ثقافة

“جذوة من ثلوج جبل الشيخ”: قراءة لعمر شبلي في شعر سلمان زين الدين

     الشعر مساحة مفتوحة لا يمكن بلوغ نهايتها، هو تعبير عن الجوهر الملتهب الذي يؤجج المشاعر في القصيدة، هو فيض معاناة الشاعر من غموض الوجود، هو محاولة الجواب على القلق الذي يؤرقه. الشعر حركة جمالية بامتياز، تعطي الزمن مسافته الطويلة المزدانة بوردة متفتحة على مر الفصول. يريق الشاعر ذاته في القصيدة، ويشحنها بتفاعلات الحب والموت والقلق. يسير بخطى الحروف والكلمات، يبثّ روح الإيقاع في كتلة اللغة، جاعلاً للمعنى موسيقى. عندما تهجم الحيرة والعذاب والألم، وعندما تطبق العتمة على الروح، يولد نورٌ خفيّ في الذات، يتجلى في قصيدة يقف فيها الشاعر أمام مرآة روحه، وتطلع كلماته من فم قلبه.
     يحمل سلمان زين الدين كلماته مثل مصباح يضيء به ليل الكون، فتشع مشكاته بنور يرسم الجمال والحب، في استغراق صوفي نابع من قلب يفيض بأسئلة الوجود المرهفة. قصائده هي جرح في الغيب، هي بوح مستمر. يجهد للوصول إلى الحقيقة لكنه لا يصل. فالوصول هو شكل من أشكال النهاية أو الغياب. شعره يشهد على خصوصية وقدرة ولغة متناسلة في ذاتها، في مكانها وزمانها، وتتشابك مع وعي الإنسان والمعرفة والحياة. هو أشبه ما يكون بقيثارة تعزف صوراً اختزنتها ذاكرته من مشاهد الطبيعة في قريته. نزعته صوفية وهاجسه وحدة الوجود. يؤمن بالارتقاء وصولاً إلى الذات المطلقة. كلماته تلامس جوهر الإنسان والحياة، هذا الجوهر الذي لا يمكن مقاربته في شكل نهائي. فهو في محاولة مستمرة لملامسة هذا الجوهر الملتهب. لكن في كل ملامسة، التهاباً آخر، ناراً أخرى مفتوحة على حقول اللهب. يطرح أسئلة ترتاد المناطق القصية في الذات، وينسج ذاته قصائد تعبق بروعة روحانية. وقود شعره هو الحب، والمرأة فيه قضية إنسانية عالية. حواؤه هي شهرزاد التي "كانت تضمر فعل التغيير بانحيازها للحياة بما اختزنته من ألوهة الفعل الإنساني". قررت صنع الحياة وإعطاءها "معناها القائم على العدل".
     عمر شبلي هو الآخر شاعر خرج من رحم المعاناة والأسر والصبر. شعره مجبول بقضيته الكبرى، آمن بها على طريقته وبذل في سبيلها أجمل سني شبابه. صقلته مرارة تجربته لتجعله شديد الحساسية، ولتجعل نظرته إلى الدنيا أعمق وأشمل وأكثر إنسانية. شعره بكاء الروح ونزيف الشعور، يذرف فيه مكنوناته، وهو أيضاً قبسات فكرية صوفية وفلسفية، يكشف جمال الوجود ليزيده وجوداً. وحين يكون ناقداً، لا يخلع ثوب الشعر، بل يزخر نقده بالصور الشعرية والبلاغية واستحضار أفكار الكثير من المفكرين والشعراء. يقول إن "الشاعر يجب أن يكون ناقداً قبل أي شيء آخر". نقده ليس هدماً، بل يهدف لاستخراج ما هو مكنون ومغطى في النص الإبداعي، هو "خلق معنى من المعنى" عبر التأويل. نقده كاشف لمواطن الدهشة والابداع في النص الذي يتناوله. يخوض في شعر سلمان زين الدين دون أن يخلع انحيازه لتلك الجذوة التي تشع نوراً في شعر هذا الأخير. نقده "يتّسم بالحب" كما يقول، "لأن الحب وحده يغري بالاكتشاف ورؤية ما لا يرى". برأيه، الشاعر الكبير هو مثقف كبير، لكن الوجدان الشعري يتمرّد على الحضور الثقافي، و"الشعر هو الدليل الأبقى على بقاء الحياة".
     في كتابه "جذوة من ثلوج جبل الشيخ" الذي يحلّل فيه شعر سلمان زين الدين يبين لنا السيميائية العالية التي تتقنها قصائد زين الدين، وسيطرة روحه على صياغته، وحلوله في شعره. يظهر صخب ذات الشاعر في صياغة الكلمات، فيغدو المكان، والقرية خاصة، امتداداً لتلك الذات، لا بل هو لا يرى إلا ذاته، تتحول الطبيعة معه بتحولات عمره. المكان ليس خارج الذات، يخلقه الشاعر كما يحسه لا كما يراه. يقيم علاقة صوفية بين الزمان والمكان. في أقواس قزح، يبين لنا عمر شبلي كيف يأخذ الزمان صفات المكان في شعر زين الدين، فزمان قصائده قروي كالمكان، وكيف يهيمن الحزن على المجموعة دون أن يصل إلى حدّ الكآبة. فالحزن الشفيف في شعر سلمان هو حنين العودة إلى القرية، حنين الذكريات. أحزان الشاعر تدفعه إلى استمرار الحلم والصعود لتسلق جبل الأمنية. يطغى في القصائد صخب جبل الشيخ وكبرياؤه وبذخه، وقد أعطى هذا الجبل الشاعر القدرة على ترجمة "الحب المندلع من معاشرة المكان والزمان". يحاول الشاعر أن يتحد بالجبل المؤتزر بالأبدية ليكونه. يتقمص الجبل بعناده وعدم خضوعه.
     يبرز عمر شبلي الصفة الكونية في شعر سلمان زين الدين الذي يعبر عن السعي الدؤوب للسير في رحلة مترقية وحثيثة صوب الله: "بين نبعي ومصبي قدري العودة للبحر ومجراي الوصول". يشدّد على الرؤيا العرفانية عند الشاعر، وعلى إيمانه العميق بالحلول والترقي في الكينونات المتعاقبة. "فإذا ما جسدٌ مني تداعى ترحل الروح إلى جسم جديدٍ ترتديه مثل غمدٍ وتلبي دعوة الحق إلى عرس الإياب". يظهر لنا الناقد كيف أن الشاعر ينعى الشباب الكابي على مداخل السنين، ويلوم المرآة لخيانة الجسد في معركة الزمان، يقف أمامها "مذعوراً كملدوغ بأفعى"، لأن فيها تنكشف الهزيمة أمام حقائق العمر. لكن شعر سلمان زين الدين لا يحمل اليأس بل فيه نبتة الحياة، وهو مصنوع من مادة البقاء والخلود: "أم تراني أطلق النور على جيش الزمن وألاقيه بما في جعبتي الغراء من شعر وفن".
    الشعر يخلق الجمال المعصوم عن الموت، فيشارك في صنع الكون. يسهم في بناء الحضارة لأنه "يزيل أول ما يزيل الظلام من النفس فتشرق بنور ربها" كما يقول عمر شبلي. هو سبب نجاح إنسانية الإنسان في صنع مصيره والتدخل في تغيير مجرى الحدث. يقول سلمان زين الدين: "هي الكلمات حين الكون يعروه انتقاص تكمل الكونا". وفي مكان آخر نقرأ: "ليت شعري كم من الأجسام أحتاج لأرقى وأنا منذ بزوغ الدهر أخطو وإلى أن يهرم الدهر ستبقى خطواتي تنثر الطيب على الدرب الطويل فتنة الدرب سبتني لم يعد يشغلني هم الوصول".
     يبقى الابداع حياً طالما بقيت الأسئلة القلقة تضع المبدع على المحك، محك المتاهة والصفاء في آن واحد، وطالما سعى باتجاه النور الأسمى، يدين "بدين الحب". ف"ملة العشاق واحدة هي الله" كما يقول عمر شبلي، و"بالحب وحده نصل إلى قلب الله". لا حياة خارج مراتع الحب في مسالك الحياة الوعرة. الحب هو نسغ الكينونة، وأوسع مكان في الكون لاستيعاب الحبّ هو القلب. هذا القلب العاشق الذي "يؤازر" سلمان زين الدين في كل كتاباته.
*ألقيت في الندوة التي أقامها المجلس الثقافي للبقاع الغربي وراشيا حول كتاب الشاعر عمر شبلي " جذوة من ثلوج جبل الشيخ".

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى