سياسةمحليات لبنانية

المرابي والفلاح ..وحمل الصابون!


في كل جنوب، من جنوبي لبنان إلى جنوبي آسيا، ومن جنوبي السودان إلى آخر جنوب في أمريكا الجنوبيَّة، مناطق منكوبة أو مسلوبة، يولد فيها الأنبياء ويكثر فيها الفقراء والشعراء. أهلها حالمون دائماً جائعون دائماً.
أما الشمال، حيث لا يُعادل برودة الأحاسيس إلَّا برودة الطقس، ففيه الأغنياء الذين يلعبون بأزرار الكمبيوترات بأعصاب باردة وتخطيط غير حالم ولا حليم، ويتحكَّمون سُعداء بمصائر الشعوب الحالمة في الجنوب الفقير!
في الشمال يحرقون القمح والزبدة والبن الخ… إذا زاد الإنتاج بشكل يؤثِّر على ارتفاع أسعارها!.
وفي الجنوب يموت الأطفال والنساء والشيوخ من الجوع.
وفي الشمال يُنتجون الأسلحة، ويختبرون فعاليتها بعباد الله في الجنوب
وفي الجنوب يشترون الأسلحة التي يَثبُت عدم فعاليتها
وفي الشمال يستعملون الذرَّة في خدمة مشاريعهم وإنسانهم
وفي الجنوب تُدفَن النفايات الذريَّة، لقاء كميات من المواد الإستهلاكيَّة غير كافية، حتى ليعيش أهله كي تفتُك بهم تلك النفايات
في الشمال يُنتِجون لاستهلاك الجنوب
وفي الجنوب يَستهلكون ما يُنتجه الشمال، بشرط ألا يُنتِجوا أي سلعة يمكن أن تُشكِّل منافسة لهذا الإنتاج.
إلَّا أنَّ وسائل الإعلام "الخبيثة"، وخاصة التلفاز منها، أخذت تَقُضّ مضاجع الأباطرة الجدد في الشمال، خاصة بعد أن جعلت وسائل الإتصال على اختلاف أنواعها، من العالم قرية صغيرة. فقد أصبح منظر الأطفال، الذين يموتون من الفقر والجوع والمرض في العالم الثالث، مؤذياً "جداً" للشمالي، رغم برودة أحاسيسه. والأذى هنا ليس بسبب الخوف من عدوى الفقر. فالفقر، لسوء الحظ ، لا يُعدي. وإلا امتنع الأباطرة الجدد عن حرق المواد الغذائيَّة المنوء بها أعلاه. ولكن الأذى يمكن أن يأتي من الأمراض المُعدية، التي أصبح بإمكانها أن تنتقل في "القرية الصغيرة" بسرعة هائلة ، من شأنها أن تنشر الأوبئة بين سكَّان القسم الشمالي منها.
هنا تحرَّك الأباطرة الجُدد "بهلع" بارد أيضاً، وأخذوا يتحدَّثون عن حقوق الإنسان، رغبة منهم في طمأنة شعوبهم، وإنعاش روحهم الحضاريَّة!
ولأنَّ الكلام "وفقع" الخطب والنظريات حول الموضوع لا يُكلِّف شيئاً، ولا يغني ولا يسمن من جوع ، أصبحنا نسمع عن التدخل من أجل حقوق الإنسان، والحرب من أجل حقوق الإنسان، والقصف من أجل حقوق الإنسان… وأخيراً لا آخراً الصفقات التجاريَّة المشروطة بمراعاة حقوق الإنسان إلخ….
وسمع الجنوبي الحالم هذا الكلام، فطار لُبَّه، وأُعجِبَ ولم يَتَعجَّب، ورَغِبَ ولم يَستَغرِب، دون أن يُدرك أنَّ حقوق الإنسان المقصودة، هي مثلاً حقّه في أن يختار بين أن يموت جوعاً "أو قصفاً"، أو بالنفايات الذريَّة وغير الذريَّة.
سال لُعاب الجنوبي الحالم، وفتحت شهيَّته للكلام، وطلب الشمالي للحوار على طريقة فارس لفارس.
إلَّا أنَّ الحوار بين الشمال والجنوب، على رغم كل "المزاعم" المنوء بها أعلاه، فكرة رائعة. فالحوار بحدّ ذاته عمل حضاري مرغوب ومطلوب، وهو إلى ذلك مُسَل جداً. ولكن الحوار يحتاج إلى لغة مشتركة، ومصلحة مشتركة، وأكثر من هذا وذاك، رغبة مشتركة بالحوار، وإلَّا كان نوعاً من الهذيان يقوم به طرف حالم مع طرف آخر، سدَّ أُذُنَيْه الضجر والبطر، أو تولَّاه ملاك النوم!
فهل صحا ضمير أباطرة الشمال الجدد، ورقَّ قلبهم، وأصبحوا مُستعدّين للحوار، أم أنَّ الحديث عن حقوق الإنسان، كحكاية المرابي وحمل الصابون؟!
تقول الحكاية:
إنَّ مُرابياً جشعاً، ضجر من سمعته السيئة، فأراد تحسين صورته أمام أهل القرية، وأعلن توبته وإقلاعه عن طلب الربا الفاحش.
فقصده أحد الفلاحين الحالمين، وطلب منه أن يُقرِضه مبلغ ألفي ليرة، يشتري بها ثورين يفلح عليهما، على أن يَرِدّ المبلغ في نهاية الموسم.
بعد أن فرغ المرابي من تلاوة الصلوات، وقراءة الآيات التي تُحَرِّم الرِّبا. أدخل يده في جيبه، فانفرجت أسارير الفلَّاح الحالم، الذي ظنَّ أنه سيقبض المبلغ لا محالة.
لكن وجه الفلَّاح الحالم عاد فاكفهَّر، عندما أخرج المرابي من جيبِه خرجاً صغيراً جداً، وقطعتين من الصابون أصغر من الخرج، ووضع كلا منهما في جيب من جيبيّ الخرج، ووضع الخرج على ظهر هرّ مُدرَّب، كان يجلس بقربه لهذه الغاية، وقال للفلَّاح الحالِم:
– بِعْتُكَ هذا الحمل من الصابون بألف ليرة.

-قال الفلَّاح المسكين مذهولاً:
-صابونتان على ظهر هرّ بألف ليرة؟!
قال المرابي:
– يا ولدي هذا بيع وشراء. إذا اشتريت حمل الصابون بألف، أعطيناك الألفين، فيصبح ما يتوجَّب عليك سداده في آخر الموسم ثلاثة آلاف ليرة، بما في ذلك ثمن حمل الصابون!

خرج الفلَّاح من دار المرابي، ولكن الحلم بشراء الثورين، لم يخرج من خياله أبداً!!  

      
ناجي بيضون   
15-10-1989

*هذه المقالة من كتاب "كاريكاتور بالكلمات" سنة 1989 فهل تَغَيَّرَ شيء؟

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى