رأيسياسة

أكتب بين نهرين من دماء(نسيم الخوري)

 

د.نسيم الخوري – الحوار نيوز

ماذا يعني الحبر بعدُ  لمن يكتب في لبنان سوى المزيد من القهر اليومي في مسلسلات الإنهيار والعزلة والرتابة  والفقر والجوع؟ 

تتساقط دموعك شيخاً وأنت تدفع راتبك الشهري كاملاً لصاحب المواد؟

 نعم، تبكي باصقاً على الكتابة وأنت تسمّي نصك وتشاوره قبل نشره وتوصيه بأن يتحول كل حرف منه رصاصة أو صلاة جماعية ليأخذهم جميعاً إلى جحيمه بعدما صار لبنانكم خردةً للبيع على الأرصفة المتنوّعة المذاهب والميزانيات في بلاد العرب والإسلام والعالم. 

أكتب بين حبرين: حبر يسيل خلف التبشير السياسي اللبناني اليومي بالدم الأسود الذي لن يغطّي عريهم ، وحبر يتقفّى الدم البارد المهدور يومياً في في الساحات والأفران ومحطات البنزين كي لا يقع رأس لبنان ليذيب الأحزان والأحقاد السياسيّة والمذهبيّة التاريخية المحشوة أبداً شرراً بالنفوس . تلك هي نيران الكتابة بين مئة  لبنانٍ ولبنان ومئة حزب وحزب وعرب وعرب ومسلم وآخر فوق وطن بحجم الكفّ يختزن الفيالق المتتالية ، بحثاً عن الشعب الضائع السخيف الخائف من القيادات المتكوّمة لكنها فاقدة الصلاحية لقيادة سيارة. 

أجوس الكلمات المتفجّرة بمعظمها هنا، قبل أن أستعملها. أشاورها وحيداً وطويلاً، وأشعر وكأنها لطخة أو ندبة في جسدٍ لبنانيً تهلهل بكوارثه المزمنةالمتفاقمة، ولن تيبس دماؤه وهو لا يرى حوله. وأشعر بعدما أغسل الكلمات أو أنقعها بذوراً، لأخرج بها إلى النور مجدداً، وكأنّ لا همّ عندي سوى تسنيد الواقع بالكلمات قبل هبوب الحرائق. لنتذكّر بأنّ أجدادنا المولودين من طحين الصخر وملوحة المتوسط، سبقونا في رجولتهم وكراماتهم . كانوا يتركون زوجاتهم وبناتهم يبذرون الحبوب اليابسة في الأثلام انتظاراً لربيع آتٍ ، ولكنّ معظمنا صرنا لا نتحسّب سوى لتسوّل قروش مثقوبة تبيّض شقاء شعوبنا عندما تسوّد التصريحات والصحف والنصوص بالموت الآتي. نحار في الكتابة عن زمرة سياسيين لبنانيين لا رعاة لهم ، لنطوّق بعض العرب بمزدوجات تدليلاً على عتبنا منهم لكنّهم مغلوبون وقد أذهلتهم الدهشة من تخلّفنا. 

بتّ أُنظر إلى الطاقات المنبعثة أو الكامنة في أجساد الكلمات كلّها وكأنّها محنطة مسكونة بالإنحطاط ، لربّما توضع ونحن معها وفيها بين المزدوجات للحفاظ عليها، فمن قال بأنّ السمكة الصغيرة لا تسمُن فتصير حوتاً يخزّن الحبرُ والدم لا ليكسد أويبكي عجزه أو شيخوخته أو موته، بل ليحرّك هذا التخلّف العتيق المتنامي والأسود في اللسان السياسي اللبناني؟

أتجاسر بالكتابة قافزاً من جوف الموت ولو عصرت السطور لزاجتها حفاظاً على شابات لبنان وشبابه ومستقبله. هو خروج مؤقّت مشغول بسين الغد، أتطلّع فيه الى أحفادنا الذين ينخرطون بالدنيا مدركين ما كابدناه وعشناه، ونحن الذين قرعنا أبواب الشرق والغرب، قبل أن تزحف قوى العالم إلينا.

الكتابة إذن؟  

لا مأوى سوى الكتابة التي ماتت أو تموت وقبل أن تنتفي مثل غيمة تلبّدت فوق إرتجال الألسنة وارتحالها عن ناموسها وشرفها. نعم الكتابة قبل أن تحرق الأجواء أجساد الكلمات والوطن فلا يداويها مبعوث أو طبيب وسياسي أجنبي ولا قدرة على حفظها في الصدور والمواقف أو في الخزائن المنسيّة المخلّعة تحت أقدام الجهاديين عاشقي بعث الإنحطاط والوعورة الإمبراطورية المركونة منذ ما قبل التاريخ. 

أهرّب نصّاً مقصوداً مجبولاً بالدم وأرميه في الضوء الآتي من الزمن البعيد لأوقظ حكّاماً يعجنون وطنهم طينة ليست صالحةً لإعادة البنيان النفسي والوطني، أو على الأقل لحلم استعماله ملاطاً صادقاً قد يرفع البناء السياسي اللبناني مجددا. ليس هذا مستحيلاً! أنظروا من حولكم أين هو الخليج وأين أنتم يا أتعس السياسيين. إنّه التحدي في بذرة الشمس وحضارة التغيير وقد أصابكم العمى وكأنك لا شعب من حولكم.

ما زلتم أيها الأوغاد تُصدّقون الأغنية البالية بأنكم عاصمة الفكر العربي ومطبعة العرب وجامعاتهم ومدارسهم ومشفاهم ولوحاتهم ومعارضهم وحداثتهم. مساكين تدّعون بكونكم حضن الديمقراطية والحريّة والموضة والمعارضة والثورة. لستم سوى حبّة اللوز الأخضر تُملّحونها ببقايا الصحراء المجفّفة العالقة فوق شفاههم، بعدما يطفئون شموسهم هاربين من جنونكم. كانت بيروت لكنها تعيش اليوم معزوفة تكديس المقابر والأسلحة والرعب غريب عجيب إذ بات الجميع منقادين نحو الحروب والمعارك المفروضة التي يهلّل لها ويقتنيها ويتبنّاها فيحييها دماً أسطورياً مستورداً ومفروضاً للأجيال القارئة القادمة رمت وطنها خلفها في براميلكم المقلوبة فوق الأرصفة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى