أدب وشعرثقافةرأي

الساقيةُ الرَغَـدُ و الجحودُ الغَرِدُ(د.حيان حيدر)

 

بقلم د.حيّان سليم حيدر

 

ويتَكَسَّر السؤال “لماذا تكتب؟” على السؤال “لِمَنْ تكتب؟”.  وطالما حرصت على تذْييل مقالاتي بتفسير أنّني أعبّر عن رأيي بأسلوبي الخاص ليس بهدف التيئيس، كون مضمونها لا يرحم أحدًا أو أي شيء، بل لتحفيز القارىء على البحث عن حلول من خارج المعهود، من نوع آخر، مغاير تمامًا لما سلكناها من طرق والتزمنا بها من قواعد تتحكّم بما نكتبه وما نقوله.  وقد أكون غريبًا، أنا وغيري، عن تلك الأساليب، لكنّي أرى أن أحثّ القارىء على البحث في البعيد وفي العمق.                   

   وعلى الرغم من ذلك يسألني قرّائي: لماذا تكتب وأنت لا تستثني أحدًا، فتركّز على الموضوعات، وتثابر على التقريع بالظالم والمظلوم معًا … إلى آخر منظومة التدقيق فالتعليق.  ثمّ يُرْدِف البعض الآخر من المتابعين المحبّين بتفنيد ملاحظاتهم.  والأمر قد حرّضني على كتابة مقالة بتاريخ 19 آب 2019 بعنوان “رحلة في مؤشّر الثقة” تطرّقت فيها لهذه الظاهرة فأجريت إحصاءً محصورًا بالردود التي تلقيتها على مقالاتي السابقة لأستنتج أنّ كثيرين ذهبوا إلى التعليق بالعبارة “فالج لا تعالج”، يليهم ذوو الميل إلى القول “على من تقرأ مزاميرك يا داود”، ومعها “ما فيش فايدة يا…”، فإلى غيرها من عبارات مشابهة بالمعنى ومرادِفة بالإحباط. 

ولما كنت قد نشأت على قاعدة وجوب مراجعة الأفاهيم والأعمال والمواقف  بغية تصحيحها، سألت نفسي هذا السؤال فخرجت بالجواب الذي لا بدّ أنّه رافقني، من دون علمي، منذ طفولتي ومحوره حادثة حصلت معي وفيها حكمة طبعت تصرّفاتي اللاحقة.

كنّا ثلّة من الصبية في الصفوف الإبتدائية وكانت المنافسات التقليدية على الأوّلية في شتّى مواد الدراسة ومجالاتها.  وكانت المبارزة الألمع في إلقاء الشعر.  وبحماس المُتَلهّف إلى النجومية، فاتحت والدي يومًا طالبًا منه أن يختار لي إحدى قصائده لألقيها في المسابقة الآتية.  فكان لي طلبي.

قصيدة جميلة بعنوان “رسالة”، هادئة الإلقاء، بسيطة المعاني، بليغة الحكمة، واضحة على النظر، رقيقة على السمع.  قد تُطْرَب معها: كلمتان كلمتان تتراقصان في الشطر الواحد، على إيقاع قوافٍ “دودية”.  أبيات ترسم في مخيلتك لوحات، زيتية، مائية، ماهية، ما “هييّ”، والمعاني سهلة سهلة، صعبة صعبة… أبيات تتماوج على (وجه) “البحر الهادىء”.  وفي الدرس المُسْتَفاد، يعلو العتبُ على ذاك الطائش العطِش، المغرور بالنفس، “الطائرُ الغرِدُ”.  ولجمال القصيدة، ولأنّ وصفي لها لا يمكن أن يرقى إلى جمالها، وليبقى المعنى بقلب الشاعر، وكي لا يهزم التشويق القارىء، لقد ذيّلت مقالتي هذه بكامل أبياتها الأربعة عشرة (*).

وشرح سليم لإبنه حيّان المُراد من وراء هذه الرسالة، وركّز على وجوب البقاء في دائرة الهدوء لدى إلقائها لإحترام المجالات كافّة: الصور والموسيقى والحكمة والفلسفة مع إنسياب الأبيات.                                      وذهب الولد متأبّطًا النصر إلى المباراة…  وكانت.

وكانت المنافسة الأساس بين صديقين، ما زالا.  وكان الصراع بين قصيدتين.  الأولى “عَنْتَرية” النبرة بما قد يشبه “الخيل والليل والبيداء…” من جهة، وبين ما أراده ذاك الصبي من مفهومه                       لـِ”… والقرطاس والقلم..”، أي بهدوء الحوار الفلسفي من جهة مقابلة، تمامًا كما تصارعت عليه البشرية منذ نعومة سجال العقل والقلب، وما زالت.

وكانت النتيجة: الجائزة الأولى: لـما تشبه بـِ”الخيل والليل… ” وكانت الجائزة الثانية من نصيب “القرطاس والقلم…”.  فعاد صاحب قلم “فالج… وعالج مزاميرك” إلى والده الشاعر معاتبًا الشعر الفلسفي الهادىء على “تقصيره” في المواجهة، غير مقتنع بجواب الوالد: “لا تزعل يا بني، هذه حال البشر، فلا بدّ لهم من أن يُدرِكوا يومًا، المقاصد الوجدانية لما ألقيته، ولو بعد حين”.  لقد طال الحين يا والدي… لقد طال الحين !

دائمًا ما أسعى إلى التعبير عن الأوضاع وعن المتحكّمين والمتأثّرين بها، وهم نحن جميعًا، باليأس من الإتّكال على نهوضنا وبالعتب على لامبالاتنا وبالسخرية من أوضاعنا، ثمّ أستدرك بالنصح وبالمقترحات وبالمواقف إلخ… في محاولة عنيدة منّي كي لا نستقيل من المستقبل، بقناعة مستقاة من فلسفة حياة تلك الساقية التي ساقت الرسالة/الدرس في البيت الأخير من قصيدتها.  فأقول لنفسي: إن كان من فائدة، ولو واحدة، ولو وحيدة، ولو لشخص واحد، ولو لقضية وحيدة، مهما كانت صغيرة، ولو بعد حين، ولو إعتبرت جهة واحدة، مرّة واحدة، ولو إرتسمت، في هذه الظروف العابسة، إبتسامة واحدة من جرّاء قراءة عبارة ساخرة… إن كان هناك أيّ من ذلك… سأكتب، سأكتب… علّها تفيد أحدًا ما، أو أمرًا ما، في مكان ما، في زمن ما، ولسبب ما !

وفي عيد الأم هذا سيكفيني أن أنقل رسالة تلك المِعْطاءَة الرَغِدة، مع شيء من التصرّف،لأقول يومًا ما:

– قد  كـفـى   أنّـني          أيّها   العائدُ                                                                                                        في حـياتي، وهَـبْ      لم  يعـدْ  لي غـدُ

بالصـلاحِ  قد مــرّ         قائدٌ    يـجِـدُ !

بيروت، في 21 آذار 2022م، في عيد العطاء بلا حساب، في عيد الأم.             

 

 (*)

رسالة

طـائـرٌ   غَــرِدُ               حـطَّ    يـبـتـردُ

عـنـد  سـاقــيةٍ              عـيـشُها   رَغَـدُ

فـضَّـةٌ  خَـلَصـت             ذوبُـهـا    مَـلَـدُ

                                والـثرى ذهــبٌ           والحـصى  بَـرَدُ !

                       قال:  وا حَــرَبـا           عـيشُـكِ  النَـكَـدُ

                       في  ذرى جـبـلٍ            رأسُــهُ    جَـرِدُ

                       مـا   تسلَّـقَـهُ ،             عـمـرَهُ ،  أَحَـدُ

                       ذاهـبٌ  عــبـثًا             مـاؤُكِ  الـزبَـدُ !

                                وانـحـنى   دنِـفًـا             فـوقَـهـا   يـردُ

                       فـارتـوى   ورأى            ظِــلَّـهُ     يجـدُ

                       خافــقًـا   ثـَمِـلًا              وهـي  تـرتَـعِـدُ

                       – قد  كـفـى  أنـني            أيهـا    الـولـدُ

                       في حياتي ، وهَبْ            لم يعـدْ لي غـدُ

                      عَرَضًا   مـرَّ  بـي            طائـرٌ  غَــرِدُ !

                                                                  1947                                                                                      

 

سليم حيدر – ديوان “أشواق” –  قصيدة “رسالة” – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ش.م.ل. – 2016.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى