سياسةمحليات لبنانية

صورة عن مظاهر الهدر والعجز: الدولة تدعم المدارس الخاصة 516 مليار ليرة منحاً مدرسية (دراسة قانونية مدعّمة بالأرقام)

 

يبلغ عدد العاملين في القطاع العام نحو 300 ألف لبناني، يشكّلون نسبة 25 في المئة من حجم اليد العاملة، وهي نسبة مرتفعة جداً مقارنة ببعض الدول الأوروبية. وانطلاقاً من هذا العدد، يُصرَف 42 في المئة من قيمة الموازنة العامة التي تزيد بقليل عن 23 ألف و854 مليار ليرة، على الرواتب والأجور والمنافع وملحقاتها، وذلك استناداً الى أرقام معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، التابع لوزارة المالية. فيما يُصرَف 35 في المئة على دفع الفوائد ومنها خدمة الدين العام، 9 في المئة النفقات الاستثمارية، و14 في المئة على نفقات جارية أخرى.

أنّ شكل الاقتصاد يحدد موقف الدولة من القطاع العام ومؤسساته، ففي النظام الإقتصادي الرأسمالي ليس للقطاع العام أهمية فائقة لأنه في أكثر الأنظمة ليبراليةً، ينعقد جزءٌ من دور الدولة مباشرة على رعاية التعليم الرسمي، لتصبح المدرسة الرسمية حلقةً أساسية من انتظام التعليم.

في لبنان، الدولة التي تنتهج النهج الليبرالي في الاقتصاد، ويسعى المنادون بسيادة الدولة في مجالَي الأمن والدفاع، إلى تقليص هامش سيادة الدولة في مجال التربية، فالنظام الاقتصادي اللبناني كنظام اقتصادي حر ليس مستغرباً عليه، إحاطة الدولة لمواطنيها بقدر عالٍ من الاهتمام المتمثّل بالتقديمات والمساعدات، خصوصاً المتعلقة منها بالصحة والتعليم. لكن المستغرَب هو هدر المال العام على فئة غير منتجة اقتصادياً بحجة تأمين وظائف وتقديمات للمواطنين. وتعطى هذه المنح الدراسية لموظفي القطاع العام لقاء تسجيل أولادهم في المدارس والجامعات الخاصة، لتشجيعهم على تعليم أولادهم في المؤسسات الخاصة، وإبعادهم عن المؤسسات التعليمية العامة، بدل الاهتمام بالمؤسسات العامة (المستشفيات والمدارس والجامعات الحكومية)، التي لا تلقى مساعدات كافية من الدولة، ولا دعماً معنوياً عن طريق رفدها بأبناء الموظفين الحكوميين.

نصت المادة العاشرة من الدستور اللبناني": التعليم حر ما لم يخل بالنظام العام أو يناف الآداب… ولا يمكن أن تمس حقوق الطوائف من جهة إنشاء مدارسها الخاصة.  هذا النص الدستوري سمح بإنشاء مدارس خاصة تابعة لأشخاص أو مؤسسات مدنية أو لطوائف ومؤسسات دينية وذلك إلى جانب المدارس ومؤسسات التعليم الرسمية.
حسب هذه المادة من الدستور التي ترعى حرية التعليم والتي لم تحترمها الطوائف الدينية على وجه الإجمال، وأعطيت الاجازات بفتح المدارس المجانية للجمعيات والافراد على حد سواء، لغاية عام 1993، فانتشرت تلك المدارس على مجمل الأراضي اللبنانية. فاستباحت الطوائف الدينية سيادة الدولة في مجال التربية، وفقاً لمشاريعها الفئوية في التنشئة الاجتماعية، لا وفقاً للأحكام العامة التي تصدرها الدولة، فكانت المدارس الخاصة المجانية، ذات الوضع القانوني الملتبس الذي لا مثيل له في العالم حتى من ضمن الأنظمة الأكثر ليبرالية
تجربة المدارس الخاصة المجانية غير مشجعة للدولة للإستثمار في التعليم الخاص، وأكثر ما يدعو إلى التعجب، هو الخطاب الصادر عن بعض المرجعيات الدينية، وقوامه أن المدرسة الخاصة هي كالمدرسة الرسمية ذات منفعة عامة. علما أن مدارس الطوائف تعمل على إذكاء الثقافات الطائفية، وتعميم فوضى التعليم الديني، وخلق بيئات منعزلة، وأجيال متعصّبة، فأصبحت المدارس الخاصة المجانية، أداة نهب الدولة من قبل المؤسسات التربوية للطوائف، عن طريق هدر مليارات الليرات سنوياً على المدارس الخاصة المجانية، فالجهات المسؤولة عن إدارة هذه المدارس تضخّم أعداد التلاميذ المسجلين لتحصل على أموال إضافية من الدولة. (علي خليفة – الاخبار-16-1-2018).
أن ما تكسبه الجمعيات غير الدينية حوالي 15 مليار ليرة، والجمعيات الدينية للمؤسسات الدينية الإسلامية حوالي 29 مليار ليرة، وللمؤسسات المسيحية حوالي 4 مليار ليرة. هذا الدعم في مجال التعليم والتربية أيضاً. يرصد سنوياً في وزارة التربية مبلغ لدعم ما يسمى «مدارس خاصة مجانية». في عام 2018 رصدت الدولة 115 مليار ليرة لهذه المدارس. وهي أصلاً تعمل بموجب تراخيص أو امتيازات يمكن تأجيرها، والأمر المثير للشكوك واللافت هو التهافت على تأجيرها أيضا.
صحيح أن التلامذة مستفيدون وهم وحدهم من يستحق هذا الدعم، إلا أن تأجير التراخيص أو الامتيازات مفيد للتجار أيضاً. هم يتنعمون بأموال الفقراء. فتراجع دور وأهمية المدرسة الرسمية نتيجة الإهمال والترهل، وتقدمت وتميزت أكثرية المدارس الخاصة، إذ يبلغ عدد هذه المدارس 366 مدرسة تضم حالياً 140,312 طالباً، هذه المدارس هي ابتدائية (معظمها تابع لمؤسسات وجمعيات دينية إسلامية ومسيحية)، حيث وصلت مساهمة الدولة الإجمالية للمدارس الخاصة المجانية إلى نحو 115 مليار ليرة سنوياً، حسب "الدولية للمعلومات". أي أن النسبة ترتفع أو تنخفض وفقاً لعدد الأساتذة في الملاك. (المركزية، 10-7-2019)
يضاف إلى ما تدفعه الدولة من مساهمات الى المدارس الخاصة المجانية، ما تقوم بدفعه كمنح تعليمية ممّا يسهم أيضا بدعم المدرسة الخاصة وتشجيع التعليم الخاص بصورة غير مباشرة، على حساب المدرسة الرسمية، مما يزيد من عدم ثقة الموظف بمؤسسات القطاع العام، فعمدت الدولة عن طريق تقديم منحاً مدرسية لأبناء الموظفين والعسكريين العاملين لديها، الذين يتعلمون في المدارس الخاصة، وهذا بدوره يؤدي الى تشجيع الموظفين والعاملين في الدولة على تعليم أولادهم في هذه المدارس.
خلال السنوات الماضية، ارتفعت قيمة المنح المدرسية نتيجة ارتفاع كلفة التعليم بشكل كبير في تلك المدارس، إذ أن الدولة تغطي إما كامل القسط أو نسبة معينة منه من دون تحديد حد أقصى أو بنسبة معينة مع تحديد حد أقصى وذلك تبعاً للجهة الحكومية التي تعطي هذه المنح. حتى وصلت في موازنة العام 2018 إلى نحو 430.3 مليار ليرة موزعة على القطاعات التالية:
      الجيش اللبناني: 122.2 مليار ليرة – قوى الأمن الداخلي: 62.5 مليار ليرة – الأمن العام: 14.5 مليار ليرة – أمن الدولة: 5.960 مليار ليرة – الجمارك: 7.450 مليار ليرة. – تعاونية موظفي الدولة: 120 مليار – صناديق التعاضد: 20 مليار ليرة. – المؤسسات العامة والبلديات: 75 مليار ليرة" . ( الشهرية   الإثنين ٠١ تشرين الأول ٢٠١٨)

ولتفصيل توزيع المنح التعليمية، يمكن الركون إلى المنح التي يتقاضاها الموظفون، عبر تعاونية موظفي الدولة. فموظف الدولة المنتسب إلى التعاونية، يتقاضى عن كل ولد في مرحلتي الروضة والإبتدائي، في التعليم الخاص غير المجاني، 57 في المئة من قيمة القسط الفعلي، وتبلغ قيمتها كحد أقصى 2 مليون و40 ألف ليرة. وفي التعليم الخاص المجاني والتعليم الرسمي، يتقاضى الموظف منحة مقطوعة تبلغ مليون و20 ألف ليرة. وترتفع قيمة المنحة في المرحلة الثانوية في التعليم الخاص النهاري، لتصل إلى 3 مليون و430 ألف ليرة كحد أقصى، فيما يأخد الموظف منحة مقطوعة عن ولده في التعليم الرسمي، بقيمة 2 مليون و20 ألف ليرة.

أما في المرحلة الجامعية، فطالب الجامعة اللبنانية يستفيد من منحة مقطوعة تبلغ 2 مليون و260 ألف ليرة، في حين تصل قيمة المنحة في الجامعات الخاصة إلى 6 مليون و760 ألف ليرة. وإذا أراد موظف القطاع العام إرسال أولاده لمتابعة التعليم في الخارج، فيستفيدون من منحة تبلغ الحد الأقصى للمنحة المعتمدة في لبنان.

      إن هذه المبالغ المرصودة في الموازنة هي مبالغ تقديرية مرشحة للارتفاع بشكل أكيد نظراً لزيادة عدد أفراد القوى المسلحة وعدد الموظفين وأيضاً زيادة الأقساط في بعض المدارس الخاصة، لذا فإن قيمة التقديمات المدرسية قد تصل إلى نحو 516 مليار ليرة، أي بارتفاع 20% عن الكلفة المقدرة في الموازنة، عدا عن المبالغ التي تدفع للمدارس الخاصة المجانية والبالغة حوالي 115 مليار ليرة.
موظف القطاع العام نفسه، لا يثق بالدولة ولا يثق بالمؤسسة التي يعمل فيها. فمستوى التعليم الرسمي منخفض مقارنة مع مستوى التعليم الخاص، يعود ذلك إلى غياب الإمكانيات المادية المطلوبة لشراء وسائل الإيضاح وتجهيز المختبرات والمكاتب في المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية.

وتبتعد ثقة الموظف بدولته أيضا اذا ما نظرنا في حقيقة الروابط والنقابات والاتحادات العمالية، التي تدّعي حماية الموظفين والعمال. وهي في الحقيقة لا تحمي سوى مصالح الزعامات السياسية وأرباب العمل. وقفز أحزاب السلطة فوق خلافاتها أثناء انتخابات تلك الروابط والنقابات، دليل على سيطرة الأحزاب وغياب صوت الموظفين والعمال الحقيقي.

إن تخصيص هذه المبالغ الكبيرة يسهم من دون شك بدعم المدارس الخاصة على حساب تطوير المدرسة الرسمية، وبدلًا من إلزام العاملين في الدولة بتعليم أولادهم في المدارس الرسمية وفي الجامعة اللبنانية، ليبقى التعليم في المدارس الخاصة على نفقة من يرغب من العاملين في الدولة.
وعندها على الدولة أن تستثمر في التعليم الرسمي كما هي التوجهات في كل النظم السياسية، لا سيما منها الليبرالية، فلماذا تقبل الدولة والقيمون عليها أن تُستباح سيادتها إلى هذا الحد وتُنهب أموالها؟
أخيراً، نصل هنا الى قناعة راسخة، أنّه يجب علينا أن نوفّر للتعليم الرسمي عناصر التطوير التربوي بمختلف أبعاده ومستوياته وشروطه لكي نخرج من دولة المزرعة (نظام التبعية والاستزلام والواسطة والانهيار الاقتصادي الذي نعيشه الآن)، الى" المشروع الوطني الذي تؤتمن عليه المدارس الرسمية، ".
وكان الأحرى بالدولة ان تستثمر هذه الأموال في المدارس الرسمية لكي ترفع انتاجيتها وبالتالي تتمكّن من جهة، تقديم تعليم متميز لأبناء الطبقات الفقيرة، للحد من التفاوت الاجتماعي، وانتاج رأسمال بشري كفؤ يؤدي الى الإسهام بزيادة الناتج الوطني وزيادة النمو الاقتصادي، ومن جهة ثانية يخرجنا من ما نتخبّط فيه من مشاكل طائفية ومحاصصات، الى بناء وطن لجميع أبنائه.
* باحث تربوي

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى