العالم العربيسياسة

حرب الذهب الازرق في ليبيا

 


محمد صادق الحسيني
على الرغم من التناقض الكبير ، الذي يمكن للمراقبين والمحللين السياسيين رصده ، في المواقف المعلنة والاصطفافات العسكريه الروسية التركيه ، التي تعكس صورة تلك التناقضات ، في المشهد الميداني الليبي ، الذي نتابعه منذ حوالي عام ، اي بعد هجوم قوات حفتر على طرابلس ، وحتى الآن ، فان من الضروري القاء نظرةٍ على خلفية ، ما يدور من صراع عسكري على الارض ، وبين الدوافع او الاسباب الاقتصاديه لهذه الحرب .

ان اهم مبدأ من مبادئ العلوم السياسيه هو مبدأ ان الاقتصاد هو الذي يقرر شكل السياسه ، المتبعه من قبل دولة او دول ، اي ان المصالح الاقتصاديه والماليه للدول المنفرده او التكتلات الدوليه هي التي تحدد معالم سياساتها ، سواءً الداخلية او الخارجيه . وانطلاقاً من هذا المبدأ فان علينا العودة قليلاً الى الوراء ، للوقوف على جذور ما يجري الآن من صراع عسكري في ليبيا وحقيقة مواقف الدول الكبرى من هذا الصراع ودور كل منها في مساراته .
ان من نافل القول ، طبعاً ، التذكير بالسياسات الاقتصاديه الاميركيه ، المعاديه لكل من روسيا والصين وايران وحلفائها ، ومن نافل القول ايضاً التذكير بالضغوط المتواصله ، التي مارستها وتمارسها الادارة الاميركيه ، على الدول الاوروبيه المحتله اميركياً منذ نهاية الحرب العالمية الثانيه ، التي يطلق عليها حلفاء اميركا الاوروبيين . اي دول الناتو والاتحاد الاوروبي ، التي ومهما قاومت اي ضغوطات اميركية لا بد لها ان تخضع لتلك الضغوط ، في نهاية المطاف .
ولعل ابرز مثال على الخضوع التام لهذه الدول ، لارادة المحتل الاميركي ، هو قرار الحكومه البريطانيه الاخير ، القاضي بالتخلص من وجود شركة هواوي ، الصينيه العملاقه ، العاملة في حقل الاتصالات في الاسواق البريطانيه ، وذلك بحلول عام ٢٠٢٧ .
اما في ما يخص دور او ادوار الدول الاوروبيه ، في الحرب التي شنت ولا زالت تشن على الشعب الليبي منذ عام ٢٠١١ وحتى اليوم ، فان عنوانها ومحركها الاساسي كان الغاز الطبيعي تحديداً ، وليس الغاز والنفط كما هو شائع خطأً . فمن المعروف ان الولايات المتحده تشن حملة واسعة النطاق ضد تزويد روسيا للاسواق الاوروبيه بالغاز الطبيعي ، عبر شبكة من خطوط الغاز الروسيه ، التي تقوم بنقل الغاز من منابعه المختلفه في روسيا ، الى نقاط توزيع ، على الدول الاوروبيه الاخرى ، تقع الاولى في النمسا والثانيه في المانيا . وهو ما يعرض هذه الدول للضغوط الاميركيه المستمرة والمتصاعدة لوقف او تخفيف استيرادها للغاز الروسي ، بحجة ضرورة تنويع مصادر الطاقه ، بينما يكمن السبب الحقيقي ، وراء الضغوط الاميركيه ، في رغبة واشنطن في بيعها الغاز الاميركي المسال محاولة الحاق الضرر الاستراتيجي بالاقتصاد الروسي ، وبالتالي بالقدرات الاستراتيجيه الدفاعيه الروسيه .
واستجابةً من الدول الاوروبيه المحتله ، للضغوط الاميركيه المشار اليها اعلاه ، فقد اتخذت المفوضية الاوروبيه قراراً ، تحت الرقم ٣٤٧ / ٢٠١٣ ، باعتبار مشروع اقامة خط انابيب نقل للغاز ، من شرق المتوسط الى اوروبا ، مشروعاً استراتيجياً يخدم مصالح مشتركة لهذه الدول ، وقامت بتمويل دراسات مختلفه ، في اطار التحضير لتنفيذه ، بين الاعوام ٢٠١٥ و ٢٠١٨ ، بلغت حوالي ٣٩ مليون دولار .

وقد اطلق على هذا المشروع اسم : مشروع خط انابيب شرق المتوسط EastMed Pipeline .
اي انه مشروع لنقل الغاز من شرق المتوسط في مصر واسرائيل وقبرص اليونانيه ودولة اليونان ، عبر اليونان نفسها وبلغاريا ، الى بقية دول جنوب شرق اوروبا ، مع اضافة فرع له يصل الى جنوب شرق ايطاليا .
علماً ان ايطاليا تستهلك حالياً ما مجموعه ٧٠ مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي سنويا ، تستورد منها ٣٢ مليون متر مكعب من الجزائر وثمانية ملايين متر مكعب من الغاز الطبيعي الليبي ، عبر خط انابيب ، ينطلق من آبار ڤافا الليبيه ويصل الى نقطة تسليم اسمها جيلا Gela في جزيرة صقليه . وقد بدأ تسليم هذا الغاز الليبي بتاريخ ١/١/٢٠٠٤ ، فيما الغاز الجزائري يصل ايطاليا منذ ثمانينيات القرن الماضي .
ولكن ما علاقة هذا بذاك ؟ اي ما علاقة الغاز الليبي والجزائري بالدور الروسي والتركي ، وغيرهما ، في الحرب الدائره في ليبيا حالياً ؟
ان الحبل السري ، الذي يربط ، الاطراف المذكوره اعلاه ، بخط غاز شرق المتوسط ، هو :
1. محاولة الولايات المتحده اقامة تحالف دولي ، لمصدري الغاز بقيادة "اسرائيل" في شرق المتوسط ، لضرب الصادرات الروسيه من الغاز الطبيعي الى اوروبا . وذلك عبر تنفيذ اتفاقية اقامة هذا الخط ، التي وقعت عليها ، حتى الآن ، كلاً من "اسرائيل" واليونان وقبرص اليونانيه ، بدايةً بتاريخ ١٤/٧/٢٠٠٩ ، وكان من المفترض ان يبدأ تشغيل هذا الخط بداية عام ٢٠١٤ . مع العلم ان الخطط الاستراتيجية الاميركية كانت ، آنذاك ، تنطلق من امكانية اسقاط الجمهوريه الاسلاميه في ايران ، وبالتالي فك التحالف السوري الايراني ، ما يتيح لها دمج احتياطات الغاز الايراني والقطري والسوري ، بالاضافة الى غاز الربع الخالي ، في هذا المشروع الذي تقوده "اسرائيل" ، الامر الذي يسمح لواشنطن بتوجيه ضربة استراتيجيه لصادرات الغاز الروسي الى اوروبا .
ولكن الرياح لم تجرِ بما تشتهي سفن واشنطن ، الامر الذي ارغمها على المضي في المشروع المقلص ، الذي تم التوقيع على اتفاقية البدء باقامته اخيرا ، بين "اسرائيل" واليونان وقبرص التركيه ، بحضور وزير الخارجيه الاميركي ، مايك بومبيو ، بتاريخ ٢٠/٣/٢٠١٩، في تل ابيب . وهو ما دفع الحكومة التركيه الى توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحريه بينها وبين الحكومه الليبيه ، المعترف بها دولياً (السراج ) ، بتاريخ ٢٧/١١/٢٠١٩ ، وذلك لقطع الطريق على تنفيذ مشروع خط انابيب شرق المتوسط .
2. اما عن دوافع الحكومه التركيه ، من وراء هذا التحرك الفعّال ، على رقعة الشطرنج في اسواق الغاز ، فانه يعود الى ان تركيا ، التي افتتح رئيسها ، اردوغان ، خطا لنقل الغاز من اذربيجان الى اوروبا ، وهو المعروف بخط تاناب ( Tanap ) ، العابر للاناضول والواصل الى ايطاليا ، عبر البانيا والبحر الادرياتيكي في اقصى جنوب شرق ايطاليا .
وهذا هو السبب ، الذي يفسر وقوف ايطاليا ، بشكل من الاشكال ، في نقطة اقرب الى حكومة السراج منها الى الطرف الآخر . اذ ان مصالح شركة إيني Eni الايطاليه في ليبيا هي مصالح لا يستهان بها ، وكذلك الامر بالنسبة الى المصالح الايطاليه في روسيا ، سواءً ما يتعلق باستيراد الغاز او بالتنقيب والتصنيع المشترك ، بين الشركات الروسيه والايطاليه ، في روسيا نفسها . وهو ما دفع رئيس الوزراء الايطالي ، جوزيبي كونتي Giuseppe Conte ، الى ارسال رسالة الى رئيس الوزراء اليوناني ، بتاريخ ٧/٥/٢٠١٩ ، يبلغه فيها عدم رغبة ايطاليا في المشاركة بهذا المشروع ، اي بمشروع خط انابيب غاز شرق المتوسط بقيادة "اسرائيل" .
3. اذن ، وبالنظر الى هذه الرساله ، ورفض ايطاليا المشاركه في المشروع ، وبالنظر الى الحدود البحريه المشتركة ، بين ليبيا وتركيا ، والتي تدافع عنها تركيًا عسكريًا وبشكل فعال ، فان من المرجح ان لا يرى مشروع انابيب الغاز هذا النور ، خاصة اذا ما اضفنا الى كل ما تقدم التعقيدات السياسيه وكذلك الاسباب المتعلقه بالجدوى . بمعنى ان الغاز المتوفر من المصادر ، "اسرائيل " وقبرص اليونانيه وبعض الغاز اليوناني ، ليست كافية لضمان تشغيل هكذا مشروع لسنوات طويله .
اذ ان اكبر الاكتشافات الغازيه في تلك المنطقه تقع في مصر وسورية ولبنان وقبرص التركيه وهي جميعها غير مهتمة بنقل الغاز عبر خط شرق المتوسط .
4. اما عن اسباب معارضة تركيا ، لهذا المشروع ، فانها متعددة ، ولكن اهمها :
ان تركيا تريد ان تصبح هي ، وليس "اسرائيل" ، المركز العالمي لخطوط الغاز ، خاصة وانها تملك خطوطاً للغاز الروسي ، التي تمر عبر اراضيها ، مثل بلو ستريم ( الخط الازرق Blue Stream ) ، وتواصل العمل على انشاء خط غاز روسي آخر اسمه : السيل التركي ( Turk Stream ) ، الذي ينقل الغاز الروسي الى اوروبا .
كما افتتحت تركيا ، بتاريخ ١٢/٦/٢٠١٨ ، خطًا جديداً لنقل الغاز من اذربيجان الى جنوب شرق اوروبا ( بلغاريا ) ثم الى ايطاليا وبقية الدول الاوروبيه ، عبر شبكات انابيب الغاز الاوروبيه الداخليه .
وهذا يعني ان مشروع خط انابيب غاز شرق المتوسط هو في عداد الاموات ، خاصة اذا ما وضعنا في الاعتبار احتمال تحسن العلاقات التركيه المصريه وتوجه مصر الى تصدير غازها الطبيعي عبر شبكة الخطوط العابره لتركيا وكذلك اذا ما توقعنا عودة العلاقات السوريه التركيه الى سابق عهدها ، وبدأ تصدير الغاز السوري ، عبر الشبكة المشار اليها اعلاه . مع العلم اننا لا نتكلم عن مشاريع سيتم تنفيذها بين ليلة وضحاها وانما عن مشاريع استراتيجية طويلة الامد ، سيكون لروسيا دوراً كبيراً في تنفيذها ، ما يجعلها قادرةً على التصدي الاستراتيجي لمحاولات الاداره الاميركيه العبث باسواق الطاقة في العالم ، عبر تكريس هيمنتها عليها ، من خلال اذنابها من الصهاينة والقوى اليمينية الاوروبيه ، مثل اليونان ، العمود الفقري لمشرع غاز شرق المتوسط .
5. اذن فان هناك ما يكفي من العوامل الموضوعية ، التي تنفي تناقض المصالح بين روسيا وتركيا في ليبيا ، رغم ما يشاع عن الدور الروسي العسكري الميداني في ليبيا . وهو دور لا يقتصر على ليبيا فقط ، وانما يمتد جنوباً حتى جمهورية افريقيا الوسطى ، وبموجب تفويض من مجلس الامن الدولي لروسيا لاعادة بناء القوات المسلحة في هذا البلد ….
صحيح ان تجميع خطوط الغاز في تركيا سيعطي اردوغان مزيداً من اوراق القوة ويوسع الدور الاقليمي لتركيا ايضاً ولكن ذلك سيتم بطريقة منظمة ومتفق عليها وطبقاً لاحكام القانون الدولي الذي ينظم العلاقات بين الدول . علاوةً على ان كل هذه المشاريع ستشكل حلقات في سلسلة المشروع الصيني العملاق ، طريق واحد حزام واحد ، على المدى البعيد .
6. من هنا فان المصلحة الروسية التركية المشتركة تكمن ، عملياً ، في افشال مشروع انابيب غاز شرق المتوسط الاسرائيلي ، الذي سيلحق اضرارا جسيمةً بمصالح روسيا في اسواق الغاز الاوروبيه كما انه سيمكن الاحتلال الاسرائيلي من سرقة ثروات الشعب الفلسطيني الطبيعيه والتصرف بعائداتها وحرمان الشعب الفلسطيني منها .
والى جانب كل ذلك فان افشال تنفيذ هذا المشروع سوف يؤدي بالضروره الى تخفيف الضغط الصهيواميركي على لبنان والهادف الى سرقة الغاز اللبناني وضخه ، عبر المشروع ذاته ، الى اوروبا ، كما ان افشاله سوف يجعل الاميركي يسلم بالامر الواقع في سورية ، وصولاً الى اقتناعه بعدم جدوى وجوده في شمال شرق سورية ، بسبب انتفاء امكانية سرقة الغاز السوري هناك وتصديره الى اوروبا عبر المسار الاسرائيلي .
فعليه فان القتال الدائر الآن في ليبيا سيتحول الى فرصة لاقامة شبكة تعاون اقتصادي ، بين جميع الدول ذات العلاقه ، سواءً العربية منها او الاجنبيه ، وكف يد الولايات المتحده الاميركيه عن البحر المتوسط وبقية انحاء المنطقه العربيه ، الامر الذي سيمهد الى اعادة اعمار. ما دمرته آلات الحرب الاميركيه في البلدان العربيه ، اعتماداً على ثروات المنطقه وليس اعتماداً على التسولات الماليه من هنا وهناك . خاصة وان الولايات المتحده لم تعد في وضع اقتصادي يسمح لها بمساعدة احد ، حتى لو افترضنا صدق نواياها في المساعده ، وما لنا الا ان نلقي نظرة على الدور الاميركي ، في التصدي لجائحة كورونا ، وعجزها عن مواجهته في الولايات المتحدة نفسها ، كما انها اظهرت الشلل التام في التعامل مع مرحلة ما بعد كورونا . وها هي الدول الاوروبيه تقر اليوم حزمة انقاذ مالي لدولها ، بقيمة ٧٥٩ مليار يورو ، دون حتى التشاور مع واشنطن في ذلك ، وما يعنيه هذا التطور من شهادة على انتهاء الدور الاميركي " الطليعي " وموته  في العالم ، الذي كان في الحقيقة ليس اكثر من هيمنة مطلقةٍ على مقدرات الدول والامم والشعوب .
ان التعامل مع تناقضات الواقع بطريقة عقلانيةٍ ، علمية مدروسةً ، ومنطقية ، تجعل من الممكن تحويل هذه التناقصات الى فرص كبرى وعلى مختلف الصعد والمجالات .
امامنا المستقبل الواعد لو تصرفنا بعقل وبارادة مستقلة وحرة ومقاومة لكل ما هو تسلطي او هيمني ، وهذا ممكن في زمن سقوط عصر الاستكبار وصعود عالم المستضعفين.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى