رأيسياسةمحليات لبنانية

الإيمانُ بالشَّعب؟!(وجيه فانوس)

د. وجيه فانوس – الحوارنيوز خاص

يعيش اللبنانيون، في هذه المرحلة، وجعاً مرعباً؛ ما عرفوا شبيهاً له، حتى يوم عانى أجدادهم أهوال المجاعة والقهر زمن الحرب العالمية الأولى. إن بيروت، وهي عاصمة لبنان، والمفترض أن تكون، بوجودها، المثال الأزهى لمدنه وقراه وسائر مناطقه؛ ما برحت، في هذه المرحلة، تختصر بصدق جارح وواقعية مرَّة، كثيراً من سمات لبنان الحالية؛ وإن كان هذا الاختصار لا يحوي سوى الخراب والبؤس والشقاء وحالات الانهيار والإفلاس والجوع.

إن سكان بيروت، الذين طالما رَنَت إليهم أنظار اللبنانيين، لِما عرفوه عنهم من تآلف معيشي، وما شهدوه لهم من خير اقتصادي، وما خبره كثير منهم من وفرة في فرص العمل في هذه المدينة، ويسر سبل تأمين الرزق؛ باتوا اليوم يتسوَّلون الدواء والماء والطعام؛ زيادة على سائر ما قد يلزمهم من مصادر الطاقة لتأمين الكهرباء، بجميع حاجتهم إلى ما ينبثق من وجودها، من قدرات وإمكانيات؛ وما ينتج عن كل هذا من إقفال للمؤسسات واستبعاد للعاملين وقطع للأرزاق.

إن كانت العاصمة اللبنانية، والتي ما كانت طيلة عهود مديدة، إلا سيدة عواصم العرب، ولؤلؤة في تاج مدن العالم الرئيسة، قد باتت في هذا الحال المريع من الفقر؛ وصار من فيها، إلى هذا الدرك من البؤس والعوز؛ فكيف الحال مع سائر المدن والقرى في لبنان؟

يشهد الجميع، في بيروت، كما في خارجها من المناطق والمدن والقرى اللبنانية، صدق الغالبية العظمى من التجمعات الشعبية التي ما انفكت تملأ الساحات وتضيق بها الشوارع، منذ أكثر من سنتين؛ رافضة لما أصبح عليه اللبنانيون من فقر وما يعانونه من بؤس وما يخشونه من إملاق وقحط وذل. إنها تجمعات الألم، ومعها نداءات الاستغاثة، وفيها صرخات الرفض المطلق لكل ما في هذا الواقع. لكن، ومع كل هذا؛ فإن الأمر برمّته، يكاد يشبه فورات غضب متقطع، يعيشها انسان انفعالي؛ سرعان ما يعود إلى هدوئه، حين يغادره المستوى المرتفع الطارئ لضغط دمه. ومنذ أكثر من سنتين، والمطالب الوطنية تتراكم، والاحتياجات الشعبية تتزايد ولا شيئ يتحقق من كل هذا، رغم تجمعات الاحتجاج وصرخات الرفض وتحليلات ضرورة المحاسبة وأهمية الكشف عن الفاسدين.

يكاد يثبت كثيرون، ومنذ أكثر من سنتين، أن اللبنانيين ناجحون إلى أقصى حد، بل وبامتياز قلّ نظيره، في التعبير عن انفعالهم الوطني والسياسي. إنهم رائعون في التظاهر، وصابرون على تلقي هجمات قوى الأمن عليهم وتحمل نتائجها، ومبدعون في وضع شعارات الاحتجاج وجماليّون في رسم لوحات التعبير عن التقصير الشامل تجاه مطالبهم. جميع اللبنانيين انهمكوا في هذه الأمور، وكثيرون منهم تفرغوا لها لأسابيع عديدة، إن لم يكن لشهور. لم يبق حزب أو تنظيم أو هيئة أو جماعة، إلا وجأروا بأصواتهم الصارخة بمطالبهم الحياتية والمبينة لاحتياجاتهم الضرورية، معترضين؛ وقدموا كثيراً من الآراء والقراءات لهذه الأوضاع القاتلة. كان آخر المطاف، يوم الرابع من شهر آب الحالي، إذ أشرقت مسيرات ذكرى مرور سنة كاملة، على انفجار مرفأ بيروت أو تفجيره.

 ما برحت كثرة غالبة من اللبنانيين، تعود بعد كلَ تجمع أو تظاهرة أو اجتماع، إلى البيوت؛ وقد تأبط كل واحد من ناسها، همومه وهموم الوطن ومآسيه ومآسي الوطن، وعانق اندحاره واندحار سائر الشعب؛ فيضع هذه الهموم، وتلك الاندحارات، قرب وسادة نومه، ويحاول أن ينام؛ آملاً أن يمكن لزعيمه، أو لمن هم في مقام هذا الزعيم، من طائفة ومذهب وعقيدة، كما لأي قوة خارجية، أن يتمكن أحدهم، أو حتَّى جميعهم، من أن يحلَوا له وللبنان، هذه الأكوام المريعة والقميئة والقاتلة لمشاكل البؤس وقضايا الفقر وتراكمات الفجيعة.

قد تكون المصيبة الكبرى، ولعلها الأكبر، التي يعانيها اللبنانيون، أنهم اعتادوا، الانفعال الإيجابي، في فكرهم ومنطق عيشهم، تجاه ما سبق أن شهدوه من خيرات العيش في بلدهم، وذلك منذ عقود ممعنة في امتداد جذورها في أعماق تاريخهم الاجتماعي وضالعة في تثبيت ثقافتهم السياسية؛ كما أنهم اعتادوا الانفعال السلبي، تجاه ما خبروه من عذاب وقهر، إذ كثر فيهم من لجأوا إلى الصبر ودعوا إلى طولة البال. غير أن هؤلاء اللبنانيين، ظلوا يعيشون انفعالاتهم هذه، على تعدد توجهاتهم الفكرية وتنوع انتماءاتهم الدينية والمذهبية، واختلاف انتساباتهم الجغرافية، واحتشاد ولاءاتهم لهذا الزعيم أو ذاك، من دون أن يستوعب معظمهم، على الإطلاق، أن عليهم أن يخرجوا من ضيق الإنفعال ومحدوديته، إلى دنيا الفعل واتساع آفاقه؛ وأن يكون فعلهم هذا، سياسياً عقلانياً موضوعياً وعلمياً، وإلا فإنهم سيزدادون ضياعاً في عباب السُّوء الذي هم فيه اليوم؛ وسيصلون، حتماً، إلى قاع الفجيعة، التي ستلقاهم بكل ترحاب، لتكون القاضية النهائة عليهم.

ترى، هل بإمكان اللبنانيين أن يتفكروا الآن حقاً، أنّ كلّ هذا البؤس وما يحيق به من فجائع، وما يتبعه من فقر وإملاق، وما قد يفرضه على بعضهم من هجرة وتشريد وذل؛ لم يصب أيّاً منهم، إلاَّ لأنه مواطن لبناني فقط؛ ولم يشفع له في كل هذا، طيلة هذه السنوات، أنه من أتباع هذا الزعيم أو ذاك، أو أنه على استعداد لأن يفدي هذا الزعيم بروحه أو بأحد من أولاده؛ وكذلك، فإن كل هذا القهر الذي صار يعمّهم عن بكرة أبيهم، لم ينل منهم، إلاّ لأنهم مواطنين لبنانيين، ولم يبعدهم عنه إيمانهم بهذا الدين أو ذاك، أو تبعيتهم لهذا المذهب أو ذاك؛ وأيضاً، فإن المنطقة الجغرافية التي ينتمي إليها كل واحد منهم، بريئة كل البراءة من أن تكون سبباً في ما أصابه، إذ يتساوى هو، في الإصابة مع سائر اللبنانيين.

واقع الحال، إن ما يلتقي فيه اللبنانيون، ويجمعهم في الوقت عينه، وإن رفضه بعضهم، وإن ما انفك كثير من سياسييهم يعملون على تعميته وتمويهه، وإن ما برح بعضهم يتحجج بأنه قد يكون مخالفاً للدستور؛ ما هو إلا كونهم يشتركون، عن بكرة أبيهم، في أنهم مواطنون في هذا البلد. ومن هنا، فإنَّ وعي اللبنانيين أنهم مواطنون، وتعاونهم على التلاقي، فيما بينهم، عبر فكرة المواطنة، هو باب كبير يتسع لكل طوحاتهم وجهودهم وأفكارهم الموضوعية والوطنية والسياسية الساعية إلى خلاصهم وخلاص لبنان.

قد يكون في الجهد الوطني الرؤيوي، لإنشاء جبهة وطنية موحّدة، قائمة على وعي مفاهيم المواطنة وحدها؛ ومتفاهمة في ما بينها على أن إنقاذ الوطن من بؤسه وفجائعه، أولويَّة استراتيجية على أي طموح سياسي مرتبط بشخص أو حزب أو مجموعة؛ هو المدخل الأساس للخلاص الوطني النوعي، بعد أن لم تنجح التشكلات السياسية، من أحزاب وهيئات وجمعيات وتجمعات ولقاءات، ولا الرؤى السياسية التي لها، من أن تقدم فاعلية إنقاذ حقيقية خلال ما يزيد على سنتين من الصراعات والنقاشات والمجادلات، بما في ذلك ما دار في المجلس النيابي اللبناني، وما كان من أمور استقالة بعض أعضائه.

إن جبهة وطنية موحدة جامعة، تنهض من هذا التأسيس على مفهوم المواطنة، ومن خلال السعي الواحد لإنقاذ الوطن، قد تعني وجود فرصة عملية وطنية، بعيدة عن جميع شياطين تفاصيل السياسة وأنانيتها، لتطبيق ما تؤكه مقدمة الدستور اللبناني من أن الشعب مصدر السلطات، وأن تكافؤ الفرص بين اللبنانيين قاطبة هو أساس الفاعلية السياسية في ما بينهم، وأن لا بد من إلغاء نهائي لكل ما هو طائفة سياسية صارت فعل هدم لمصالح الشعب ودليل تخلف وطني ظالم.

هل، بعد كل هذه المعاناة، من إمكان لقيام لجبهة وطنية موحدة، تضم نقابيين وثوَّار وأكادييمن وأهل فكر سياسي وجماعات أحزاب ومواطنين واعين، ينهضون بمجموعهم هذا، على مبادئ المواطنة، ويلتقون على ما هو وطني استراتيجي فقط وغير سياسي آنيّ البتة؛ قد أصبحت مهيّأة، بنضجِ ما فيها من وعيٍّ وطنيٍّ جامع، وطموح لناسها إلى الفعل الموضوعي البعيد عن أيِّ انفعال وذاتية، لتقول إن “الأمر لي”. إنها جبهة وطنية موحَّدة، تدعو إلى “مؤتمر وطني جامع”، وتعمل على تنظيمه ليتسلَّم السلطة، من يؤهلهم الشعب وحده لهذه المهمة؟

أوليس بين اللبنانيين، بعد كل هذا الاهتراء السياسي والإداري، من لديهم الوعي والقدرة على أن يكون احتشادهم لهذا الهدف قادماً على صهوة جواد المواطنة الحقَّة، وقادراً على إنقاذ الوطن بكليته من بؤسه وفجائعه، ومخلِّصاً له من سفاسف ما خَبِرَهُ من ترَّهات أهل السياسة وفشل رهانه على جهودهم للإنقاذ الوطني؟!!

*رئيس ندوة العمل الوطني – لبنان

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى