رأيسياسةمحليات لبنانية

سليم الحص ظاهرة سياسية وطنية مزعجة في لبنان؟!)د.وجيه فانوس)

 

دكتور وجيه فانوس* – الحوارنيوز

 

لم ينل أحد في التّاريخين السّياسيّ والوطنيّ في لبنان، ما نال دولة رئيس الحكومة اللّبنانيّة الأسبق، الدكتور سليم الحصّ، من متابعات عديدة وكثيفة؛ تسامى بعضها في الإعجاب إلى ذرى سامقة من التّقدير والاحترام، وهبط بعضها الآخر إلى أن يكون إرجافا مستمرّا بإشاعة نبأ وفاته؛ حتى وصل الحال، مؤخّرا، إلى اختلاق حديث إفك، مفاده أنّ إحدى المستشفيات أبت استقبالا للرّئيس الحصّ في قسم الطّوارئ فيها.

برز دولة الرّئيس الدكتور سليم الحصّ، في ساحة رؤساء الحكومات في لبنان، منذ زهاء ست وأربعين سنة، بانميازات خاصّة به؛ ولعلّ من أبرز انميازاته، في هذا المجال، أنّه لم ينطلق في السّاحات السّياسيّة للبنان، الدّاخليَّة منها والإقليميّة والدّوليّة، من خبرة سياسيّة عمليّة على الإطلاق. كان كلّ المتوافر لديه، من زاد، ينبع من أبعاد علميّة وثقافة أكاديميّة شديدة العمق والاتّساع وموضوعيّة المناهج، بحكم عمله أستاذا جامعيّا، ومن خبرة إداريّة في “هيئة الرّقابة على المصارف”؛ وكذلك من مهامه مستشارا، ضمن تخصُصه، لدى مؤسّسات عربيّة ودوليّة. ولعلّ أفضل تمثيل لهذا الأمر برمّته، ما انتشر بين النّاس قاطبة، يوم جرى تكليفه في التّاسع من شهر كانون الأوّل (ديسمبر) من سنة 1976؛ أنّه الرّئيس الذي كسر حلقة “نادي رؤساء الحكومة” التقليديّة والصّامدة في لبنان.

 لم يمارس الرّئيس الحصّ، السّياسة، بالمفهوم التّقليديّ المتعارف عليه بين غالبيّة اللّبنانيين، والقائم على كثير من التّزلّم الشّخصيّ، والاحتماء بالانتماء إلى الطّائفة الدّينيّة أو أحد مذاهبها، أو الاختباء في أغوار انتماء جغرافيٍّ مناطقيٍّ؛ بقدر ما عاش الوطنيّة ورعاها بكلّ سلوكيّاته العامّة والخاصّة. ولطالما زكّى الرّئيس الحصّ ما هو وطنيّ على حساب ما كان له فيه مصلحة سياسيّة، مستجيبا للقيم الوطنيّة التي يرتئيها ومفاهيمها؛ إلى أن وصل الحال إلى مرحلة كان فيها رئيسا للوزراء، يقرّ مشروع قانون للانتخابات النّيابيّة، لم يتمكّن من تأمين معارضة أغلبيّة مجلس الوزراء له، بل عارضه هو شخصيَّاً بمفرده. والرّئيس الحصّ، كان سنة 2000، أوّل رئيس حكومة لبناني، بل الأوحد، الذي أدار، بحكم موقعه في رئاسة الحكومة، دورة انتخابات نيابيّة، كان هو من مرشّحيها، غير أنّه لم يحقّق الفوز الانتخابيّ فيها لشخصه.

عايش الدكتور سليم الحصّ وجوده في الشّأن السّياسيّ العام في لبنان، ضمن صراع رهيب يشبه، إلى حدّ كبير، الصّراعيّات (الدّراما) التي تحفل بها مسرحيّات “إسخيليوس” و”سوفوكليس” و”يوريبيدس” الإغريقيّة. كان محور الصّراع، في تجربة الحصّ، نِزال طاحن بين “الدّمقراطيّة الواعية” من جانب، وهي ههنا، “القضيّة”، و”الحريّة المطلقة” من جانب آخر، وهي ههنا، “الأزمة”. ولكم تكبّد الرّئيس مآسي هذا الصّراع؛ بل كم احتمل من خيبات انتصار “الحريّة المطلقة” على “الدّمقراطيّة الواعيّة”؛ وكم تجشّم عناء الصّبر على كلّ هذا، حرصا على مبدئيّة العمل الوطنيّ وصونا لما يمكن من سلامته. ومن الطّبيعي أن يتصرّف المرء مع “القضيّة”، على أنّها المبدأ الذي لا يمكن الفكاك منه؛ كما أنّه، من المفترض، أن يتصرّف مع “الأزمة”، على أنّها الأمر الذي لا بدّ من التّخلّص منه بالعمل على إنهائه.

اشتهر عن دولة الرّئيس الحصّ أنّ “في لبنان كثيرا من الحريّة وقليلا من الدّمقراطيّة”. ويذكر الدكتور الحصّ، في محاضرة له في الولايات المتّحدة الأميركيّة-ولاية أطلنطا، ألقاها سنة 1990، أنّ “من دلالات ضعف الدّيمقراطيّة في لبنان، أنّ نظام ما قبل الأزمة لم يكن ينطوي على قدر كاف من اللّيونة يمكّنه من التّجاوب مع الحدّ الأدنى من التّغيير المطلوب لاستباق الأزمة؛ وهذا برغم ما عرف به ذاك النّظام من إباحة للحريّات الفرديّة”.

تَمَكَّنَ سليم الحصّ من أن يكون رئيساً للحكومة اللبنانيَّة بنكهة خاصَّة به؛ ولعلَّ من أفضل ما يدلّ على هذه النَّكهة ويوضِّح حضورها وأبعادها، ذلك القول المشهور له: “يبقى المسؤول قويّا إلى حين يطلب شيئا لنفسه”. ولقد كَرَّسَ الرّئيس سليم الحصّ كلّ ما لديه من حكمة ورأي وقدرات خدمة للبنان، وسار على دروب عديدة تكاثرت أشواكها وتعاظم أذاها. يقول الحصّ في الصفحة 92 من كتابه “نافذة على المستقبل” (1981) “إنّ المؤامرات التي تدار على مسرح الأزمة اللّبنانية هي بعدد القوى الفاعلة فيها؛ ومن تفاعل هذه القوى وتصادمها، في مآربها ونشاطاتها ومناوراتها، يمكن رسم صورة لجانب من مأساة لبنان عنوانها: لعبة الأمم في لبنان”.

وقف سليم الحصّ، وسط هذا الخضم، وما معه من سلاح، سوى ضمير رؤيويّ حيّ، يواجه به إجرام الطّامعين وعسف المتحاربين وحجج المتخاصمين. رأى، وكما يذكر في الصّفحة 7، وما يليها، من كتابه “نقاط على الحروف”، (1978)، “أنّ توازن اللاَّ رُضى، هو توازن غير مستقرّ” وأنَّ “الإئتلاف التّوافقيّ لا يشكّل حلاّ دائما في ذاته”؛ والحلّ الحقّ يكون بالعمل باتّجاه “نظام دمقراطيٍّ سليم وفاعل؛ بمعنى الممارسة التي تعبّر عن رغبات الشّعب وطموحاته وتتجاوب مع تطلّعاته وحاجاته وتحافظ على قيمه ومبادئه وحريّاته”.

طَرَحَ سليم الحصّ أفكارا ومبادئ ورؤى وكلمات كانت  جميعها، بعيدة عن إيقاعات المزاج التّعبويّ العسكريّ والدّيماغوجيّ الذي كان يسعى، وقتذاك، وبكلّ انتهازيّة، إلى سيطرة على السّياسة والنّاس وتاليا على الوطن في لبنان. ولمَّا لم يكن لسليم الحصّ، بالمفهوم السّياسيّ التّقليديّ في لبنان، مؤسّسة حزبيّة أو عائليّة يعمل من خلالها، فقد جعل من حضوره الشّخصيِّ ومن رؤيته الوطنيّة، قوّة ومنطقا يحاور بهما المتشبّثين بأرض الوطن، ليصل معهم وبهم إلى سبل للخلاص. وتصدّى، سليم الحصّ، بمنطقه وحكمته وسعة رؤاه الوطنيّة وعمقها، للسّاعين إلى تبديد همّته وتفشيل مساعيه، بل وتغييب له عن ساحِ العمل الوطنيّ، حتّى وصل الأمر ببعض الجهات إلى العمل على تغييبه بالاغتيال الجسديّ.

تَعاوَنَ الحصّ مع المحيط العربيّ، والخارج الدّوليّ؛ وكان في تعامله، هذا، مثالا للرّفعة السّياسيّة في التّفاعل البنّاء، وأنموذجا للمقدرة على استخدام الدّبلوماسيّة الحصيفة في الذّود عن حياض الوطن والدّفع باتّجاه سلامته وتعزيز استقلاله. كان تفاعل الرّئيس الحصّ، ضمن المحيط السّياسيّ العربيّ، ينبع من وعي شديد الغور ورحب الأرجاء، لما يعيشه هذا المحيط من تعقيدات وتناقضات.

يُشْهَدُ لدولة الرّئيس الحصّ أنَّه رغم دقّة الأوضاع السّياسيّة التي عايشها، ورغم توتّر الأجواء العامّة التي رافقت معظم مراحل تولّيه رئاسة الحكومة في لبنان، لم يخادع أحدا ولم يستغفل أحدا ولم يتربّح من أيّ مشروع أو عمل أو مؤسّسة. ويشهد له، أيضا، أنّه طيلة وجوده في السّلطة، لم يسع إلى وساطة لأحد، ولم يسأل عن مكسب خاصّ لنفسه أو لقريب أو صديق أو غريب. انحصر كلّ هم الرّئيس الحصّ في قضية الوطن، وأساس أن يرقى المسؤول بهذا الوطن إلى أقصى ما يمكنه من طموحات وبكلّ ما يجب، وربما بأكثر ممّا يجب، من أمانة العمل ونزاهته.

اشتهر بين النَّاس، القول عن الرّئيس الحصّ أنّه يتصرَف وكأنّه رئيس لحكومة في بلد شديد الرّقيّ السّياسيّ؛ وليس، على الإطلاق وكأنّه في لبنان؛ الذي ما انفكّ يعاني ويلات الصّراعات والأزمات الدّاخليّة والخارجيّة. والواقع، فإنّ هذا القول سيف بحدّين جارحين؛ إذ قسم ممّن اعتمدوا هذا القول، كانوا من مؤيّدي نهج الرّئيس الحصّ والدّاعمين لرؤاه؛ همّهم مساندته في الوصول بلبنان إلى مصاف الدّول ذات الرّقيّ السّياسيّ السّامي. وثمَّة من تبنّى هذا القول، وأخذ به، لا ليدعم دولة الرّئيس الحصّ، بل ليحبط ما يقوم به الرّئيس من جهود في هذا المجال؛ مؤكّدا أنّ ما ينهج عليه الرّئيس الحصّ، هو من خارج الواقع والمنطق ومفاهيم المصالح المباشرة وتوابعها في الشّأن السّياسيّ اللّبناني.

ظلّ سليم الحصّ، يعاين هذه الصّراعيّة ويعايشها، طيلة انشغاله العمليّ في الشّأن اللّبنانيّ. كان يزهو بما تحقّق عبره، من انتصار لـ”الوطنيّ” على حساب “السّياسيّ”؛ ويكابد الحسرة عند اكتساح “السّياسيّ” لـ”الوطنيّ”. ويوم رأى، الرّئيس الحصّ، أنّ مبادئ “الوطنيّ” يجري اكتساحها، إلى حدّ كبير، بغارات ما هو “سياسيّ” ونزواته، قرّر، بكلّ وضوح وصفاء، اعتزال العمل السّياسيّ؛ والتّفرّغ بكليّته للشّأن الوطنيّ. انسحب سليم الحصّ، من ساحة العمل السّياسيّ؛ وكأنّه بطل مسرحيّة إغريقيّة عاصفة، آثر فيها انتصارا لجوهر “القضيّة” أمام انكسار في وجه نهج سياسيّ فيها.

صحيح أنّ الرّئيس سليم الحصّ أعلن، منذ سنة 2000، انكفاءه عن السّياسة اليوميّة في لبنان، وأنّه سيبقى عاملا ناشطا في المجالات الوطنيّة الأساس؛ وها إنّه، منذّ ذلك العهد، ينهض، بشموخ كرامة حضوره، صخرة وطنيّة صلبة وصامدة، ومنهلا لمواقف العزّة والكرامة، وحصنا للباحثين عن مناهج لعمل وطنيّ سليم ورؤية سياسيّة حصيفة؛ في وجه أعتى رياح خراب للاستغلال الوطنيّ والامتهان السّياسيّ، عرفها التّاريخ اللّبنانيّ المعاصر. وفي كلّ هذا، فإنّ الرّئيس لا يفتأ ملازما دارته، تلك الشّريفة والمباركة، في الطّابق السّادس ضمن بناية سكنيّة متواضعة في منطقة عائشة بكّار من بيروت؛ يفرح بمن يزوره، كما يأنس إلى كلّ من يلوذ إلى رعايته الفكريّة ويتحصّن بخبرته وعمق نفاذ بصيرته في شؤون الوطن وشجونه.

ولعلّ الرّئيس سليم الحصّ، الصّامد، بصمته الهادر؛ والحاسم، في حضوره الهادئ الطّاغي؛ والقوي، بجبروت نظافة سياسته، كفّا وممارسة؛ والصّنديد الحازم، في مضاء رؤيته الوطنيّة؛ ما برح يشكّل تلك الشّوكة الجارحة، بل ربما القاتلة، في حناجر كثيرين، من مستغلّي السّياسة الحاليين، وجماعات مخادعي الوطن وناسه؛ من زبانيّة البغي والفجور. ولذا، يبدو أنّه ما عاد لهؤلاء وزبانيّتهم من أهل السّوء، سوى أن يغيب سليم الحصّ، شخصا وأنموذجا وفكرة، عن الوجود اللّبنانيّ؛ وصارت أمانيهم السّوداء هذه، عاجزة حتّى عن أن تكتم وجودها؛ خاصّة وأنّها تنبثق من توجّهات وضيعة سياسيّا وحقيرة وطنيّا، لطالما تلفّحت ببغض يائس ولؤم خسيس. وما كان لهذه الأماني السّوداء، إلّا أن تلقى، في كل مرّة تطلّ برأسها فيها، مصير فقاقيع الصّابون؛ فتطفو على سطح وجودهم القميء، ساعية إلى إشاعة وفاة للرّئيس الحصّ، بين الفينة والأخرى؛ ومختلقة، مؤخَّرا، أخبار بؤس وشقاء وضرّاء، سداها بغض للرّئيس الحصّ، ولحمتها حقد على صفاء وطنيّته، ومداها حسد من نظافة كفّه وسموّ وجدانه.

*رئيس ندوة العمل الوطني – لبنان

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى