
|
هدى سويد ـ إيطاليا – الحوارنيوز
رحل اليوم عن عمر88 عاما ،جورج ماريو بيرغوليو، البابا فرانشيسكو الأرجنتيني الأصل ، اول بابا يسوعي في تاريخ الفاتيكان.
هو المثقف الذي أكمل دراساته الإنسانية في تشيلي ، ثم تخرج في علم الفلسفة، وبين عامي 1964 و1966 عمل أستاذا في الأدب وعلم النفس بعد عودته إلى بلاده.
صفاته، دراساته، ثقافته ويسوعيته، طريقة عيشه وتواضعه من قبل،إذ كان محبا للبساطة ومساعدة الفقراء، كرة القدم والتنقل بالأتوبيس وفن الموسيقى، تحديدا التانغو كما الشعر، جميعها أثّرت قي أفكاره ورسائله الفلسفية الشاعرية في آن، وفيما بعد تكريسه حبرا أعظم.
جميعها التقت فيه مؤثرة في شخصيته الفريدة البسيطة والعميقة المحببة المقربة من الآخرين، ولعله كان الأقرب في إيطاليا من الباباوات الذين سبقوه بعد جيوفاني باولو(بولس الثاني).
متواضع في تنقله واختياراته، وحر بعيدا عن الأسر والثراء ،راتب صفر ، بيت بسيط ببنية فندقية داخل مدينة الفاتيكان، يعرف بسانتا ماريا حيث كان يلتقي أصدقاءه بصورة تلقائية عفوية كالناس العاديين،جميعها جعلت منه البابا بلغة فريدة مميزة ، لغة شاعر وفيلسوف مقرونة بحبه للنكتة، محب للفوتبول ومتابعا للمباريات حين يتسنى له ، محب للكلمة وللصحافيين ، كما لم يسبق من قبل في الفاتيكان لغة شبيهة ، حاد في آرائه مع السياسيين ومرتكبي الظلم والجريمة والخطأ بحق السلام والإنسان عالميا ومحليا.
الشفّاف المنفتح على الفنون والثقافات ،الوديع الحنون والمدافع عن كل المتألمين في العالم لغاية لحظات حياته الأخيرة ، كما شهدنا مدافعاته الدائمة عن شعب غزة أو لبنان وأوكرانيا وغيرها من الدول التي تتعرض للعنف وهمجية الحروب.
فلنقل أن البابا واجه الكثير من المواقف السياسية المحلية لبعض الأحزاب اليمينية المعارضة بخاصة لقضية النازحين خلال وجوده ومن خلال رسائله.
ترك منذ تكريسه كل يوم عبارة، موقفا وشعرا يتقنه . أولى عباراته التي لا تنتسى ما قاله عند تكريسه مخاطبا الحشود بكلمة مساء الخير وأنهاها ب” صلوا من أجلي”. لغة جديدة سواء بالتحية الإنسانية العادية أو بطلبه منهم الصلة كي يوفقه الله!
ما أود ذكره في هذا المجال ما كان له من تأثير عميق في الذاكرة كموقفه ورسالته الموجهة الى 368 مهاجرا، لقوا حتفهم في البحر، وكان ذلك أخطر ما حصل للمهاجرين في البحر المتوسط (وهنا لا أرغب بالدخول في التفاصيل وما ألقي من لوم ومسؤولية سياسية إنسانية) .
في ذلك اليوم الثالث من أكتوبر 2013 توجه البابا بالمركب إلى لامبيدوزا جنوبي إيطاليا حيث حصلت الحادثة على مقربة،من دون التمكن حينها من الإسعاف السريع ، حاملا تاج زهور ورماه في الموج . طريقة وإيماءة شاعرية إنسانية ورسالة مطولة فحواها مخاطبته للموتى ومن لم يتحمل المسؤولية، قائلا بما معناه باختصار:
“الذين ماتوا في البحر، تلك المراكب التي كان بوسعها ان تكون أملا لهم انما كانت طريقا لموتهم ، بقي موتهم كشوكة في القلب تحمل ألما ، شعرت أن علي المجيء للصلاة على ارواحهم وان نكون على مقربة منهم وايقاظ الضمير”
مرددا عبارتين انجيلتين :
أين انت يا آدمو(آدم) ؟
اول عبارة وجهها الله للإنسان بعد الخطيئة .
أين اخوك؟ صوت دمه لم يزل يصرخ قربي ؟”
مضيفا:” هؤلاء اخوتنا واخواتنا عانوا المصاعب، جاءوا يفتشون عن مكان أفضل لهم ولعائلاتهم، لكنهم وجدوا الموت! علينا ألا ننسى الإنسانية، كم من مرة هؤلاء لم يجدوا ترحيبا واستقبالا بمجيئهم، بل أن البعض يعتبرهم مصدر ربح ، وللأسف يقع الكثير من المظلومين بين أيدي هؤلاء التجار”.
في تلك الرسالة طلب البابا المعذرة من الضحايا طالبا بوعدهم عدم تكرار ما حصل.
أثناء دخوله الأخير للمستشفى ورغم حالته الصحية الحرجة وجه نداء لوقف الحرب، كما كانت مواقفه دائما، وقف الحرب في العالم وغزة تحديدا قائلا ” تبدو الحرب أكثر عبثية، إن الضعف البشري قادر على أن يجعلنا أكثر بما يدوم وما يزول ، ما يحيي وما يُميت، ولعل هذا هو سبب ميلنا في كثير من الأحيان وتجنب الأشخاص الضعفاء والمجروحين ،فهم قادرون على التشكيك في المسار الذي اخترناه أفرادا وجماعات”، مضيفا أن “الهشاشة تزيدنا وضوحا، علينا أن نجرد الكلمات من سلاحها لنجرد العقول والأرض من سلاحها ،هناك حاجة ماسة للتأمل والهدوء والشعور حقيقة بما وصلت إليه الأمور من تعقيد”.
لا يمكن الا الكتابة والمزيد عن هذا الإنسان الذي حاول بلسمة جراح المتألمين والدفاع عنهم بسلاحه، أي سلاح الكلمة ، وقلما يمكن إيجاد رجل دين بهذه المواصفات بعيدا عن الكراهية والبغض ساعيا إلى نشر السلم والمحبة ، بل تعليمهم من جديد هذه المواصفات كيف بوسعنا أن نُحِب ونُحَب .
وأخيرا أود القول إنه سيكون من الصعب كثيرا أن تحمل الأيام القادمة شخصية مرهفة وحكيمة كما كان البابا فرانشيسكو الذي رحل هذا الصباح، وأجدني أستعين في ختام هذا النص بجملة قالها خلال العام المنصرم في المستشفى عند تعرضه لنكسة صحية مماثلة للأخيرة، قال فيها بمعنى طلب الشفاء :
“أنا أيضا بحاجة إلى مُلاطفة المسيح”.