إقتصاددوليات

أميركا والقدر :توقعات إقتصادية خيّبت الآمال(عماد عكوش)

 

بقلم د. عماد عكوش – الحوار نيوز

 

لم تُصب توقعات أكثر البنوك الاستثمارية ووكالات التصنيف والمحللين الماليين العالميين لعام 2023 ، لا بل في كثير من الامور حصل العكس تماما . فقد توقع وزير الخزانة الاميركي السابق لاري سامرز في نيسان من العام 2023 حصول ركود في الاقتصاد الاميركي مرفق بأزمة أئتمان تشديد السياسة النقدية ، بنسبة 70 بالمئة ، فيما توقع بنك غولدمان ساكس وبنسبة 55 بالمئة حصول هذا الركود .

وتعود أسباب هذه التوقعات الى ما يلي :

-      تراجع البنوك عن الإقراض بسبب تدفقات الودائع التي أدت إلى انهيار العديد من البنوك في وقت مبكر من العام 2023 .

-     ارتفاع أسعار الفائدة التي يشعر بها المستهلكون والشركات في نهاية الأمر بعمق شديد.

-      السبب الأخير على حدوث الركود هو “منحنى العائد المقلوب” ،حيث تكون أسعار الفائدة أعلى على السندات طويلة الأجل بالنسبة للسندات قصيرة الأجل ، إذ يحتاج المستثمرون إلى عائد على المخاطرة بأموالهم لفترة طويلة، حيث قفز العائد على سندات الخزانة الأميركية لآجل عامين فوق عائد سندات الخزانة لآجل 10 سنوات، وهي الظاهرة التي تسمى بـ “منحنى العائد المقلوب”. وكانت هذه إشارة تعبر عن رغبة المستثمرين في نقل أموالهم إلى أصول أكثر أماناً في الأجل الطويل ما يؤدي إلى ارتفاع أسعارهم وانخفاض عوائدهم.

من جهة ثانية نصح بنك “اوف أميركا” بشراء السندات نتيجة لرفع الفوائد وسياسة التشديد المالي، فكان العائد عليه خلال العام 2023 وصل الى 5 بالمئة وانخفض الى 3.8 بالمئة في نهاية العام .

بالنسبة للصين كانت توقعات “جي بي مورغان” بأن يعود الاقتصاد الصيني للنمو بعد الانتهاء من أزمة “كوفيد” وفتح الاسواق ، لكن ما شهدناه فعليا هو اشتداد الازمة العقارية مع شركة أيفرغرين وتراجع مؤشرات الاسهم الرئيسية في البورصة الصينية ، حيث تراجع مؤشر شانغهاي بمقدار 4 بالمئة ومؤشر هانغ سينغ بمقدار 14 بالمئة .

لكن ما هي الاسباب الاساسية التي أدت الى عدم تحقق هذه التوقعات ؟

هناك عدة أسباب أدت الى تلك النتائج ، أهمها:

-     الازمة الاوكرانية التي أدت الى ارتفاع كلفة الصناعة الاوروبية مقابل الصناعة الاميركية بسبب أزمة الغاز الطبيعي والذي كانت تستورده اوروبا من روسيا بأسعار رخيصة، فيما البديل كان الغاز المسال الاميركي ذي الكلفة العالية ، وقد لجأت بعض المصانع الاوروبية الى نقل مصانعها الى الولايات المتحدة الاميركية لتخفيض الكلفة .

-     العقوبات على روسيا والصين والتي كانت صناعتها وزراعتها تنافسان الصناعة والزراعة الاميركية ،وخاصة ما يتعلق بصناعة الاسلحة والتكنولوجيا ، وقد كان لفرض العقوبات تأثير على ألغاء الكثير من صفقات الاسلحة الروسية خلال العام 2023 ،ومثال على استعمال هذه العقوبات ما أفادت به صحيفة وول ستريت جورنال في شهر ايلول من العام 2023 من أن شركة تصنيع الأسلحة الأمريكية RTX ألغت صفقة بمليارات الدولارات مع شركة أسلحة سعودية بسبب مخاوف من أن الأخيرة كانت تمارس أعمالًا مع كيانات روسية وصينية خاضعة للعقوبات كضغط لوقف التعامل مع هذه الدول . كما اجبرت القيود الأميركية المرتبطة بالرقائق الإلكترونية المتطورة كبرى شركات التكنولوجيا الصينية على إعادة النظر في مشاريعها الطموحة في مجال الذكاء الاصطناعي، بحسب محللين. وأصبحت “علي بابا” أحدث شركة صينية تقر بأثر العقوبات الأميركية مع تخلي عملاق التجارة الالكترونية عن خطة لتحديث قطاع الحوسبة السحابية التابع له والذي يساوي مليارات الدولارات. وسبق ذلك إعلان شركة ألعاب الفيديو العملاقة “تنسنت” تراجع قدرتها على بيع الخدمات السحابية المتقدمة بسبب تأثير القيود التي فرضتها واشنطن العام الماضي لمنع الصين من الحصول على الرقائق المتطورة. لقد كانت القيود الأميركية على توريد الرقائق لشركات التكنولوجيا الصينية خلال العام 2023 قادرة على تعطيل القرارات اللاحقة المتعلقة بالأعمال”.

-     الضغط على المملكة العربية السعودية لخفض انتاجها من النفط الخام ،الامر الذي ساعد الكثير من شركات الطاقة الاميركية على زيادة استثماراتها وتحقيق عوائد مرتفعة نتيجة لارتفاع سعر برميل النفط والحفاظ على سعر مرتفع خلال العام 2023 تجاوز السبعين دولارا اميركيا .

-     طوفان غزة والذي حاولت الولايات المتحدة من خلاله اغلاق باب المندب امام تجارة أهم منافسين لها في الشرق الاوسط واوروبا وهما الصين والهند . ان ارتفاع كلفة التأمين والشحن البحري أدى الى مضاعفة أسعار هذه السلع القادمة من الشرق الاقصى ، بالاضافة الى تعثر سلاسل التوريد لهاتين الدولتين والذي أفقدهما سنوات من التخطيط والتوافقات والخطط والموردين والزبائن .

-     القوانين الضريبية الجديدة والتي فرضت الضرائب على كل من يحمل الجنسية الاميركية حتى ولو كان لا يعمل في الولايات المتحدة الاميركية ، وقد حققت الولايات المتحدة تقدّما مهِمّا في طريق تعميم تطبيق قانون الامتثال الضريبي على حسابات الأميركيين الخارجية، المعروف اختصارا بـ FATCA (فاتكا) . ويُتيح القانون لواشنطن ، الحصول على كافة المعطيات المصرفية للأشخاص الخاضِعين للجباية الأميركية ، وهو لا يقتصِر على المواطنين الأميركيين المقيمين داخل الولايات المتحدة، وإنما أيضا المقيمين في الخارج ، اوالذين يحملون جنسية مزدوجة ، والذين لديْهم ودائع أو مُمتلكات هامّة في الولايات المتحدة او الخارج .

-     الارتفاع الكبير في أسهم التكنولوجيا التي كانت المحرك الأساسي للأسواق العالمية والتي استفاد منها الاقتصاد الاميركي وبشكل كبير ، كما كان لبرامج الذكاء الاصطناعي دور كبير في ارتفاع شركات الهاي تك .

-     التوجه نحو سوق السيارات الكهربائية والمتقدمة فيه الولايات المتحدة الاميركية بشكل كبير، قياسا الى بقية الدول الصناعية ،وفرض التوجه نحو خفض نسب التلوث في العالم واستغلال المنظمات الدولية التي ترعى وتلاحق التلوث والتغير المناخي واستخدام نفوذها على الدول لفرض شروطها البيئية ، لذلك رأينا ان سعر سهم شركة”تسلا” ارتفع خلال العام 2023 حوالي 145 بالمئة .

في النهاية الولايات المتحدة الاميركية وعند استشعار أي أزمة داخلية وخاصة اقتصادية، كانت وما تزال تلجأ للخارج لفرض تغيير الواقع والتوقعات التي يمكن ان تمر بها . هكذا كان في العام 2003 عندما دخلت الشرق الاوسط بجيوشها لتضع يدها مباشرة على الشريان الاساسي لنمو اي اقتصاد وهو الطاقة ، وهكذا كان عندما شعرت بالمنافسة الطاقاوية مع روسيا ما بين العام 2010 والعام 2016 ،فكانت الحرب الرقمية واتهامها بالتدخل في الانتخابات وفرض عقوبات على شركاتها ، وهكذا كان في العام 2020 عندما اتهمت الشركات الصينية الكبرى بتمويل ودعم الشركات والدول المعاقبة فحرمتها من التقدم والتطور عبر العقوبات ، وهكذا سيكون في المستقبل مع اي تهديد لشركاتها واقتصادها . إنه الكاوبوي الاميركي الذي يمكن ان يفعل اي شيء مقابل المال وبقائه على سدة حكم رأس المال في العالم .

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى