تراجع الدولار الأميركي ومسقبله: بين تضخم الدين العام وحرب الرسوم الجمركية (عماد عكوش)

بقلم د. عماد عكوش – الحوارنيوز
تُعد عملة الدولار الأميركي إحدى أبرز ضحايا الحرب التجارية في ظل التطورات الأخيرة التي أشعلتها قرارات الولايات المتحدة في ما يعرف بـ “يوم التحرير” الثاني من نيسان ، عندما أعلنت عن فرض رسوم جمركية شاملة ومتبادلة على العديد من دول العالم ، وردود أفعال بعض الدول عليها .
وقد شهد الدولار الأميركي تراجعاً حاداً في قيمته خلال عام 2025 ، حيث وصل مؤشره (مقابل سلة من العملات الرئيسية) إلى أدنى مستوياته منذ اذار 2022 ، مسجلاً انخفاضاً بنسبة 4.7% في نيسان وحده ، وبنحو 9% منذ بداية العام ، وهذا التراجع غير المسبوق يُعزى إلى عاملين رئيسيين :
1. تضخم الدين العام الأميركي الذي تجاوز 36 تريليون دولار .
2. الحرب التجارية وفرض الرسوم الجمركية، خاصة بعد إعلان إدارة ترامب في “يوم التحرير الثاني”.
ان تضخم الدين العام كان له كبير الاثر في عملية انخفاض مؤشر سعر الدولار الأميركي، فمن هي الدول الاكثر تأثيرا” في هذه العملية ؟
تأتي اليابان في المقدمة كأكبر دائن لأميركا، بدين يبلغ 1.08 تريليون دولار من السندات ، وقد اضطر البنك المركزي الياباني ان يرفع أسعار الفائدة ، ما يجعل استثماراتها المحلية أكثر جاذبية من السندات الأميركية، الامر الذي يمكن ان يؤثر على عملية اكتتاب اليابانيين في سندات الخزينة الاميركية .
ثم تليها الصين والتي تمتلك 760 مليار دولار من سندات الخزانة الأميركية ، وتقوم بتخفيض حيازاتها تدريجياً منذ العام 2022 ، وبشكل خاص لمصلحة السندات الاوروبية .
كما زادت الإمارات حيازتها من السندات الأميركية( بنسبة 29% إلى 120 مليار دولار ) لكنها تستثمر أيضاً في أصول غير دولارية مثل الذهب والمشاريع الآسيوية .
في نهاية العام 2015 كان الدين العام الاميركي حوالي 18.15 تريليون دولار اميركي ، ما يعادل 72.2 بالمئة من الناتج القومي ، وفي نهاية العام 2024 بلغ الدين العام حوالي 36.22 تريليون دولار ، ما يعادل 124.16 بالمئة من الناتج القومي وفق اخر احصاءات . هذا الارتفاع الكبير بطبيعة الحال بدأ يضغط على سعر الدولار الاميركي في الاسواق العالمية .
ان الحرب التجارية التي تخوضها اليوم الولايات المتحدة ضد العالم اجمع، وفي مقدمتهم الصين كمنافس طبيعي وجدي وخطير على الاقتصاد الأميركي، بدأت تؤتي مفاعيلها من خلال عودة نسب التضخم للارتفاع والتأثير على زيادة حجم الاستثمار ، كما الخوف من الركود الاقتصادي والذي بدا العديد من الخبراء الاقتصاديين يتحدثون عنه في حالة استمرار حرب الرسوم ، وقد ردت الصين على الرسوم الجمركية بفرض قيود على صادرات المعادن النادرة المهمة للصناعات الأميركية ،ما زاد من تكاليف الإنتاج في الولايات المتحدة . كما عززت من استخدام اليوان في تجارتها مع دول “بريكس”، ما قلل من الطلب على الدولار.
من جهة اخرى فرض الاتحاد الاوروبي رسوما انتقامية على سلع أميركية، ما قلل من الطلب على الدولار في المدفوعات العابرة للأطلسي ،وأدى الى صعود اليورو كبديل في الاحتياطيات الدولية بعد تعافي الاقتصاد الأوروبي من الركود .
لكن كيف أثرت هذه العوامل على الدولار؟
لقد كان لهذه العوامل تأثيرات مختلفة منها :
- هروب المستثمرين من السندات الأميركية . هذا الامر سيؤدي الى ارتفاع عوائد السندات (إلى ما يزيد عن 5 بالمئة لعشر سنوات) بسبب البيع، ما يزيد تكلفة خدمة الدين العام.
- تحويل الاحتياطيات إلى أصول بديلة : ستلجأ كثير من الدول والاشخاص الطبيعيين والمعنويين الى التحول الى الذهب والعملات الرقمية واليوان .
- ضعف الثقة في السياسات الأميركية : ان التقلب في القرارات التجارية والمالية من قبل الولايات المتحدة الاميركية يجعل الدولار أقل جاذبية كـ”ملاذ آمن”.
ماذا عن توقعات المستقبل بالنسبة للدولار الاميركي ؟
هناك عدة سيناريوهات :
- سيناريو التشاؤم : في حال استمرت الحرب التجارية ووصل الدين العام إلى 40 تريليون دولار، قد ينخفض المؤشر 10-15% ،إضافية وتوقعات “غولدمان ساكس”: انخفاض الدولار 9% أمام اليورو والين خلال عام.
- سيناريو التفاؤل :تدخل الاحتياطي الفيدرالي بشراء السندات (كما حدث في 2020) قد يدعم الدولار، لكنه يزيد التضخم، او اتفاق تجاري جديد مع الصين قد يعيد الثقة، لكنه يبدو غير مرجح حالياً.
- السيناريو الكارثي :تحول دول “بريكس” إلى نظام تسوية مدفوعات بعملات غير الدولار، وبالتالي انهيار الطلب على السندات الأميركية الذي قد يرفع العوائد إلى 7-8% ، ما يُفجر أزمة ديون.
هل يفقد الدولار عرشه؟
على المدى القصير: الدولار سيظل العملة المهيمنة بسبب عدم وجود بديل كامل (اليوان غير حر، والذهب غير سائل).
على المدى الطويل: مسار التدهور قد يتسارع إذا:
- زادت الصين من تخفيض سندات الخزانة.
- تبنّت المزيد من الدول نظاماً نقدياً متعدد الأقطاب.
- فشلت الولايات المتحدة في كبح التضخم والديون.
في النهاية فإن التراجع الحالي للدولار ليس مجرد تذبذب سوقي ، بل إنه إشارة إلى تحول جيوسياسي أعمق ، حيث لم تعد الهيمنة الأميركية الاقتصادية مُسلَّماً بها كما في السابق.