سياسةمحليات لبنانية

تغيّرت الأزمنة … فأعقلوا

 

الدكتور نسيم الخوري – الحوارنيوز خاص
يمعن الملثّمون بتحطيم واجهات المصارف في ليل شارع الحمراء المظلم في بيروت. سمعت وكأنّي بالملثّمين يحطّمون في طريقهم الحراك اللبناني ويدمّرون الثورة ويقتلون التغيير متستّرين بالكوفيات المرقّطة والحطّات السوداء. ونسأل معاً جميعاً بالصوت العالي: هل تابع زعماء الطوائف ما يحصل وهل يسمع هؤلاء بأنّ هناك شعبا ثائرا في لبنان؟ هم يستنكرون وكأنّ هؤلاء خرجوا من الأوكار؟ ألم يلمس البعض منهم بعد المستقبل المحروق الأسود الذي نركض إليه ونحن فيه؟ وراح الملثّمون يكسّرون أبواب الحديد في واجهات المصارف وفي ساحة المصرف المركزي.
  هل يصدّق السياسيون المشابهون للأصنام إذ يستيقظون، ويقفون أمام المرايا يفركون عيونهم من غبار النوم ومشاهد التعنيف والخوف الذي يبدو وكأنّه بعيد عنهم لا يزور أسرّتهم منذ أشهر، ثم يستحمون، ويتناولون الفطور، ويعقدون ربطات أعناقهم، ويبدأون باستقبال السفراء والحزبيين والمستشارين وأهل النميمة وعلك الكلام الذي لا مضامين له، فلا يجرأون على الخروج أمام أبواب معازلهم وجزرهم الطائفية، هل يصدّق هؤلاء أننا مواطنون في وطن واحد يبحثون فيه عن حكومة أو أنهم ما زالوا حكامه؟
وهل يصدّق وزير نفسه أنّه ما زال وزيراً في وزارات مهترئة متعفنة بقدر ما هو وزر وإعاقة ومصيبة وطنية إذ يطرده الحراكيون ذليلاً من مطعم أو مقصف يرتاده وكأنّه يعيش في بلد آخر غير لبنان؟
ألا يشعرون بعد مدى الأحقاد والشرايين المنتفخة التي تطالب بطردهم وعزلهم طلباً لطبقة جديدة نظيفة من الحكام الشباب المستقلّين؟
هل صدّقت تماثيل الحكّام وصورهم وكلامهم العتيق الرطب الروائح أنّ مستقبل لبنان سيبقى رهينة لهم ولأزلامهم الطائفيين من الموظفين وزراء ونوابا يدورون من حولهم وأنّ الناس وأولاد الناس سيستمرون جيلاً بعد جيل يهرون أعمارهم من ساحة الى ساحة بحناجرهم ويأسهم وفقرهم يهتفون بحياة هذا الزعيم أو موت وموت ذاك من الزعماء ،أو يقاتلون بعضهم بعضاً كرامة الزعيم وفي مستنقعات آذار وألوانه وأرقامه؟

لنفتح الأعين: نحن على مشارف الدم. يطلّق القوّاتي زوجته فقط أمّها عونية، ولا تصافح العونية القوّاتية، ويختلف طلاب آذار وأكتوبر مجدّداً في الكليّة على لون الكرات التي يعلّقونها فوق شجرة ميلاد مسيحهم فياتي الحل بشجرتين واحدة برتقالية وأخرى زرقاء. شروخ خرّبت الأحزاب كما بيوت الناس العاجزين ،وسياسيون امتهنوا السرقات وهم يتناكفون في صنمية وردود أفعال لزجة ممجوجة وكأنّ ما حولهم يحصل في بلدٍ بعيد لم يسمعوا به قبلاً.
غريب.أكلتنا الخطب والمواعظ الطائفية الفارغة والأحقاد، وبات العصب الحزبي مشدوداً بجهات الأرض قد ينقطع على حروب متجددة، ولا يعرف سوانا معانيها وجروحها لتبقينا أوتاراً مشدودة دامية تعزف فوقه أمم الأرض ألحان الديون والمصالح والتدمير.
المعضلة كانت منذ الأساس أننا وطن نستمتع بالزهو فوق الشرفات للتشاوف. الشرفات في ثقافتنا وسلوكنا أهم من غرف الجلوس أو النوم. نستأجر الشرفات قبل استئجار المنازل أو شرائها فلا يعنينا سوى الغريب على القريب لنتعثّر دوماً في الحفر. كانت الأمم، وما زالت تبتسم في سرّها من سلوكنا السياسي المقيت. وكان سياسيونا يغالون بكونهم أفضل الراقصين والمهللين لموفدي الأمم والقناصل والسفراء، يتكلمون خلافاً لشعوب الأرض لغات الأمم كلّها فينافسونهم في لكناتهم والحسر عن أسرارهم.
تبارزتم في رقصات أهل الأرض وطاف كذبكم حدودها بما كان يؤدّي بنا الى التلوّي فوق النيران الموسمية المستوردة. هناك حاكم لبناني يرقص فرنسياً فلا ينبس بالعربية، لأنّ لبنانه عمره ما كان عربياً، لا وجهاً ولا لساناً ،وأين هي العروبة يقول لك اليوم. لا حلّ سوى باللبنانية واللبنانات على ألسنة المنجمين ونجمات الشاشات؟ وهناك حاكم يرقص أميركياً لا يعنيه سوى تأخّر لبنان عن دفع مستحقّات حقّه في التصويت مع الأمم المتّحدة التي كان من منشئيها، تصوّروا!!! وشعبه فقير جائع صارخ في الساحات منذ ثلاثة أشهر. هذا الرقص يمكن تعميمه على المذاهب والزعماء الذين تفرحهم إبتسامات العدو أو غمزاته ولا بأس بالإعلان أحياناً أنّ كتابة تقرير أو رفع القمامة أو حمل مملحةً في زاوية من زوايا المطابخ السياسية الدولية أفضل من وطنه ومستقبل شعبه ومنطقته.
هناك من يرقص فلسطينياً بالكوفية والعقال وباللحية المشذّبة التركيّة المندفعة بجنون وحلم إمبراطوري إسلامي في بقعة الزيت نحو ليبيا في البحر المتوسط. وهناك من يرقص أصولياً بما لا ينتهي من الأشكال والألوان. وهناك من يرقص إيرانياً في انتظاراتٍ أبدية مقنعاً العالم بأنه من سلالة الماء ووريثها في التجديد النقش الإمبراطوري وهو الذي سيحتلّ ثلثي العالم. وهناك من يرقص سورياً وسعودياً وقطرياً واسبانياً وبلجيكياً وبرازيلياً وصينياً وسوفياتياً وبريطانياً وسيرلانكياً وأثيوبياً …الخ، كي لا أعدد تمايلات إرداف الأرض كلها. وهناك "الزعماء" اللبنانيون اللذين يختزنون في طيّات ألسنتهم وأجسادهم رقصات الأرض كلها تحقيقاً لثرواتهم اللامتناهية وسرقاتهم الموصوفة والمودوعة في المصارف السويسرية والدولية ورثة الشهامة والمذلّة للأبناء والأحفاد بينما شعب لبنان يئن من جوع وبرد وعطش وظلمات لا تنتهي. ومن لا يحسن الرقص بعد، يشارك بغباءٍ حزبياً بالتصفيق والصراخ والصفير والغناء للزعيم وحمله على الأكتاف وبالروح وبالدم نفديك يا….. هذا هو وضعنا من جديد.
رقص متنوع متكاثر في الساحات. يتعدّد الرقص ويتشعّب، ويتكاثر لبنان ويتشعب: اللسان لسانان وألسنة، والسروال سراويل، وابريق الفخار أباريق، وطبق القش أطباق، والمدرسة والجامعة ألوف من المدارس والجامعات منها السرّي ومنها الجهري، والكتاب مليون كتاب، والقاموس ألف قاموس والمصطلحات متشعبة المعاني ومتعددة التحريفات، أحزاب وتجمعات طافت فوق الألوان المعروفة.
أيّها الحكّام: يبني اللبنانيون مكانهم الجديد في الشمس بالعرق والجوع والثورة والفقر ونبذ كلّ قواميسكم الطائفية ،وربّما بالدماء وسيبنيه وسيرفعه فوق ركام أجسادكم الراقصة العارية مهما كابرتم. أتركوا الشاشات والكراسي والقصور والكلام المخلّل بالأكاذيب والتحديات والثروات،ِ واسمعوا الكلام الملُثم داخل أحزابكم وطوائفكم ولا تتأخّروا في طرد مستشاريكم ونوابكم ووزرائكم الذين ملّت منهم مقاعد الوزارات والبرلمانات. الأزمنة تغيّرت والدنيا التي ملكتموها تنهار فأعقلوا وتوكّلوا وهو ونحن معه ندبّر.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى