الذكاء الاصطناعي وسوق العمل: بين الأتمتة واللاعدالة (سعيد عيسى)

بقلم د. سعيد عيسى – الحوارنيوز
في أقل من ثلاث سنوات، انتقل الذكاء الاصطناعي من مختبرات البرمجة إلى مكاتب الموظفين، وصار شريكًا – أو خصمًا – في أداء المهام اليومية، من كتابة الرسائل إلى توليد المحتوى وتحليل البيانات. ومع هذا التقدم المذهل، بدأت علامات القلق تتسلل إلى سوق العمل العالمي. فمنظمة العمل الدولية حذرت مؤخّرًا من أن واحدة من كل أربع وظائف باتت معرّضة للتأثر المباشر بالتقنيات الذكية، لكنّها شدّدت على أن التأثير سيكون “تحويليًا أكثر منه استبعاديًا”.
الوظائف الأكثر عرضة للتأثّر هي تلك الإدارية والكتابية، كإدخال البيانات، الطباعة، وخدمة الزبائن، وهي مهن تشغلها النساء بنسبة كبيرة في الأسواق النامية. وتشير تقديرات المنظمة إلى أن النساء قد يخسرن ثلاثة أضعاف ما قد يخسره الرجال من وظائف في ظلّ موجة الأتمتة المتسارعة. بذلك، لا يقتصر الخطر على التبدلات التقنية، بل يتعداه إلى مفاقمة الفجوة الجندرية التي ما زالت قائمة أصلًا في معظم قطاعات العمل.
أما في القطاعات الإبداعية والتقنية، مثل التصميم والبرمجة والتسويق، فالصورة أكثر تعقيدًا. الذكاء الاصطناعي لا يحلّ محل العامل بالكامل، لكنه يعيد تعريف دوره، ويُجبره على التكيّف. ومن لا يُطوّر أدواته سيجد نفسه خارج المعادلة، بينما من يتقن استخدام التقنيات الجديدة سيملك فرصًا أكبر للتميز، لكن في بيئة تنافسية شرسة وغير مستقرة.
الوظائف اليدوية والخَدمية، رغم بعدها الظاهري عن التكنولوجيا، ليست بمنأى عن التأثير. إذ من المتوقع أن تؤثر التحولات التقنية على أجور العاملين في هذه المجالات بشكل غير مباشر، عبر الضغط الناتج عن انتقال اليد العاملة من القطاعات الممكننة إلى تلك التي لا تزال “آمنة”، ما يخلق فائضًا بشريًا يُضعف شروط التفاوض ويزيد هشاشة ظروف العمل.
لكن ما هو أخطر من التأثير التقني بحدّ ذاته، هو الاستقطاب الاجتماعي الجديد الذي يصنعه الذكاء الاصطناعي. فبينما تتوسع فئة قليلة من الوظائف عالية المهارة، وتبقى الوظائف اليدوية في أسفل السلّم، تُمحى تدريجيًا الوظائف المتوسطة التي كانت تقليديًا تشكّل العمود الفقري للطبقة الوسطى. بذلك، لا يهدّد الذكاء الاصطناعي الأفراد فقط، بل يزعزع التوازنات الاجتماعية التي بُنيت عبر قرن من التنظيم العمالي.
في حين، أنّ الهوّة لا تتوقف عند التمايز المهني، بل تمتد إلى الجغرافيا. فالدول الغنية تملك البنى التحتية والاستثمارات والخطط لإعادة تأهيل العمال ودمجهم في الدورة الرقمية، بينما تُترك البلدان الفقيرة أمام خيارين: إما استيراد التكنولوجيا دون تنظيم، أو البقاء خارج اللعبة. في الحالتين، يتعزّز شكل جديد من التبعية الرقمية يرسّخ الفوارق العالمية بدلًا من تقليصها.
لذلك، منظمة العمل الدولية دعت إلى بناء “ميثاق عالمي لتنظيم الذكاء الاصطناعي في العمل”، لكن التنفيذ يواجه صعوبات سياسية ومصالح اقتصادية ضخمة، خاصة من قبل شركات التكنولوجيا العملاقة. في المقابل، أطلقت بعض الدول تجارب متقدمة على إعادة تأهيل العمال وتوفير ضمانات انتقال عادلة نحو الاقتصاد الرقمي. فالسويد وكندا على سبيل المثال لا الحصر، دمجتا برامج التدريب على تقنيات الذكاء الاصطناعي ضمن أنظمة التأمين ضد البطالة.
وفي ظلّ هذه التغيرات، لا يعود السؤال فقط: هل سيسرق الذكاء الاصطناعي وظائفنا؟ بل يصبح: من سيملك الحق في البقاء والعمل في هذا الاقتصاد الجديد؟ وهل ستبقى التكنولوجيا أداة للتمكين، أم تتحوّل إلى وسيلة جديدة لفرض الهيمنة وخلق فئة بشرية “غير ضرورية” اقتصاديًا؟
ومما لا شكّ فيه إنّ لبنان والمنطقة العربية ليسا بمنأى عن هذه الموجة. ففي غياب السياسات الناظمة، وهشاشة نظم الحماية الاجتماعية، واستمرار التعليم أداة تلقين بدلًا من التمكين، تبدو المجتمعات العربية على أعتاب صدمة رقمية لا بنية لها لاحتوائها. وقد يتحوّل الذكاء الاصطناعي من فرصة للنهوض إلى أداة لتعميق الهشاشة وإعادة إنتاج التهميش الطبقي والمهني والجندري.
وخلاصة القول، الذكاء الاصطناعي قادم بلا شك، لكن العدالة الرقمية لن تأتي من تلقاء نفسها. إنها تحتاج إلى وعي سياسي، وتنظيم قانوني، وإرادة اجتماعية لحماية البشر من أن يصبحوا مجرد بيانات زائدة عن الحاجة.