ثقافة

النظام القيمي بين احكام المعنى وعلم الاخلاق *

 

د. حاتم علامي- الحوارنيوز خاص
تشكل فلسفة فردريك نيتشه، وميشال فوكو، وجان لوك، وليفيناس نقاط ارتكاز في البحث حول تاريخ جديد تكتبه البشرية في صراعها من اجل البقاء، وفي الانماط، والاتجاهات التي ستتجلى في عصر قادم، وكذلك في ولوج محورية الارادة ومحايثها للقدرية. والكتابة في حالنا ليست عملية تماه مع هذه النظرية او تلك؛ فقد كان واضحاً من خلال عرض الفصل الاول لتطور المسألة الاخلاقية حقيقة التواصل بين النظريات والفلسفات، والمفاهيم كما رأينا في تأثير المذاهب ما قبل اليونانية في فكر الفلاسفة المحدثين لعصر النهضة، وعلماء الاجتماع، وعلماء النفس، ومختلف العلوم الطبيعية والاجتماعية، حيث تعتبر النظريات الفلسفية الاساسية مرتكزات للتأسيس لتطوير النظريات التي تستجيب للتحديثوالتغيير.
وفي المقاربة التاريخية تبدو نتائج مرحلة انعتاق الانسان من سيطرة الدين كأيديولوجيا تزيح جوهر الدين من الإيمان الى ملجإ للهروب من المسؤولية التي وضعتها الأديان على عاتق الانسان المؤمن، ومن ثم مرحلة الرأسمالية وهيمنة روح الربحية  على كل النظريات والافكار التي تعاطت  مع التطورات المتلاحقة، وتداعيات البنية السوسيوثقافية على الخيارات الفردية والجمعية  من هذه الزاوية او تلك.

يتوقف محمد عابد الجابري عند مصطلح نظام القيم فيقدم  مقارنة في الاستخدام اللغوي في اللغة العربية واللغة الاوروبية، بالاضافة الى استخدامها في الحقول المتنوعة كالفنون والاقتصاد؛ وصولاً الى استعمالها في الاخلاق، اي القيمة الاخلاقية، وهي بالمعنى الاجتماعي حكم شخصي يتطابق بدرجة ما مع ما يراه المجتمع خيراً بإطلاق. من هنا صارت الكلمة تستعمل بصيغة الجمع غالباً، بل كقيمة من ضمن مجموعة من القيم تشكل سلماً، سلم القيم ترتب فيه القيم في الضمير الفردي والجماعي من اقواها الى اضعفها.
يحدد اندريه بريدو مصد القيم في الاحكام الشخصية اولاً لتتحول ثم الى الطابع الاجتماعي تنتقل من الطابع السيكولوجي. ويحدد "بريدو" خصائصها الاساسية بإثنتين، الاولى هي الغائية، اي انها تطلب كغاية بحد ذاتها، والقابلية للمقاربة وترتيبها في سلم تبعية التمييز بين القيم الوهمية من صنع خيالنا، والقيم الاصطناعية كالموضة، والقيم المادية الضرورية لحياة الانسان، ثم القيم الجمالية، والقيم الفكرية ثم القيام الاخلاقية التي تعلو جميع القيم الاخرى دون التوقف عند إحداها.
وهي بذلك معايير للسلوك الاجتماعي والتدبير السياسي ومحددات لرؤية العالم واستشراف المطلق.

عبر هذه المقاربة نتحرك  في بلورة المفاهيم التي تؤسس لتحرير الارادة الحرة من التداعيات القيمية  السلبية التي تساهم في تقرير فعالية الارادة ومداها، وذلك من خلال مجموعة من المسارات التي تتفاعل مع ما يزخر به المعنى القيمي تبعاً للحرية الفردية وسوسيولوجيا الاخلاق.

لذلك فإن جينالوجيا الاخلاق توفر سلاحاً معرفياً مهماً للعودة الى الاصل، عبر الجينات الاخلاقية، ومعاينتها في مختبر الاحداث الواقعية للتاريخ، اي تحرير العقل المعرفي من دوغما التجريد الفلسفي عبر نظريات مسبقة للحكم على الحقيقة.
فالجينولوجيا مع ميشال فوكو تسمح للفلسفة ان تلتقي بالتاريخ، واعادة النظر في الاساس الميتافيزيقي المفاهيمي  القائم على الثنائيات. وما تظهره الجينالوجيا هو ان الاصول هي حصيلة الصراع، حيث الانسان وهو يشتغل ويتكلم ويحيا ويرغب انما يضيع تاريخه الخاص، ويجد نفسه محاطاً بنوع من الحقيقة التي توافق ما يحدث.

في نطاق اصول الحقيقة تحضر في فلسفة فوكو النظرية التي استعارها من نيتشه حول علاقة السلطة بالحقيقة، ذلك ان ما ندعو حقيقة هو نتاج لصراع القوى.

من هنا فإننا نتوجه الى البحث في اصول الاخلاق من خلال عدة مستويات نبدأها مع الموروث الاخلاقي والمسارات التي سلكها الفكر في اعادة هندستها انطلاقاً من مقاربات، يهمنا منها تلك التي تكثف فاعلية اتصال العقل والوعي بالواقع وتعمل على تزخيم الفعل الارادي الحر، باعتباره محرك الصيرورة الوجودية.

وهنا يبرز موضوع الهوية الأخلاقية وديناميته  بين الموروث واعادة الهندسة؛ ذلك ان

مفهوم الهوية الاخلاقية اسوة بالمفاهيم الانسانية النسبية يثير صعوبة في تعريفه وفي التعامل مع اوجهه  المختلفة التي تعكس اختلاف آراء المدارس الفكرية العديدة.

يوضح معجم المعاني المصطلح انطلاقاً من كونه اسم فاعل من هوي، واسم الهوية هو البئر البعيدة القعر؛ اما المعجم الوسيط  فقد اشار الى ان الهوية في الفلسفة حقيقة الشيء او الشخص الذي تميزه عن غيره.

من خلال المعاني والاستخدامات المختلفة فإن الهوية تعبر عن حقيقة ذاتية تميز الفرد عن غيره، كما تستخدم في تمييز المجتمعات والدول تبعاً لمجموعة من الخصائصالتي تنفرد بها؛ اما الهوية الاخلاقية فهي في السياق السمات والمحددات التي تميز فعلاً اخلاقياً، وتعتبر ذات صفة معياريةفي تقييم الافعال والسلوكيات.

في مجال بحثنا حول الارتباط بين الهوية الاخلاقية والقيم لابد من العودة الى الاصول مع النظريات المختلفة التي تناولت بنيتها ونظامها القيمي؛ التي تترسخ مع ربط سقراط  وافلاطون بين المعرفة والهوية الاخلاقية، انطلاقاً من مقولة انه (لكي تعرف الخير يجب ان تفعله).
فقد شكلت المقولة سمة النظرية التطورية المعرفية، واستحوذت الفكرة في المقابل على ردود فعل من اتباع المدرسة النظرية الذين اعتبروا ان للفعل الاخلاقي في خاصته التكوينية النظرية اولاً من خلال البواعث التي تتكون كفكرة قبل ان تواجه امكانية تحققها كفعل.

لقد أبرز النقاش في الهوية الاخلاقية استخلاص علاقتها بالمنظومة القيمية، وذلك من خلال تمييز شخصية الانسان وهويته استناداً الى معتقداته، ونسقه القيمي، وميوله، وعاداته، وثقافته، وقد اعتبرت بمثابة البصمة للانسان التي تعكس طبائعه وخلقه.
لذلك فقد اعتبرت بمثابة الشيفرة التي يمكن للفرد من خلال فك رموزها معرفة نفسه في علاقته بالجماعة التي ينتمي اليها، والتي عن طريقها يتعرف اليه الآخرون باعتباره منتمياً لتلك الجماعة.

لقد طبعت المذاهب الفلسفية النظرة الى الهوية الاخلاقية انطلاقاً من المنطلقات والاتجاهات التي تميزت بها هذه المذاهب، ومحطتها الرئيسية مع الميتافيزيقيا. حيث تشكل فلسفة كانط في الاخلاق نقطة بداية في تصنيف النظريات الفلسفية للهوية الاخلاقية.
فقد جاءت فلسفة كانط ابرازاً للانقسام الفلسفي بين مذهبين حيث انطلق عدد من الفلاسفة من ان العقل هو المعيار الوحيد الذي نحكم به على الاخلاق، وأبرز ممثلي هذا المذهب: سقراط وافلاطون وارسطو، وديكارت، واسبينوزا، وكانط، وقد اعتبروا ان ماهية الكائن هي التي تفسر قيمته، وهي ماهية ثابتة ومطلقة.

اما النظرية النسبية في الاخلاق فتنطلق من ان جميع الاحكام ليست مطلقة او موضوعية او عالمية، بل هي نسبية ومتغيرة، ومتأثرة بواقع المجتمعات وترتبط بالتقاليد والممارسات والتاريخ، وتتغير من وقت لآخر.
وقد توزعت النظرية النسبية الى النسبية الفردية، والنسبية الاجتماعية. في حقل الممارسة يشكل موضوع الهوية الاخلاقية اختباراً للمنظومة القيمية، انطلاقاً من الطابع الاعتباري للاخلاق من حيث هي توصيف للافعال الراهنة، ومعيار للافعال المنشودة  في عالم الانسان.
لقد طرح تقدم العلوم اسئلة جديدة على فلسفة الاخلاق وكانت محاولات التوفيق من خلال ثنائية الابعاد المعرفية القيمية والابعاد التطبيقية للفعل الانساني، اما التقدير لهذه الافعال فيعتمد على عنصرين أساسيين، الأول هو مفهوم المعنى والقيمة الاعتبارية، ولاسيما في مدى المدارك المعقلنة لتوجيه الأفعال وتنظيمها تحت المنطق والخير ومعاملة الآخرين بروح العدل والمساواة؛ ومن المفهوم ان الأفعال الخيرة التي ترتبط بمفاهيم فلسفة الإرادة انما نعتمد على الذاتية الحرة المستجيبة بحكم الهدي وروح الجماليات لجوهر عملية التغيير الإيجابي.

أما العنصر الثاني فيتعلق بواقع المجتمع وأثر البنية الاجتماعية في إنضاج فواعل الثورة وخطابها للتغيير. فمصطلح الثورة أصبح عبر التاريخ مرادفاً لكلمة التغيير، والثورة هي فعل انساني زاخم بروح التمرد بحثاً عن صيغة جديدة لتغيير واقع أصبح التخلص منه أمراً لا بد منه.
ينظر في هذا المعنى الى المنظومة الأخلاقية كنقطة تداخل بين العوامل الثقافية والاجتماعية التي تمتد جذورها في اسس الانثروبولوجيا وبنية المجتمع، وتحكم نظرته إلى المعاني والقيمة الاعتبارية التي تميز تعاطيه مع التطورات، ولا يمكن فصلها عن الهوية والانتماء لكل جماعة بشرية.
إن تحليل تعقيدات هذه المنظومة ونتائجها على الصعيد الإنساني يقود إلى استخلاص مساقات ترسيم خلاصات للقيم الاعتبارية في المرحلة المستهدفة؛ وإذا كان العلم في تقدّمه واكتشافاته، إبتداءً من العلوم الطبيعية إلى العلوم الإنسانية قد حقّق إنجازات في الوصول إلى حقائق جديدة، فإنّه لم يتبيّن أنه من السهل تحويل المفاهيم والأخلاق في المجتمعات بالسرعة المطلوبة أو في الاتجاه المنشود.

ثمّة مصطلحات مشتركة في حياة البشر على المستوى العالمي، وهذا الطابع الكوني يطرح السؤال حول تطوّر المذاهب الأخلاقية. ومع أن معظم النظريات تشهد هيمنة نموذج قيمي على المبادئ التي تميز الفكر، وتسهم في توجيه المواقف ورسم السلوكيات ازاء الأديان عبر التاريخ، وبدرجات متفاوتة على الصعيدين الجغرافي والعرقي والديني، فإن انقسام الآراء ضمن هذه الأديان نفسها، وبروز مذاهب شديدة التأثير جاء ليطرح السؤال حول ما يمكن أن تؤول إليه إشكالية التداخل بين مكونات البنية الأخلاقية.

وفي مدى التطور يدرس التأثير المتبادل بين علم الاخلاق واخلاق الثورة العلمية.

شكلت العلاقة بين العلم والأخلاق، وبالتالي خصوبة الحقل الذي توفره لفهم الأبعاد المتبدلة اشكاليات جديدة في استكشاف المنظومة الاخلاقية؛ ذلك أن المجتمع الذي يصل إلى تحقيق الانسجام بين تطوّرات العلوم ومنظومة الأخلاق والقيم الاعتبارية في فهم التغيّرات، وأحداث المنشود منها، يوفّر طاقة حيوية للتطوّر ودفع مسارات التمايز والتقدّم وتحقيق المزيد من الإنجازات، سواء بالنسبة إلى قاعدة العلوم أو كذلك بالنسبة إلى مآل القيم الاعتبارية الجامعة، في بناء الشخصية الدينامية للتطور، وتكريس مفاهيم نهضوية جديدة تتماشى مع تحدّيات عصر ما بعد الحداثة، من خلال الدور الريادي الذي يتماهى مع الهوية والشخصية الحضارية.
نتوقّف، لذلك، عند أبعاد ومستويات ومحدّدات العلاقة بين العلم والأخلاق تحت عناوين ثلاثة يؤمل أن تجيب عن السؤال:

1. تطوّر العلوم ودورها في بلورة القيم وتوجيه الأخلاق التطبيقية.
2. التأسيس لعلم الأخلاق خلال مراحل تطوّر النهضة العلمية والتحوّلات التي طالت المفاهيم والسلوكيات.

3. العلاقة بين العلم والأخلاق من شغل الخواء إلى اتجاه الافتراق .
.
شغلت مسألة دور العلم في بلورة القيم والتأثير في الأخلاق العملية حيّزاً أساسياً في دراسة المذاهب الأخلاقية، ذلك أن دراسة هذه المذاهب جاءت لتسلّط الضوء على التمييز بين الخَلق والخُلق والتمييز بين الأخلاق الفطرية والأخلاق المكتسبة.

أوضحت التعريفات المتداولة  الكيفية التي تطوّرت من خلالها القيم الإعتبارية، والتي كانت محوراً للديانات القديمة والمعتقدات التي ارتبط بها توجيه الإنسان إلى الأعمال الحسنة وتجنّب القبح والأعمال الشرّيرة، ومن الطبيعي أن هذه المعتقدات كرّست جهدها لمواكبة تطوّر تعقيدات الاجتماع البشري بتعزيز النزوع نحو الحيّز العام بحيث تكرّست بعض القيم الكونية التي شكّلت الطابع الحيوي للأخلاق.

يعتبر تطوّر الفلسفة الأخلاقية الموجّه والإطار لتكريس الروابط بين الأخلاق بطبيعتها الفطرية والسلوكيات الناجمة عنها، فقد جاء تجريد المفاهيم الخاصّة بالأخلاق ليميّز بين مسائل جوهرية من خلال:
– تصنيف الأخلاق إلى أخلاق نظرية وأخلاق تطبيقية والبحث في مآل التجريد الفلسفي لبناء مفاهيم قيمية كأساس للمنظومة الأخلاقية التي تحدّد سلفاً القيم الاعتبارية التي يجب أن تحكم الموقف الفردي في أناه وفي تفاعله مع الآخرين.
– ترافق تطوّر فلسفة الأخلاق مع تحوّلات شهدها الفكر العالمي من خلال النظريات التي أعقبت، بصورة خاصّة، الفلسفة اليونانية ومنهجية البحث الجديدة، والتي شرّعت أبوابها فلسفة إيمانويل كانط في ميتافيزيقيا الأخلاق.
– فتح النسق الفلسفي في تناول موضوع الأخلاق المجال للبحث في الأدوات المعرفية، واتخذ من تقدّم العلوم سنداً للكشف والتحليل، انطلاقا ًمن العلوم الطبيعية إلى العلوم التطبيقية، وصولاً إل العلوم الإنسانية؛ ولاسيّما الحقائق المتّصلة بحياة الإنسان وعلاقته بالطبيعة.
ضمن هذه المحاور يمكن النظر الى التفاعل بين العلم والأخلاق، تفاعلات السياق التي حكمت هذا التفاعل.
لا بد في السياق من التعامل مع الثورة العلمية الجديدة  وتأثيرها في النظريات والتطبيقات الأخلاقية؛فقد

جاءت منجزات الثورة العلمية في المجالات كافةً، والتي شهدت دفعاً غير مسبوق مع الثورة التكنولوجية، لتطرح إشكاليات جديدة في موضوع علاقة العلم بالأخلاق، ذلك أن العلم هو دينامية فاعلة في الاتساق المعرفي، ومنبعاً لفعاليات جديدة مبنية على تراكمات معرفية ومتسقة مع القدرة الإنسانية في الاكتشاف واستنباط الحقائق وتوظيف منتجاتها في الواقع الإنساني.
والأخلاق بصفتها متلازمة إنسانوية وجودية تتموضع في النفس البشرية وتعبّر عن الإرادة الإنسانية المعقلنة في سلوكيات  موصوفة خاصة  بالشخصية الفردية وتفاعلاتها مع الطابع الجمعي.

لقد جاء تطوّر العلوم والتعاطي مع المشكلات الراهنة ليطرح على الأخلاق أسئلة مستجدّة ذات صلة بجوهر المنظومة الأخلاقية في تفاعلها مع البنية الاجتماعية والتطوّر المستدام والآثار الناجمة عن الثقافة الكونية الجديدة التي نجدها في صراع مع ثقافات محلّية وجهاً لوجه
نميّز في السياق بين علم الأخلاق باعتباره القواعد والأدوات المعرفية لدراسة موضوعات الأخلاق، وبين علاقة الأخلاق بتقدّم العلوم وتطبيقاتها. من هنا نشأ مفهوم التطبيقات الأخلاقية التي ترتبط بالموقف القيمي الأخلاقي من الممارسات العلمية في الحقول المختلفة ولاسيّما تلك المتّصلة اتصالا جوهرياً بمسائل خلافية تعنى بالحياة الإنسانية والخيارات التي تواجه العقل العلمي الإنساني إزاء موضوعات معقّدة تدخل في تحديد مصير الإنسان، كما هو الحال في مجالات الطب والموقف من الإجهاض، والموت الرحيم، ليطرح السؤال حول قدرة الموقف الأخلاقي على التعاطي مع نتائج التطوّر في المجالات المختلفة دون المس بالحقوق الأساسية للإنسان وكرامته.
من المعروف أن قضية المشروعية في مجالات تقنية وطبّية وبيئية واجتماعية وثقافية قد أظهرت إلى العلن نقاشاً ساخناً وطرحت أسئلة شديدة الحساسية، ولاسيّما في المجتمعات التي تخضع لاعتبارات دينية من نوع الإجهاض، والمثلية، والموت الرحيم، وتهديد البيئة بأفعال بشرية مدمّرة ضماناً لاحترام الطبيعة وديمومة الإنسان وعقلنة السلوكيات في استثمار الموارد الطبيعية.
ولا يقل شأناً التحدّي الأخلاقي إزاء تطوّر وسائل الإعلام وما يقابل إيجابيات هذا التطوّر من تهديد لخصوصية الإنسان ومصير هويته وشخصيته الثقافية، ومواجهة مخاطر إفساد الأخلاق، سيّما وأن هذا التطوّر يطال بصورة أساسية الجيل الذي يؤسس للمرحلة القادمة في المجتمع، وهو ما نشهده اليوم من تأثير استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأعمار الفتية، وما تحمله من أفكار تساهم في تشويش عقولهم وتزيد من أجواء القلق والاضطراب  وممّا لا شك فيه أن التركيز على محور التطبيقات الأخلاقية يعكس الحاجة إلى مقاربة موضوعية توازن بين مقتضيات مواكبة التطوّر، وعدم الابتعاد عن مسؤولية العقل المنفتح في التفاعل الإيجابي مع تقدّم العلوم حتى لا يصير هذا التقدم تهديد للفرد والمجتمع بالانسلاخ عن المعتقدات والتقاليد أو إبقاءه في حالة تخلّف وابتعاد عن الاستفادة من منجزات العلوم التي تتماهى استخداماتها الصحيحة مع إيجابيات الحرية الإنسانوية الخلاقة.
-التأسيس لعلم الأخلاق واحكام القيمة
انطلاقاً من موجبات مقاربة العلاقة فإن نشوء نظريات علمية للإجابة على تحديات العلاقة بات امراً طبيعياً يدور السؤال عن الحاجة إلى مثل هذا العلم، لتجيبنا الوقائع التي يعيشها الإنسان في حياته الفردية والجمعية بأن الحياة تضع الإنسان في مواجهة ظروف وخيارات تستدعي معها اتخاذ مواقف محدّدة؛ هذه المواقف تشكّل مرآة لطبائع الإنسان وخلقيات الجماعة التي ينتمي إليها.
بين الأهداف الرئيسة التي أثّرت في التأسيس لعلم الأخلاق وتطوّره تبرز التوجّهات التي كانت مدار اهتمام للبحث عن المبادئ وترتيبها واستنباطها والكشف عن أهميتها للحياة الأخلاقية، وذلك من خلال التمييز بين الخير والشر، والحسن والقبيح، ورسم الاتجاهات المرغوبة لتصرّفات الإنسان؛ أي أنّه من العلوم المعيارية التي تهتم بوضع المعايير للحكم على الأفعال ووضع المبادئ والمعايير التي توفّر الحكم على الإرادة الإنسانية في إتيان الأفعال في مراحلها المختلفة، وتبعاً لنتائجها وتقييم صلاحها بالنظرلاعتبارات وأحكام كل مذهب من المذاهب الأخلاقية التي تطرّقنا إليها في الباب السابق.
أفضت تعقيدات الحياة الفردية والجمعية إلى إشكاليات في تضيف الأفعال الإنسانية، وكان لا بد من تجاوز ساحة الاهتمام التي انشغلت بها الفلسفات الأخلاقية القديمة والدائرة الأنطولوجية لتفسير الموقف الأخلاقي.
شكّلت نظرية "ديفيد هيوم" محطّة مهمّة في التأسيس لعلم الأخلاق من خلال التفرقة والفصل بين أحكام الواقع وأحكام القيمة، وبين الموجود والواجب، وتعتبر النقطة الأساسية في نظرية هيوم هي: "أن النقلة المنطقية مستحيلة ممّا هو كائن" إلى ما ينبغي أن يكون أو من الوصف إلى التقويم.


• من كتاب الدكتور حاتم علامي؛ الاخلاق ،الإرادة ، والقدر ؛ الوباء وحرب الهويات . منشورات جامعة MUBS

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى