رأي

نعم.. لقد صعدنا إلى القمر.. وماذا بعد ؟(حيان حيدر)

 

بقلم د.حيّان سليم حيدر

     مرّة جديدة، التكرار لم يعلّم أيّ صاحب كار !

     نقول قولنا هذا ونرفع الغبار عن خطاب قديم لنائب الأمة جمعاء، وقد جاء فيه:

 

أيها السادة*،

     طوال سبعة أشهر ويوم – صعد الإنسان خلالها إلى القمر مرتين – عاش لبنان بلا حكومة، بلا حكم مسؤول، بلا نظام، كأنه كان يفتش عن نفسه.

     وعلى الرغم من صعوبة الأبحاث الفضائية – ومما يعقّد هذه الصعوبة من أسرار فنية وتكنولوجية مرتبطة إرتباطًا وثيقًا بالأسرار العسكرية التي يتسابق الجباران العالميان إلى إنتزاعها – فقد تكون نخبة من اللبنانيين قد عرفت الكثير عما اكتشف رواد القمر من مغالق المجهول، وأدركت تأثير هذه الإكتشافات في توسيع دائرة المعرفة وفي دفع موكب الحضارة إلى الأبعد والأسمى…

     ولكن أحدًا من اللبنانيين لا يستطيع الحزم في أنه فهم شيئًا مما اكتشف المسؤولون اللبنانيون، خلال هذه المدة الطويلة، من مغالق المشكلة اللبنانية ومن تأثير الأزمات السياسية بعد اليوم على لبنان: شعبًا ودولةً ووطنًا !

     أقول “بعد اليوم”، لأننا وصلنا إلى مفترق الطرق، وانتهت طريق اللامبالاة التي سلكناها نيفًا وربع قرن.  وأصبح علينا أن نختار: إما أن نلحق بركب الحضارة، فنسلم جميعًا ويسلم لبنان لنا جميعًا، وإما أن نتصلب في مواقفنا التقليدية، فيكون كلّ منا، قاصدًا أو غير قاصد، يدق مسمارًا محكمًا في نعش هذا الوطن العزيز.

     لم يعد بالإمكان السكوت عن هذا السكوت، عن هذا التعامي.  فالخطر ماثل أمام النعامة، ولا بد من مواجهته بكل قوانا، بكلّ إرادة الحياة المشتركة التي تجمع بيننا.  وفي سبيل ذلك، لا بد من المصارحة ولو كانت قاسية مؤلمة.

     على أني، بدافع من إخلاصي، سأتجنب في مصارحتي كلّ ما يمس الحساسيات وما يثير الحفائظ.  ولكن لا بد من فقيء الدمل إذا أزمن الصديد فيه، وبدأ يهدّد الجسم كله بالتسمم القتال.

     ليتفاءل من يطيب له التفاؤل فيتغنى بالوحدة الوطنية الرائعة التي تجلت أثناء الأزمة العصيبة التي صبغت أيامها الأخيرة أرضنا بدمائنا ودماء أخوان لنا أعزاء.  والحق يجب أن يقال: أن وعي اللبنانيين قد بلغ الذروة في هذه الأزمة، وكان له الفضل الأكبر في درء الفتنة النكراء التي كانت تذر قرنيها.  ولكن الإسراف في التفاؤل نوع من التواطىء مع الشيطان، فما كلّ مرة تسلم الجرة، ويجب أن نعترف بالحقيقة المؤلمة: أننا لم نصبح بعد دولة بالمعنى الصحيح، بل لا نزال، كما قلت في مناقشتي البيان الوزاري للحكومة السابقة، لا نزال مجتمعين حول مائدة لبنان المستقل، محمديين ونصارى، موزعين طوائف.  وأضف الآن موزعين على أقاليم.

     الطائفية والإقليمية، العلتان اللتان شكا منهما بيان الحكومة الإسقلالية الأولى، بيان رياض الصلح، لا تزالان تتأكلان كلّ محاولة لبناء دولة تستحق هذا الأسم.

     والبيان الوزاري الذي نناقشه اليوم – وسأصل إلى مناقشته بعد حين – على ما فيه من وعود جريئة،             لا يتضمن علاجًا ناجعًا لهاتين العلتين التكوينيتين: الطائفية والإقليمية.

     لكي نصبح أقل طائفية وأكثر مواطنة، لكي نصبح أقل إقليمية وأكثر شعورًا بسائر الأقاليم، لكي نصبح، في معالجة شؤوننا العامة، أقل سلبية وأكثر إيجابية، هناك خطوة لا مفر منها: هي أن نجعل المادة 27 من الدستور أمرًا واقعًا، حقيقة ملموسة، لا أن تبقى مجرّد مبدأ، أي مبدأ مجرّدًا عن الواقع.

     تقول هذه المادة: “عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء…” وإني لواثق من أن كلًا منا يتمنى أن يكون بالفعل  نائب الأمة جمعاء.  أن يمثّل القاسم المشترك لنزعات الجميع، القاسم المشترك لمصالح الجميع.  هذا القاسم المشترك هو ما يسمونه في علم الإجتماع وفي مصطلح السياسة: المصلحة العامة.

     ولكن أنى لأي منا أن يكون، بالفعل، نائب الأمة جمعاء؟  أنى لنا، وكلّ منا مندفع بنزعات شارع بلده، مرتبط بمصالح منطقته، مسير بمطامح ناخبيه، على الرغم من بقية نص المادة 27 من الدستور التي لا تجيز أن تربط وكالة النائب بقيد أو شرط من قبل منتخبيه؟

     وليس من العسير أن نجعل المادة 27 من الدستور أمرًا واقعًا.  ليس من الواجب أن نعدّل الدستور من أجل ذلك.  يكفي أن نعدّل قانون الإنتخاب، فنجعل من لبنان كلّه دائرة إنتخابية واحدة.

     إليكم حسنات هذا الأمر:

  • على صعيد الإنتخابات النيابية

 * (مُختَطَف من خطاب النائب سليم حيدر في العام 1969).

__________________________________

     نعم، لقد صعدوا إلى ما بعد المُشْتَري (لأنّ لم يعد، لا على الأرض ولا حتى على القمر مِن مشتري لمشاكل لبنان)، وبعد نيّفٍ ونصف قرن، ونكرّر، ما زال اللبنانيون يدورون في مغالق المجهول، وأحدًا من اللبنانيين لا يستطيع الحزم في أنه فهم شيئًا مما اكتشف المسؤولون اللبنانيون، خلال هذه المدة الطويلة، من مغالق المشكلة اللبنانية.

     وها نحن، كلّ منا، قاصدًا أو غير قاصد، يدق مسمارًا محكمًا في نعش هذا الوطن العزيز.

     ها هو لبنان يعيش، ومن جديد، بلا حكومة، بلا حكم مسؤول، بلا نظام، وهو ما زال يفتش عن نفسه.

بيروت، في الثاني من تشرين الثاني 2022م.                                                             

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى