رأيسياسةمحليات لبنانية

ساسَةُ لُبنان يغتالون الطّائفيّة السياسيّة ويقتلون الوطن(د.وجيه فانوس)

د. وجيه فانوس* – الحوارنيوز خاص

يّرِدُ في البند (ح)، من مقدّمة الدّستور اللّبناني، ما منطوقه الحرفيّ، أنّ “إلغاء الطّائفيّة السّياسيّة هدف وطنيّ أساسيّ”؛ غير أنّ في هذا البند، ما يؤكّد كذلك، أنّ هذا الإلغاء، غير مُنْجَزٍ أو معمول به حتّى اللّحظة؛ إذ، ووفاقا لما يشير إليه الدّستور، “يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطّة مرحليّة”. يفيد الواقع المعيش في لبنان. أنّ هذا الواقع الدّستوريّ، أدّى إلى أمرين أساسين، فمن جهة أولى، أن تكون مبادئ التّقسيم الطّائفيّ للسّلطات الدّستوريّة والمناصب الإداريّة، ماثلة بقوّة في اعتماد النّظام السّياسيّ، في الجمهوريّة اللّبنانيّة، بأن يضمن تمثيل مجموعات محدّدة من اللّبنانيين؛ كما قاد، من جهة ثانية، إلى أنّ فيه ما يساهم، أيضا، في إحداث إرباك فجائعيّ، لكثير من مجالات اتّخاذ القرارات الأساس في شؤون البلد. ولطالما كان بيان هذا الأمر، يشير إلى ما يسود الحال السّياسيّة، من خلافٍ؛ قد يكون على تقاسم الحصص الطّائفيّة في الحكومة، أو في مجال تمثيل الطّوائف الدّينيّة عبر اعتماد معيّن للقانون الانتخابيّ، أو يظهر في تعيين طائفة لمدير عام أو أيّ موظّف إداريّ آخر، ولو كان “ناطور أحراج”. ولطالما تسبّب، هذا الحال الطّائفيّ، في نشوء أوضاع، اندفع فيها القيّمون الدّينيّون أو الرّوحيّون الأساس، في بعض الطّوائف الدّينيّة، إلى دعم موظّف كبير علناً، رغم ما قد يعتور سمعة هذا الموظّف العامّة من شبهات؛ والانجرار، تالياً، إلى تبيان دفاعهم عنه، باعتبارهم له ممثّلاً للطّائفة الدّينيّة التي هم قيّمون عليها.

        تبدو مبادئ الطّائفيّة السّياسيّة ومفاهيمها، كما ما يظهرها الواقع المعيش في لبنان، وكأنّها الأساسُ المتين والحرز المنيع والجوهر المحفوظ والكنز المصان، في النّظام اللّبناني؛ بل توحي وكأنّها محور وجود هذا البلد، ومرتكز منهج تعامل ساسته وإداريّيه وناسه فيما بينهم. تعني الطَّائفيَّة، ههنا، توزُّع اللّبنانيين على طائفتين أساسين؛ إحداهما تضمُّ المسيحيين منهم، والأخرى، تضمُّ المسلمين. واقع الحال، ما مِن لبنانيّ، منذ ما قبل بدء زمن الاقتتال الدّامي بين اللّبنانيين، سنة 1974، وما بعده، إلاّ وقد عاش وعايش، قابلاً أو رافضاً، فلسفة قياس توزيع المناصب الرّسمية، ومعها أعطيات الدّولة للمؤسّسات والهيئات وحتّى الأفراد، على منهج ما اصطلح على تسميته “6 و6 مكرّر”. نهض هذا المنهج، على مفهوم الاعتماد الوطنيّ الرّسمي لسياسة غلبة نسبة حصّة الجانب الطّائفي المسيحيَ، على حصّة سواه من الطّوائف الدّينية الأخرى في الوطن، بنسبة 5/6؛ وما من لبنانيّ اليوم، إلا ويعيش وفاقاً لدستور “وثيقة الوفاق الوطني”، الذي كان إقراره سنة 1989، إلاّ ويشهد، مرغماً أو  راضياً، أنّ المساواة بين المسيحيين والمسلمين، هي أساس الوجود الوطنيّ اللّبناني. تشمل، هذه المساواة، مستوى توزيع التّمثيل النّيابي، وكذلك مجالات تعيين المدراء العامّين وسواهم من أصحاب المسؤوليّات الأساس في إدارات الدّولة وقواها العسكريَّة والأمنيَّة والقضائيّة، وسائر مرافقها؛ وكذلك هو الحال في مساعي القوم، للحصول على مساعدات من مؤسّسات الدّولة وهباتها وأعطياتها، وغير ذلك من الحقوق الوطنيّة للشَّعب في خيراتها.

        لم يتمكّن اللّبنانيُّون، خلال 113 سنة، رغم محاولات تنظيريّة لبعض الأحزاب في لبنان، ورغم كتابات ونقاشات لا تحصى، لكثير من أهل افكر والرّأي بينهم، أي منذ أن انتهى الحكم العثمانيّ في بلادهم، سنة 1918، وإلى اليوم، في آخر سنة 2021، من القيام بخروج عملانيّ، أو فعليّ، من ربقة الثّقافة الطّائفيَّة السّياسيّة على الإطلاق. يبدو، واقعا، أنّ هذه الثّقافة قد صارت، لدى الغالبيّة العظمى منهم، ورغم كثير من تعابيرهم في التّأفّف منها أو الرّفض لها، بمثابة المعتقد الإيمانيّ، الذي قد لا يجوز، البتّة الكُفر به، كما أنه قد يصعب التّحلّل من بعض طقوسه وقيمه.

        لقد سبق أن عبَّر، شاعر الشَّعب، عمر الزِّعنِّي، عن هذا المفهوم الواقعيّ والعمليّ للثقافة للوطنيَّة في لبنان؛ بقصيدة له أنشدها، في احتفال انتخابيٍّ، أقامه “حزب النجَّادة”، إثر انتهاء أحداث التّقاتل المحليِّ بين اللّبنانيين سنة 1958، أو ما عرف باسم “الثَّورة”؛ فقال:

نُصْ بْنُصْ نُصْ بْنُصْ/أَفْضَلْ حَلِّهْ نُصْ بْنُصْ

هِيكْ بْتُرْضِي كِلّ النَّاسْ/وْإللي بْيِحكِي قُولُّهْ هُصْ

نِحنا وإِنتو بِالمِيدانْ/شِرْكِهْ وْأَصْحابْ وْأُخْوانْ

لازِمْ نُقْسُمْ بِالمِيزانْ/خَيْراتْ وْنِعَمْ لُبْنانْ

مَا ناسْ تُقْطُفْ زَهْرِتْها/وْناسْ بْشَوْكِتْها تْغُصْ

كُلْ طايْفَهْ تَعْمِلْ حْسابْها/هِييّ أَدْرى بِشَبابْها

بِالكَفاءَةْ وْأَصْحابْها/هِييّ بْتِنْتْخِبْ نُوَّابْها

مَا “البَسْطَةْ” بْتِنْتْخِبْ شادِرْ/وِ”الجِمّيّزِهْ” فَوْزي الحًصْ

لُبْنانْ إِلُهْ جْناحِينْ/مِتْلْ العِينْ قْبالْ العِينْ

مِتْلْ الطَّيرْ بِجْناحِينْ/لازِمْ نْحافِظْ عَا الإِتْنِيْنْ

ما جْناحْ نِفْرِدْ رِيشُهْ/وِالتَّانِي رِيشُو نْقُصْ

        الملاحظ، ههنا، أنّ ما كان يدعو له عمر الزّعنِّي، سنة 1958، كان شراكة بين المسيحيين، بحكم طوائفهم الدّينيّة، وقد مثَّلهم بأهل منطقة “الجمَّيزة”، ونائبها “جوزف شادر”؛ والمسلمين، بحكم طوائفهم الدّينيّة، كذلك، وقد مثَّلهم بأهل منطقة “البسطة”، ونائبها “فوزي الحُص”. ولقد ارتبطت هذه الدّعوة، مِن عمر الزِّعني، بمفهوم لقسمة محسوبة بين طوائف هاتين الدّيانتين، مثَّل عليها بقوله “لازم نقسم بالميزان”؛ غير أنّ “قسمة الميزان”، هذه، وإنْ لم ترتبط، في دعوة الزّعنّي، بذِكر لأيّ تساوٍ بين كفتي هذا الميزان، غير أنّها تؤكّد الالتزام بأصول للقسمة، متَّبعة بين اللّبنانيين ومعترف بها من قِبلهم، هي نسبة 6/5، لصالح المسيحيين. ولعلَّ عمر الزَّعني انطلق، يومئذ، في وضع قصيدته هذه، من شعارات وطنيَّة، كان قد أطلقها، دولة الرّئيس صائب سلام، إثر إنهاء أحداث التّقاتل المحليِّ بين اللبنانيين سنة 1958؛ هي شعارات “لا غالب ولا مغلوب”، و”لبنان واحد لا لبنانان”، و”التَّفهم والتَّفاهم”. والملاحظ، في هذا المجال، أنّ مضامين هذه الشَّعارات الثَّلاثة، لا تتطرّق، بدورها، إلى مبدأ للمساواة أو مفهوم لها؛ بقدر ما تدعو إلى تركيز على الوحدة الوطنيَّة؛ بقبول، توافقيٍّ، لتقاسم معيَّنٍ للحُصص الوطنيَّة.

        من الجليّ أنّ هذه الثّقافة الطَّائفيّة السّياسيّة لم تشهد أيّ تغيّر عملانيّ لها، لدى اللّبنانيين؛ بشهادة أنَّ دعوة الزِّعني، سنة 1958، إلى التزام كلّ طائفة انتخاب من تراه مناسباً من أبنائها لعضويّة المجلس النِّيابيّ؛ قد تكون صورةً مجسَّمة لما بات يعرف، وبدءًا من سنة 2005، أي بعد 47 سنة من وضع قصيدة الزّعنّي، بـ”مشروع انتخابات اللّقاء الأرثذوكسي”؛ وهو المشروع “الذي يطالب بانتخاب الطَّوائف الدّينية لممثّليها في المجلس النّيابي. إنّه مشروع القانون الذي وصفه، نائب رئيس المجلس النّيابي اللُّبناني، النَّائب الأرثذوكسِّي، الأستاذ إلياس الفرزلي، وبكلّ وضوح، بـ”مشروع يؤمِّن المناصفة، باعتراف الجميع”. ولعلَّ مبدأ الشَّراكة بين الطَّوائف، الذي نادى به الزّعنِّي، في خمسينات القرن العشرين، لم يختلف كثيراً، رغم مرور 53 سنة عليه، عن دعوة “الشِّركة والمحبَّة”، التي ما برح ينادي بها غبطة البطريرك الماروني مار بشارة الرَّاعي؛ منذ انتخابه بطريركاً للطَّائفة المارونيَّة سنة 2011.

        لئن كان لهذا العرضِ أن يُظهر، من جهة أولى، رسوخ الأساس الثّقافيّ السَياسيَ، لمسؤوليّة اعتماد مبدأ الطّائفيّة السّياسيّة في عيش اللّبنانيين كيانهم الوطنيّ؛ فإنّه، من جهة أخرى، يُشير إلى المسؤوليّات التّنفيذيّة الوطنيّة المباشرة، الملقاة على عاتق قيادة كلّ طائفة دينيّة في هذا البلد في تحقيقه؛ غير أنّه، يظهر، كذلك، عبر التّفعيل العملانيّ لهذه المسؤوليّة، البُعد الوطنيّ المظلوميّ والتّعسّفيّ، الذي يطال الطّائفيّة السّياسيّة، بصورة عامّة، وقياداتها الدّينيّة بشكل خاص.

        لئن كان هذا الظّاهر السّاطع، لواقعُ الحال الوطنيّ في لبنان، يشهدُ، منذ سنة 1920، وإلى اليوم، عشية استقبال سنة 2022، أي خلال أكثر من قرن من الزّمن، المُوَاظَبَة على التّمسّك العميق باستمرار تجذّر ثقافة الطّائفيّة السّياسيّة في لبنان؛ فإنّ حقيقة الفاعليّة العمليّة لهذا التّمسّك، تؤكّد بكلّ جلاء، أمرين أساسين، أحدهما أنّ هذا التمسّك ليس سوى مظهر لغباء ثقافيّ شامل؛ وثانيهما، أن لا فاعليّة عمليّة لثقافة الطّائفيّة السّياسيّة في لبنان، بقدر ما أنّ أهل السّياسة، من أفراد أو قيادة جماعات، في هذا البلد، إذ يدّعون سّهرهم المضني للمحافظة على الإيمان بدستوريَّة مراعاة الطّائفيّة السّياسيّة، فإنّهم لا يكتفون باغتيالهم المبطّن لهذا الإيمان؛ فإنّهم يعملون، بكلّ كدّ يتمكنون منه، لممارسة ارتداد إيمانيّ عليه، ساعين بكل طاقاتهم إلى محق وجوده العملي وإعدام أيّ فاعليّة له.

        إنّ الذين يديرون الشّوون السّياسيّة للطوائف في لبنان، ويتكلّمون باسمها، محدّدين مساراتها السّياسيّة والمنتفعين من مكاسبها، هم سياسيُّون من أهل هذه الطّوائف؛ ولكلّ واحد منهم، ضمن نطاق طائفته، مصالحه الخاصّة ورؤاه المختلفة، وربّما المتعارضة مع رؤى سواه من أهل هذه الطّائفة. من هنا، فإن الفيصل في إدارة شؤون الطّائفة، يصبح ضمن هذا الواقع، مناطا بالأقوى من سياسييها؛ وتحديدا، الأكثر قدرة ونفوذا من بينهم. وهذا يعني، أنّ ما يعيشه اللّبنانيّون، منذ 78 سنة، من الإيمان بثقافة الطّائفيّة السّياسيّة؛ لم يكن، في واقع الأمر، إلاّ ممارسة لسياسة طائفيّة، لا علاقة لها على الإطلاق بالطّائفيّة السّياسيّة. إنّها سياسة مصالح فرد أو مجموعة، تتجلبب برداء طائفيّ لتحصيل مراد، لهذا الفرد أو تلك المجموعة، من الأمور. واقع الحال، أنّه ما مِن طائفة دينيّة في لبنان، وبكلّ ما تضمّ من توجّهات مذهبيّة، تتبنّى موقفاً موحّدا تجاه معظم الأمور أو القضايا التي تواجهها؛ بل ثمّة تنافضات وتباينات كثيرة بين ناسها في هذا المجال؛ وهذا يعني أن لا إمكانيّة فعليّة لممارسة الطّائفيّة السّياسيّة حقّا؛ الأمر الذي يفسح المجال، حتّى أقصاه، لممارسة سياسيّة، من قبل أناس محدّدين من أهل الطّائفة، لتحقيق رؤراهم ومصالحهم من دون سواهم، باسم الطّائفة؛ وفي أحيان عديدة، على خلاف مع مجموعات متنوّعة من ناسها.

        تُختصر الطّائفة الدّينية، سياسيّا في لبنان، بقيادات سياسيّة معيّنة لها؛ وهذا يشير بجلاء إلى أنّ ما يعتمد في لبنان، سياسة طائفيّة، ليس في حقيقته طائفيّة سياسيّة على الإطلاق. وإذا ما كان هذا الواقع لثقافة الطّائفيّة السّياسيَّة، قد أثبت تخاذله وعدم فاعليّته العملانيّة، من النّاحية الوطنيّة؛ وكشف  أنّه مجرّد ستار خداع لإنجاز مصالح أفراد أو جماعات، يعملون على اختصار الطّائفة بوجودهم وتجاهل سواهم من أبنائها؛ وأنّهم المسؤولون عمّا آلت إليه أمور الوطن وشؤونه مِن فشل ودمار وبؤس؛ فهذا يؤكّد أن لا جدوى وطنيّة من أيّ انجرار، ولو وراء ذرّة من إيمان بثقافة الطّائفيّة السّياسيّة في لبنان؛ ولا في أيّ إذعان لتحقيق توجّهات السّياسيين، الذين يدّعون تمثيلها واتّخاذ القرارات بشأنها ويقرّرون مصير الشّعب والوطن.

        مع هذا الفشل الذّريع لثقافة الطّائفيّة السّياسيّة في لبنان، ومع هذا البؤس الخائب الذي وصل إليه الوطن، بسياسة أدعياء حماة الطّوائف؛ لا بدّ، تاليا، من الاعتراف الصّادِق، بل السّافر والصّافي، نظريّا وعمليّا، على حدّ سواء، بأنّ لا مصلحة وطنيّة للّبنانيين في الإيمان بالثّقافة الطّائفيّة، ولا بقياداتها؛ فمصلحتهم الوطنيّة، بأبعادها الواقعيّة ومجالاتها العمليّة، في أن يكونوا مجرّد لبنانيين؛ تجمعهم رؤى المواطنة الحقّة وحدها.

        إنّ ما يتعاور، حاليّاً، على لبنان من مآس مفجعة، وخسائر فادحة، ونكبات غير مسبوقة، لا يقتصر على طائفة من دون سواها؛ ولذا فلا يمكن اعتماد المعيار الطَّائفي السّياسي في هذا المجال؛ فهذه المآسي، وما يلحق بها من خسائر ويتبعها من نكبات، تطال الوطن برمَّتهِ، بغضّ النّظر عن أيّ انتماء طائفيّ أو آخر مناطقيّ. هي، إذاً، أرزاء وطنيّة شاملة، تطال جميع أهل الوطن وناسه؛ مؤكّدة، بوجودها، ضرورة وعي ثقافة المواطنة واعتمادها؛ بديلا عمليّا ناجعا، من ثقافة الطّائفيّة السّياسيّة، التي أثبتت عجزها، وبرهنت عن قابليّة كبرى لسوء استغلالها والاستهتار باستخدامها، في مجالات الصّالح الوطنيّ العام؛ ويكون، تاليا، في هذا البديل، القاضي باعتماد المواطنة، التّطبيق العمليّ للبند (ح) من مقدّمة الدّستور اللّبناني، الذي ينصّ على أنّ “إلغاء الطّائفيّة السّياسيّة هدف وطنيّ أساسيّ”.

*رئيس ندوة العمل الوطني – لبنان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى