منوعات

حمار الفلَّاح.. وديون العالم الثالث

 


الديون التي تتراكم على العالم الثالث، بلغت أرقاماً فلكيَّة، وجعلت من دول هذا العالم المسكين أجراماً تدور في فلك الدائنين من أصحاب الكروش العامرة، الذين يتربَّعون على المقاعد المُريحة، في ناطحات السحاب.

في البداية، كان لدوران هذه الأجرام الضخمة، فائدة هائلة لأصحاب الناطحات، الذين كان باستطاعتهم نطح كل من تسول له نفسه، التوقف عن الدوران بالدفع الذاتي!

وكان أصحاب الناطحات يتصوَّرون أن سكان هذه الأجرام، من نوع الإنسان الآلي(الروبات) الذي يعمل بلا كلل، ويُنَفِّذ بلا اعتراض!

في البداية كان المشهد رائعاً بالنسبة لأصحاب الناطحات، عربات فضائيَّة مُمَوَّهة، تحط وتفرغ خيرات لا حصر لها، يقوم بإنتاجها وتوضيبها وتحميلها عدد معقول من "الروبات" يحتاج ليتحرَّك، وفقاً للخطَّة المدروسة، لكميَّة مدروسة من الطاقة. والأجرام تدور في فلكها وفقاً لنظام كمبيوتر الناطحات، الذي قد يحتاج من آنٍ لآخر لإعادة برمجة، يتولَّاها الناطحون في الناطحات، بكفاءة واقتدار!

إلا أن خللاً خطيراً طرأ، فقد تبيَّن خلافاً لما هو مرسوم، أن سكَّان هذه الأجرام ليسوا تماماً من نوع "الروبات" وأن هناك فرقاً بين "الروبات" وسكَّان هذه الأجرام."فالروبات" مثلاً لا يأكل، وبالتالي لا يجوع. و"الروبات" لا يُفكِّر وبالتالي لا يعترض ولا يرفض ولا يثور. والأدهى من كل ذلك، أن "الروبات" لا يتزوَّج، وبالتالي لا يُنجب ولا يتكاثر، خلافاً للخطَّة المرسومة!

أمام هذا الموقف المزعج، وخاصة التكاثر غير المُبرَّر لعدد السكان (عفواً الروبات)، كان لا بدّ من الحفر أكثر في الأرض، ليس فقط لاستخراج الخيرات والفوائد، بل أيضاً ( وهنا الكارثة)، لتأمين الحد الأدنى من الطاقة لتحريك "الروبات"، للقيام بالعمل المرسوم. ممَّا أدى إلى تهلهل بنية وتماسك هذه الأجرام، التي ظلَّت تدور، ولكن بسرعة أكثر، واقتراب أكثر من الناطحات، مما جعل خطر تفكُّكِها وتحوُّلِها إلى نيازك، أمراً وارداً جداً.

هنا فقط انقلب المشهد إلى كارثة لأصحاب الناطحات، فتساقط النيازك على الواجهات الزجاجيَّة الرائعة، ليس أمراً مزعجاً فقط، خاصةً وأن النطح في هذه الحال يصبح أمراً غير ذي جدوى، بل شديد الخطورة، على القرون وغير القرون!

وقف أصحاب الناطحات بعد أن تخلُّوا عن قرونهم(مؤقتاً بالطبع)، ليس فقط لأنها فقدت انتاجيتها، بل لأنها تحدّ من القدرة على التفكير، بدليل أن أقل الحيوانات ذكاءً، الحيوانات ذات القرون!

وقف أصحاب الناطحات وأطلُّوا من الواجهات الزجاجيَّة الفخمة بقرونٍ منزوعة، ظلَّت، على أي حال، بمتناول اليد قريبة من الرأس! ونظروا إلى هذه الأجرام الضخمة المتهلهلة، التي تدور وتقترب منهم، بنفس الوتيرة والسرعة اللتين تزداد بهما فوائد الديون وفوائد الفوائد.

الخطر يزداد، ولا بد من حل يُخفِّف الثقل عن الأجرام، دون أن يُخفِّف الفائدة منها.

السكان(عفواً الروبات) عددهم أكثر من اللازم. وهم يُشكلّون عبئاً على دوران الأجرام، ولا بد من حل لتكاثرهم. بالتجويع، بالحروب، بالنفايات الكيماويَّة والذريَّة الخ.. المهم أن تبقى الديون وأن تدفع فوائدها. إلا أن المشكلة ظلَّت قائمة رغم كل ذلك، ورغم محاولات جدولة هذه الديون، وإعادة تقسيطها بفوائد طبعاً.

والواقع أن تعاطفنا الشديد مع مأساة أصحاب الناطحات، ورغبتنا الأكيدة في عدم رؤيتهم يستعملون قرونهم من جديد، حفاظاً على سمعتهم الحضاريَّة، يجعلنا نروي لهم هذه الحكاية، في مجال النصح والنصيحة!

يُحكى أن فلَّاحاً "فقيراً" أراد شراء حمار، فقصد جاره المرابي لاقتراض ثمنه. وافق المرابي على إعطائه القرض إلا أنَّه اشترط عليه أن يشتري به حماراً هزيلاً كان لديه، ويريد التخلص منه، فوافق الفلَّاح المسكين مرغماً على ذلك. شاء حظ الفلَّاح العاثر أن يموت الحمار، في عز موسم الحصاد، وفي وقت كان على الفلَّاح أن ينتقل بعائلته إلى كرم التين، للسكن في خيمة في الكرم أثناء القطاف، أسوة ببقيَّة الفلَّاحين في القرية.

نظرت زوجة الفلَّاح، الذي كان في غاية الكآبة، إلى زوجها، وقالت:
حمار جارنا لم يكن أقوى منك، وكل جيراننا بحاجة لحميرهم في الموسم و…
تمدَّد الفلَّاح على الأرض، وتولَّت زوجته تحميله بصمت!
وضعت زوجة الفلَّاح على ظهره الفراش واللحاف، والفلَّاح ساكت لا يتكلَّم…
ثم وضعت المخدات والطناجر، والفلَّاح ساكت لا يتكلَّم.
ثم وضعت "الجاروشة" والفلَّاح ساكت لا يتكلَّم.
وفجأة قالت زوجة الفلَّاح لزوجها:
عذراً لم يبقَ سوى هذا الصحن الصغير، هل تسمح لي بوضعه؟
وأخيراً تكلَّم الفلَّاح بصوت خافت:
ضعي ما تشائين، فلو كان بإمكاني القيام لقُمْت من زمان!
مرَّت لحظات.. انتفض بعدها الفلَّاح، وأزاح الحمل الثقيل عن ظهره، وقال لزوجته بحدَّة:
اذهبي إلى جارنا، وقولي له إنَّ حماره قد مات. فإذا شاء أن يستردّ دينه عليه أن يُقرضنا ثمن حمار آخر، نختاره نحن هذه المرة. وقولي له: هذه هي الوسيلة الوحيدة لسداد ثمن الحمارين!

٥-١٠-١٩٨٩

*هذه المقالة من كتاب المحامي ناجي بيضون بعنوان "كاريكاتور بالكلمات" الصادر عام 1994.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى