انتخابات 2022رأيسياسة

مَن يُمْكِنُ… بَلْ مَن يَجُوزُ انْتِخابُهُ؟(د.وجيه فانوس)

 

بقلم الدكتور وجيه فانوس*

يُوحي هذا العديد المتكاثر للمرشّحين إلى الانتخابات النّيابيّة في لبنان، بأنَّ ثمّة ازدهارًا للوعيّ الانتخابيّ، يعيشه البلد؛ ناهيك بما يُمكن أن يعكسه هذا الظّاهر مِن أنّ ثمّة اطمئنانًا قويًّا، بين اللُّبنانيين،إلى سلامةٍ ما للّعبةِ الدّيموقراطيّة التي تكتنف المبدأ الانتخابيّ بالمطلق.

 واقع الحال، ما مِن ازدهار فعليّ للوعيّ الانتخابيّ الجماهيريّ، المرتبط، في كثير من مجالاته الفعليّةِ بين اللّبنانيين، بالولاء للزّعيم، أيًّا كان، وكذلك بالتَّبعيَّةِ للمذهبِ الطّائفيّ، كما في السّعيّ إلى ما يُمكن من مجالات المصلحةِ الآنيّة والنّفعيّة المباشرة. إنَّه هذا الازدهار الانتخابيّ الذي عادةً ما تتحطّم كثير من التّطلّعات الدّيموقراطيّة فيه، على الصّخور الحادَّة الأطراف والصّلبة التّكوين، المنبثقة من غياب، أو ربّما تغييبٍ مقصودٍ، لكثير مِن مجالات الانتخابِ الشّعبيّ الحرّ للمرشّحين، انطلاقًا مِن القاعدة ووصولًا إلى القمّة.

 

لا بدّ من التّفريق، ههنا، بين ما هو إقبالٌ على التّرشّحِ إلى الانتخابات النّيابيّة، مِن باب الإيمان العمليّ والفعليّ بديموقراطيّتها؛ وما هو، من جهة أخرى، إقبالٌ عليها، مِن باب تسجيل موقف إعلاميّ ما، وتَبَوّءِ ما يُمكن تسميته بالوجاهةِ المجتمعيّة المؤهِّلةِ لأمور ومهام ومناصب، قد تكون الانتخاباتُ النّيابيّةُ مِن بينها، غير أنّها تتجاوزُ هذا الهمّ إلى سواهُ مِن أبواب العيش المجتمعيّ وممارساته وتحصيل مكاسبهِ.

 

لطالما اعتاد اللّبنانيّون، وطيلةَ عقودٍ مديدةٍ، على تسجيل إقبال كثيف من بينهم، على التّرشّح إلى الانتخابات النّيابيّة، في المبدأ؛ كما اعتادوا أن يكون ثمّة رجوع وفير عن هذا التّرشّح، في الموعد الرّسميّ المحدّد للتّراجع عن التّرشيح. ويمكن أن يضاف إلى هذا، أنّ جماعات مِن المستمرّين في ترشّحهم، قد يعلنون انسحابًا ما لهم، قُبَيْلَ بَدءِ المعركة الانتخابيّة، أو حتّى في مطلَعِها، افساحًا منهم لسواهم في الإفادة من أصوات كان من المقدّر أن تكون لصالحهم، في ما لو استمرّوا في ترشّحهم هذا؛ ناهيكَ بمجموعات أخرى لا تتمكّن مِن تأمين ما بات يُعرف بالحاصل الانتخابيّ المؤهِّلِ للفَوز.

 

ستبقى احتمالات الفوز في الانتخابات النّيابيّة محصورة، تاليًا، بالمرشّحين القادرين على الاستمرار القويّ في عمليّة التّرشّح؛ والمتمكّنين، في الوقت عينه، من إدارة تحالفاتهم الانتخابيّة لمصلحة دائمة لهم، والقادرين فعلًا على حصر أولويَّة ما لتراتُب ورود اسمائهم، ضمن لوائح انتخابيّة معيّنة من دون سِواها.

 

لا بدّ مِن التّفريق، في ما يسمّى باللّعبة الدّيموقراطيّة، بين حقيقة الدّيموقراطيّة، مِن جهة، والقابليّة الفعليّة لواقع هذه الحقيقة، في مواجهةِ أيّ وجود يُمكن أن يقف في طريقها، مِن جهة أخرى. وإذا ما كان الوعيّ العمليّ يرى أنّ الدّيموقراطيّة ليست في جوهرها سوى وجود ينهض على موقف نضاليّ، في مواجهة طغيان طغمة من القوى الفارضة لوجودها على الآخر، حتّى لو وصل الأمر، بهذا الفرض، إلى مستوى الإرغام وضرورة التّسليم والإذعان. ولا يُسمح، ههنا، أن ينسى المرء، أو حتّى أن يتناسى، أنّ الدّيموقراطيّة ستبقى ابنة المنطق العقلانيّ وربيبته؛ في حين أنّه لن يمكن للقوّةِ إلا أن تبقى راتعةً في ساحاتِ الذّاتيّة والانفعاليّة، لفرضِ الوجود، بعيدًا عن أيّ منطق عقلانيّ ممكن.

 

أيًّا كان ما يشكّله عديد المرشَّحين والمنتَخِبين المنطلقين، إلى رحاب العمليّة الانتخابيّة في لبنان، مِن أسس المبدئيّة الدّيموقراطيّة للعملِيّة الانتخابيّة ومفاهيمها، فإنّ قراءة في الواقع العمليّ ما انفكّت تؤكّد وَهَنَ قواهم الفاعلة وضعفها، في تحديدها للنّتائج النّهائيّة لهذه الانتخابات؛ أمام قوّة الجماعات التّقليديّة في ترشُحها، كما في ممارستها للانتخاب. للتّقليديين، عمومًا، قوّةُ في اكتسابِ الولاءِ التّقليدي والمتوارث، بين كثير من اللّبنانيين، للزّعامة؛ كما لهم قدرات متعاظمة، في شدّ العَصَبِ المَذْهَبيّ والطّائفيّ، ناهيك بذلك المناطقيّ؛ مِن دون أيّ إغفال لما يمكن أن يتوافر لديهم مِن إمكانِيّات لتأمين بعض مجالات المصلحة الآنيّة والنّفعيّة المباشرة. وإنّ أيَّ نظرة، ولو عجلى، على واقع كثير مِن السّجالات الانتخابيّة، بين غالبيّة المرشّحِين، إنّما ينهض بكلّ عزم ووضوح،  على شدّ عصب الولاءاتِ الشّخصيّةِ للزَّعيم، والإفادةِ من أيِّ حماسٍ ممكنٍ لمصلحة المَذْهَبِ والطّائِفَةِ وربّما المنطقة. ولعلّ ممّا يُثبت هذا الأمر، أنّ عديدًا لافتًا مِن المرشّحين الجُدُدِ إلى هذه الانتخابات النّيابيّة اليومَ،  ليسوا، في واقع الحال، سوى أبناءَ أو أحفادَ أو أنسباءَ، للزّعماء التّقليديين؛ بل هم لا يتوانون عن استخدام لغة آبائهم وأجدادهم وأنسبائهم الانتخابيّة وأساليبهم، في منطقهم الانتخابيّ؛ وهذا الأمر لا يقف عند حدود دائرة انتخابيّة بعينها، أو منطقة بذاتها، بل هو شأن لبنانيٌ بامتياز. ويبرز، ههُنا، تساؤلٌ مُحِقّ عن جدوى الاستجابةِ للمشاركة في العمليّة الانتخابيّة الحاليّة، هذا إن حصلت؛ فأيّ جديد يمكن أن يرتجى منها، وأيّ تغيير يمكن أن يؤمل مِن نتائجها.

 

يؤكّد واقع الحال الرّاهن، أنَّ المسارت التي ما فتئت تتّخذها هذه العمليّة الانتخابيّة، لم تخرج في غالبيتها العظمى عن سياقات ما يُعرف بِشَدّ العصبِ المذهبيّ والطّائفيّ، بإذكائه روحَ الولاء للزّعامات التّقليديّة، فرديّة كانت هذه الزَّعامات أو جماعيَّة، وتجييشه للتكتّلات العائليَّة في خدمة هذا الولاء ودعمه؛ بمفهوم شعبويّ مخادِعٍ مفاده أنَّ كلّ هذا ليس سوى خدمةً للرّوحِ الوطنيّة وتعزيزًا لفاعليّتها، رغم أنّ الأمر لا يخرج في جوهره عن استغلال طائفيّ ومذهبيّ ومناطقيّ وذاتيّ شخصيّ، لصالح هذه اللّائحة أو تلك، في مواجهتها للّائحةِ الخَصم.

 

مِن المتعارف عليه أنّ ممارسة الانتخاب حقّ، تؤكِّده الهيئات الحكوميّة والمنظمات الدّوليّة؛ باعتباره انجازًا حضارِيًّا إنسانيًّا معاصرًا على دروبِ الدّيموقراطيّة. يضاف إلى هذا، أنَّ ثمّة بلدانًا تتجاوز، ضمن أنظمتها، موضوع الحقّ الانتخابي، لتعتبره واجبًا وطنيًّا، يستوجب عدم القيام به، معاقبة كلّ مَن يتخلّف عنه، بغير عذر مشروع. ومِن هنا، فإنَّ ممارسة الانتخابَ النّيابيّ في لبنان، تبقى، مِن جهةٍ مبدئيّةٍ، ضرورةً وطنيّة، تشير إلى احترام المسيرة الدّيموقراطيَّة وتعزيزها في البلدِ؛ ولذا، فإنَّ مِن حقِّ اللًبنانيين جميعًا، وهو كذلك مِن واجبهم الوطنيِّ، ممارسة الانتخاب النّيابيّ، أيًّا يكن سوءُ ظروفِ هذه الممارسة. ومِن جهة أُخرى، فإنَّ الوعي الدّيموقراطيّ يؤكّد ضرورة الإفادةِ مِن هذه الممارسةِ، رغم ما قد يكون فيها مِن عوامل سوء، وذلك تحسينًا محتملًا للمردود الدّيموقراطيّ منها. وعلى هذا الأساس، ورغم ما قد يحيط بكثير مِن النّتائج المتوقَّعةِ، على المستوى الوطنيّ، مِن الانتخابات الرَّاهنةِ؛ فليسَ ثمّة ما يُعيق أن تكون مُنطلقًا عملِيًّا لتعزيزِ الحسِّ الوطنيّ السّليم، والتّحضير الهادف للانتخابات النّيابيّة المقبلة.

 

ماذا لو عمد اللُبنانيُون الطّامحون إلى ممارسة الجوهر الوطنيّ الدّيموقراطيّ، من الانتخابات النّيابيّة المقبلة، إلى تعزيز رؤية جامعة وموحّدة بينهم، لما يرد في الدّستور اللُّبناني من:

 

1)أنّ المواطن هو الأساس في الوطن وله، بحكم مواطنيّته وحدها، ممارسة جميع الحقوق والواجبات الوطنيّة؛ مِن دون ما اعتبار لولائه لزعيم أو مجموعة أو ارتباطه بمذهب طائفيّ أو سياسيّ أو صلات مناطقيّة.

 

2) أنّ الوطن لجميع أبنائه، لهم فيه حقوق مشتركة، وعليهم تجاهه واجبات مشتركة.

 

3) أنّ لجميع المواطنين الحقّ في الوصول إلى المعلومات المتعلّقة بشؤونهم العامّة وأمورهم الإداريّة، وفاقاً لما يشير إليه القانون اللُبناني ويجيزه.

 

4) أنَّ المحاسبة واجب وطنيّ، تؤمّنه الإدارة والمجالس المحاسبيّة الرّسميّة؛ وأنّ الجميع، ضمن هذا السّياق، تحت سقف القانون.

 

5) أنَّ لا بدّ من استقلال تامّ للقضاء، ولا بدّ من توفير جميع ما يؤمّن نزاهة القضاة وترفّعهم عن كل صغار.

 

6) أنّ الحياة السّياسية قمّة الخدمة الوطنيّة العامّة؛ وليس الانتخاب النّيابيّ فيها سوى أحد وجوهها الخاضعة للمسؤوليّة الوطنيّة للوعيّ الدّيمقراطيّ.

 

قد يكون، تاليًا، في المحطّة المقبلة، بين هذه الانتخابات النّيابيّة العتيدة، هذا إن حصلت، وتلك التي ستكون بعدها، مجال استعداد عمليّ وموضوعيّ لكثير من اللّبنانيين، في تعزيز بناء وعيهم الوطنيّ للدّيموقراطيّة في الانتخابات النّيابيّة؛ كما يمكن أن تكون فرصة واقعيّة لهم لتخليصهم اللّعبة الانتخابيّة، التي طالما عرفوا وعاشوا، مِن كثيرٍ جدًّا مِن شوائب سيئةٍ لا تنفكّ تُحيطُ بها وتُسيءُ إلى جوهرِ فاعليّتها، بل تنتهك كثيرًا مِن مفاهيمِ الوطنيّةِ والدّيموقرطيّةِ عَبْرَها وبِها.

 

* رئيس ندوة العمل الوطني

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى