إقتصادمصارف

خلفيات تقرير صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية: عزل لبنان عن النظام المصرفي العالمي!

 

الحوارنيوز – خاص
تتصاعد الضغوط الأميركية على لبنان*، وهي لم تعد تقتصر على المقاومة ‏أو حلفائها، بل أصبحت "داخل البيت" الأميركي. فبدت لافتة أمس تهديدات ‏أميركية لمصرف لبنان – لا لحاكمه رياض سلامة المحمي من واشنطن – ‏عبر صحيفة "وول ستريت جورنال". العقوبات – إن فرضتها الولايات ‏المتحدة – ليست عقوبات على المصرف المركزي، بل إعلان حربٍ على ‏لبنان بنيّة تدمير اقتصاده الهش أصلاً.


فمعاقبة المصرف المركزي تعني ‏عزل لبنان نهائياً عن النظام المالي العالمي.
يمثّل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في نظر الولايات المتحدة الأميركية، "الثقة"، وممنوع تحميله مسؤولية ‏الانهيار المالي والنقدي في البلد. الكلام قالته السفيرة الأميركية لدى لبنان، دوروثي شيّا في حزيران الماضي خلال ‏مُقابلةٍ لها مع قناة "أو تي في"، مُعتبرةً ردّاً على سؤال حول دور سلامة أنّه "لا يصحّ اتّخاذ أي شخص أو مؤسسة ‏ككبش فداء عن انهيار لبنان الاقتصادي"، وأكّدت أنّه يحظى "بثقة كبيرة في المجتمع المالي الدولي". لم تكتف شيا ‏بـ"إعطاء رأيها" بسلامة، بل استنفرت كلّ وسائلها الدفاعية بمُجرّد أن فُتح موضوع إقالته، لتمنع المسّ به. زارت ‏رئيس حكومة تصريف الأعمال، حسّان دياب، مُعبّرةً بكلّ وضوح عن رفض بلادها استبدال سلامة بحاكم مصرف ‏مركزي آخر. لذلك، حين تنشر "وول ستريت جورنال" تقريراً بعنوان "مصرف لبنان يُؤجّج مخاوف جدّية من ‏الفساد"، يكون ذلك "مؤشّراً" إلى أنّ الضغوط الأميركية على لبنان تتجه إلى المزيد من التشدد. فالمقصود هنا ليس ‏سلامة، ثقة الأميركيين ووديعتهم الاولى في لبنان، بل المصرف المركزي كمؤسسة‎.‎


‎"‎وول ستريت جورنال" هي الصحيفة التي نشرت خبر فرض عقوبات على رئيس التيار الوطني الحرّ، النائب جبران ‏باسيل، قبل ساعات من إعلان القرار رسمياً. يستحوذ عليها "قطب الإعلام"، روبرت مردوخ، المالك أيضاً لتلفزيون ‏‏"فوكس نيوز". مردوخ، الأسترالي الأصل، يُصنّف في السياسة يمينياً، ويدعم معنوياً ومادياً حملات الحزب ‏الجمهوري الأميركي. نَشرُ "وول ستريت جورنال" للتقرير عن مصرف لبنان، ليس أمراً عابراً، ولا يُمكن إلّا التعامل ‏معه كـ"جرس إنذار"، وتهديد جدّي. فالمقال نفسه اعتبر أنّ "التهديد بعقوبات مُحتملة، خطوة عادةً ما تُنفّذها واشنطن ‏تجاه أعدائها، ككوريا الشمالية وإيران وفنزويلا"، ولكنّ الولايات المتحدة قرّرت استغلال "حاجة لبنان الماسّة إلى ‏التمويل الطارئ، للمطالبة بالتدقيق الجنائي أملاً في الكشف عن عمليات المصرف المركزي الغامضة". تعترف ‏الصحيفة هنا بأنّ واشنطن تستغل الأزمة اللبنانية، لا بل تعمل على تأجيجها، بهدف انتزاع مكاسب سياسية. ويُسرّب ‏‏"مسؤولون أميركيون" معلومات عن أنّه لن تتم الموافقة على أي "خطة إنقاذ من دون اعتماد البرنامج الذي يُريده ‏صندوق النقد الدولي. أزمة لبنان توفّر فرصة فريدة لاستخدام الدبلوماسية المالية لكبح نفوذ حزب الله". وينقل التقرير ‏عن "مسؤولين ودبلوماسيين أميركيين وغربيين" أنّ الضغوط على المصرف المركزي "في إطار حملة دولية ‏لمحاربة حزب الله، المدعوم من إيران، ومكافحة الفساد، وتخفيف حدّة الأزمة الاقتصادية والسياسية"، مُتهمين رياض ‏سلامة "بعرقلة التدقيق الجنائي، بالتعاون مع جهات حكومية مُرتبطة مع حزب الله‎".


بخُبثٍ، اجتزأ التقرير من خطاب الأمين العام لحزب الله، السيّد حسن نصر الله حين أطلّ موضحاً عدم وجود علاقة بين ‏النظام المصرفي اللبناني وحزب الله، نافياً أن يكون الأخير يتسبّب في الضغط على الليرة وخلق أزمة دولار في ‏السوق، لأنّ "حزب الله يأتي بالدولارات إلى لبنان". فاستخدمت "وول ستريت جورنال" هذه العبارة لإيهام الرأي ‏العام الغربي بأنّ "سلامة كان على علمٍ بأنشطة حزب الله المالية"، رغم الإشارة إلى أنّ "سلامة أغلق بعض الحسابات ‏التابعة لحزب الله بناءً على طلب المسؤولين الأميركيين‎".


طلبت الصحيفة مقابلة سلامة إلا أنّه رفض ذلك، فنقلت عن "المسؤولين الغربيين" أنّ ضعف إشراف البنك المركزي ‏على النظام المصرفي "ساعد في تعزيز الفساد المُستشري". وقد اختارت "أولى الضحايا"، العضو السابق في لجنة ‏الرقابة على المصارف، أحمد صفا، مُتهمةً إياه بأنّه "كان يُسيّر أعمال حزب الله المالية‎".


التهديدات الأميركية لمصرف لبنان لا يُفترض أن "تُفرح" اللبنانيين المُتضررين من سياسات رياض سلامة التدميرية ‏للمُجتمع والاقتصاد، فمُحرّك واشنطن لم يكن يوماً "مُكافحة الفساد"، لا عبر العقوبات التي تفرضها ولا بالتقارير ‏الإعلامية التي تعاقدت مع قناتَي "ال بي سي" و"ام تي في" لتنشرها. ما هي معايير الفساد التي تعتمدها الولايات ‏المتحدة؟ لماذا هدّدت الحكومة بوقف إقراضها إن أقالت سلامة؟ ألم تكن على اطلاع وثيق على سياسات مصرف لبنان ‏والألاعيب المالية التي ينتهجها، حتى تفاجأت بها، علماً بأنّه لم يبخل عليها يوماً – ولا أي من المصارف التجارية – ‏بمعلومات حول زبائن "مُشتبه فيهم" أميركياً؟‎


ما تقوم به الولايات المتحدة عبارةٌ عن مشروع خطير، وهي "تُبرّر" قرارها بأنّ "المنظومة الحالية تآخت مع حزب ‏الله إلى درجة أنّها لا تصلح لمواجهته"، لذلك لا حلّ أمامها سوى بترك لبنان ينهار بشكل تامّ، علّها تستطيع فرض ‏نظامٍ جديد وانتقاء "مُمثلين" جُدد لها، بعد أن انتهت "مهمة" المسؤولين الحاليين. هذا الكلام عبّرت عنه مؤخراً ‏دوروثي شيا أمام عددٍ من الأشخاص، من دون أن يُقنعها كلام بعضهم بأنّ "نسبة تأثّر حزب الله من كلّ تلك ‏الضغوطات لا تتعدّى الـ10%، لما لديه من قدرات اكتفاء ذاتي‎".


الرسالة الأميركية لا تبدو موجهة ضد رياض سلامة، بل هي موجهة ضد لبنان. ومن غير المستبعد أن تكون في إطار ‏التنافس الأميركي – الفرنسي على وراثة سلامة في حاكمية مصرف لبنان، وتهويل بقدرة واشنطن على فرض عقوبات ‏شاملة على لبنان، عبر معاقبة مصرف لبنان (لا حاكمه، لأن معاقبة سلامة تنتهي مفاعيلها "القانونية" العامة، لا ‏الشخصية، بإقالته وتعيين بديل له‎).‎

ويوم أمس، كان يوم رياض سلامة في الإعلام الغربي. فعدا عن "وول ستريت جورنال"، شنّت صحيفة "لو ‏موند" الفرنسية هجوماً عليه، عبر نشرها تقريراً بعنوان: "مصرف لبنان، دولة ضمن الدولة لا يُمكن المسّ بها". ‏يأتي التقرير بعد زيارة سلامة باريس لمدّة أسبوع، وإشاعته – عبر مُقرّبين – أجواءَ عن موافقته على مُباشرة ‏المصرف المركزي الفرنسي تدقيقاً جنائياً في حسابات مصرف لبنان. نفى مقال "لو موند" هذه المعلومة، مؤكداً ‏أنّ "بنك فرنسا لا ينوي القيام بأي تدقيق، وهو مُلتزم فقط بتقديم المساعدة التقنية بصفته طرفاً ثالثاً موثوقاً به". ‏وكشفت الصحيفة الفرنسية، بعد اطلاعها على تقرير شركتي "ديلويت" و"ارنست اند يونغ" لسنة 2018، زيادة ‏‏"مشبوهة في أصول مصرف لبنان بقيمة 6 مليارات دولار بسبب إجراءات حسابية مشكوك فيها"، وأنّ المُدققَين ‏لم يكونا "مُخوّلين الاطلاع على احتياطي الذهب الذي يملكه مصرف لبنان". تصف الصحيفة التدقيق الجنائي بأنّه ‏‏"عنصر أساسي لإنقاذ لبنان اقتصادياً، ولكنّه يواجه خطر عدم إبصار النور". وتُضيف مصادر فرنسية ‏لـ"الأخبار" أنّ رياض سلامة "لا يوافق على تدقيق خارجي، وهو يدّعي تعامله مع شركات تدقيق تشهد على دقّة ‏حساباته، وهذا غير صحيح. مصرف لبنان لا يتّسم بالشفافية، وسوابقه تدفع الجهات الدولية وصندوق النقد إلى ‏طلب التدقيق الجنائي الخارجي". أما بالنسبة إلى بنك فرنسا المركزي، "فتقديمه المساعدة لا يُعتبر تدقيقاً‎".‎

لا يُنكر مُقرّبون من سلامة "الفيتو" الفرنسي عليه، ولكنّهم يربطون بين ما نشرته "لو موند" وأحد مالكيها، ماثيو ‏بيغاس، الذي كان مُدير "لازار" في فرنسا حتى استقالته عام 2019. بصرف النظر عن الخلفيات، تؤكد معلومات ‏‏"الأخبار" أنّ سلامة خلال زيارته فرنسا "لم يلتق أي مسؤول مالي له علاقة بالملفّ اللبناني"، فالحاكم "فقد ثقة ‏الجهات الدولية به، التي وضعت مواصفات الحاكم الجديد، بأن لا يملك طموحاً سياسياً، وأن يكون مُطلعاً على ‏تفاصيل الإدارة اللبنانية، ويُزوّد الجهات الدولية بالتقارير المالية المطلوبة. والاسم أصبح جاهزاً". التدخل في ‏قرار على هذا القدر من الأهمية الاستراتيجية لا يتوقّف على اختيار حاكم المصرف المركزي، بل يتعدّاه إلى ‏‏"وضع خطّة جديدة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، على الحاكم الجديد أن يُنفّذها". القرار الخارجي مُتّخذ بعدم ‏‏"إقراض لبنان حتى ولو شكّل سعد الحريري حكومته، فالمطلوب تنازل سياسي من جانب حزب الله، وإجراء ‏التدقيق الجنائي‎".
من ناحية أخرى، دعا رئيس مجلس النواب نبيه برّي اللجان النيابية المشتركة إلى جلسة غداً لدرس موضوع دعم ‏المحروقات والقمح والمواد الغذائية والدواء وتخفيض الاحتياط الإلزامي، بالتزامن مع الجلسة التي يعقدها المجلس ‏المركزي لمصرف لبنان في اليوم نفسه، لمناقشة آليات الدعم في المرحلة المقبلة‎.‎
*نقلا عن صحيفة الأخبار اللبنانية في عددها الصادر اليوم الثلاثاء الواقع فيه  1 كانون الاول 2020

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى