالي والاقتصادي، لأن عمق الأزمة الاقتصادية والمالية بكل تداعياتها الاجتماعية والمعيشية هي أكبر من قدرة لبنان على التحمّل والصمود، وان المؤشرات المالية والاقتصادية وحجم احتياطي مصرف لبنان يعكس حجم الأزمة الكبير، ومن هنا تنشأ الحاجة وتزداد إلى التمويل الخارجي. الذي بدوره غير متوافر حاليًّا بسبب الصراع الاقليمي وغياب الدعم الخليجي. 

من المرجح جرّاء ذلك ونتيجة تأثيرات أزمة كورونا وتأثيرات قانون قيصر المفروض على سوريا، أن تكون الأزمة الاقتصادية في لبنان أعمق وأطول من معظم الأزمات الاقتصادية، لجهة ازدياد  انكماش نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي اللبناني بالقيمة الحقيقية وارتفاع التضخم الذين سيؤديان إلى زيادة كبيرة في معدلات الفقرالى أكثر من60% من عدد السكان، ومن شأن ذلك أن يؤدي الى فقدان فرص العمل المنتجة، وانخفاض القدرة الشرائية الحقيقية، وتوقف التحويلات الخارجية ومن ثمّ ازدياد هجرة  اليد العاملة الماهرة التي تشكل خسارة اجتماعية واقتصادية كبيرة في الرأسمال البشري للبلد.

لذلك نرى أنّه من المتوقع أن يؤدي الوضع الحالي الى:

  •  تراجع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بشكل حاد ، وارتفاع معدل الديون عن  150% من الناتج المحلي، وهو أحد أعلى معدلات الدين في العالم.
  • ارتفاع التضخم الى معدلات تتجاوز الـ120%. وهذا  يؤثر على الفقراء والمحرومين وذوي الدخل الثابت بشكل كبير.
  •  انخفاض الودائع العربية والأجنبية وتوقف التدفقات النقدية ورؤوس الأموال الوافدة، إذ أنّ تحويلات المغتربين بدأت تتباطأ اعتبارا من 2011.
  •  تراجع احتياطات البنك المركزي واستنفاد احتياطي العملات الأجنبية لديه. 
  • تصاعد عجز ميزان المدفوعات وبالتالي عجز الميزانية. 
  • عدم قدرة محطات الكهرباء على مواصلة إنارة البلد.
  • عدم إيفاء المانحين الدوليين بالتزاماتهم وربطها بالإصلاحات.

بعد كل هذا نتساءل الى أين يتحه لبنان؟ وهل فعلًا وصلنا الى جهنم التي وعدنا بها  فخامة الرئيس، وماذا بقي من لبنان بعد دخوله هذا النفق المظلم؟.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى