رأي

بين الإلحاد والانفتاح الإسلامي (حيدر شومان)

 

كتب د. حيدر شومان*-الحوار نيوز

 

لماذا ينتشر الإلحاد في عالمنا الإسلامي والعربي وتزداد رقعته في كل يوم؟ وهل تكمن المشكلة في من اختار الإلحاد سبيلاً أم أن للدين دوره السلبي في هذا المقام، أو أن للمسلمين عظيم المسؤولية في الإساءة للنظرية بسبب تطبيقهم الخاطئ والكارثي؟

لا ننسى أن القليل من الملحدين في عالمنا العربي من لديهم الجرأة على إعلان إلحادهم واتخاذ مواقف سلبية ضد الإسلام، وتبقى الأكثرية الساحقة ملازمة للصمت إلا أمام من يأتمنونهم  من خواصهم على مكامنهم الخطيرة.

هناك نظرية يحلو للكثيرين التبجح بها والإعلان عنها بكل صفاقة، ألا وهي أن للتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في تعرية مساوئ الإسلام التي كانت في حدود ضيقة من قبل، وتمَّ كشفُها أمام الجميع دون تحفظ أو مواربة وانتشارها على الملأ بشكل كبير وواسع. كذلك فإن الوسائل المساعدة جاهزة ومتاحة لكل ذي رغبة في الإدلاء بدلوه، دون الإفصاح عن هويته أو عنوانه، أو بمستطاعه اللجوء لحضن الغرب والاحتماء بالحرية المتاحة لديه، وهذا ما سمح أيضاً للرأي السلبي من الإسلام أن يرتفع صوته وتنتشر صورته أكثر.

 

لا شك أن للمؤامرات دورها في التهجم على الإسلام ونسف وحدة المسلمين والسعي بكل قوة لنسف أية وحدة قد تنشأ بين طوائفه. وهذا تحصيل حاصل لن نخوض في تفاصيله لبداهية أمره ووضوح معالمه. لكن ولكي ندخل النقاش بعقل منفتح وواقعي وصريح دون أن تأسرنا العاطفة ويشل عقولنا الوجدان، يجب أن نعترف بما لنا وما علينا…

إن الإسلام الحنيف عرض لقضية الإنسان بكثير من التفاصيل التي نجدها صارخة واضحة في الكتاب العزيز وفي أحاديث السنّة النبوية الصحيحة التي لم تعبث بها أيدي الغلوّ والسياسة والكذب على الله ورسوله. وإن الإسلام، بل كل الأديان السماوية، تدعو إلى الخير والتسامح والمحبة والعدل ليعيش الإنسان حراً عزيزاً لا يحكمه الظالمون الذين رسّخهم الاستعمار في مجتمعاتنا فأصبحوا قدراً لا بدّ أن نعيشه. كذلك فإن الدين جاء لخدمة الإنسان وتعزيز مقامه في الأرض وتوجيهه نحو الأعمال التي تدعو إلى خير من حوله، وتصله إلى طريق يستطيع من خلاله أن يحقق الرخاء والتقدّم والتطور.

والذين يعيشون التخلّف والتقوقع ويدعون إلى العودة إلى الوراء ونبذ كل جديد وتطور باسم الإسلام والقرآن، ويطلقون التكفير على كل من يخالفهم بأدنى تفاصيل يعتبرونها مقدّسة، ويهدرون دمه وماله وعرضه متّخذين من حوادث تاريخية قديمة، ونصوص بالية لا يمكن أن تكون كلاماً للرحمن الرحيم ورسوله الأكرم؛ هؤلاء لا يمثّلون الدين في شيء، وأن فهمهم المتخلّف للدين والنصوص، وما يلحقون بالإسلام والمسلمين من أذى مادي ومعنوي حتى أصبح هذا الدين رمزاً للقتل والبطش والجهل والظلام، ليس في العالم الغربي فحسب، بل في وجدان المسلمين أنفسهم الذي يعيشون في بيئة المجتمعات الإسلامية، وبات الكثير من الشباب المسلم يشعر بالغربة عن دينه ويتخذ مسالك أخرى كثيراً ما تكون الإلحاد والكفر.

وقد أثبتت التجارب المريرة التي عشناها طيلة القرون الماضية أننا لا نسلك الدرب السوي الذي نحقّق من خلاله ما ينتج لنا حياة دنيوية صالحة، ولا حياة دينية ناجعة تهدينا إلى سواء السبيل. لقد عجزنا عن حمل الإسلام راية ننطلق من خلالها إلى العالم، كما عجزنا أن نتخذه وسيلة ليتوحّد في طريقه المسلمون. لم يجمعنا الدين ولا القرآن الكريم ولا النبي (ص) وبقينا فرقاً يقتّل بعضها بعضاً ويلعن بعضها بعضاً، حتى باتت للمسلمين سمعة سيئة انعكس وقعها على دينهم وثوابتهم.

ولا شك أن المراقب الموضوعي لأوضاع المسلمين، وخصوصاً في العالم العربي، يلحظ الهوة الشاسعة التي تفصل بينهم وبين الغرب المتقدّم على جميع الأصعدة، ولا نستثني حتى الصعيد الأخلاقي والإنساني. وكثيراً ما يُتحدّث عن تاريخ المسلمين وتقدّمهم وتطوّرهم في ما مضى من القرون لكي يمجَّد الماضي ويُلعن الحاضر وما سوف يأتي من المستقبل الذي لا تبدو تباشيره مضيئة كما تثبته المعطيات الموضوعية على الساحات العربية جمعاء.

وإذ لا ننكر التطور الحضاري الذي عاشه المسلمون في ما مضى، إلا أنه لا بدّ من عدم الهروب من استعراض تاريخ طويل عاشه في كنف المسلمين، حيث الحروب الدموية لأسباب كثيرة منها الاستيلاء على الحكم والتفرّد بشؤون البلاد والعباد، وحيث ظلم الحكام وقهرهم للرعية والقتل والفتك لأتفه الأسباب، وقد بدأت هذه الأوضاع السوداء ولم تمض على وفاة النبي (ص) إلا عقود قلائل. وهذا ما يجب الاعتراف به لنعرف مكامن الضعف في ما خلا. ولسنا في صدد الدخول في محاكاة للتاريخ الإسلامي الطويل وإجراء محاكمات في خضمّه، لكن سؤالاً ينبغي أن يُطرح: ما هي أسباب تدهور حال المسلمين منذ بدء تاريخهم، ويمكن، تجاوزاً، استثناء مرحلة الخلفاء الراشدين، إلى وصولهم نحو الحضيض في وضعنا الراهن؟ أليس دينهم من يدعو إلى المحبة والسلام والتلاقي بين البشر، كل البشر؟ ألا يدعو إلى المغفرة والتسامح والأخوّة بين الناس؟ ألا يحفّز على العلم وطلب العلم وإكرام العلماء؟ ألم يعد هذا الدين رمزاً للجهل والتخلّف والانحطاط والأمية فحسب، بل أصبح أيضاً رمزاً للإرهاب والقتل والعنف في معظم أماكن البسيطة، وحتى التي يعيش المسلمون في كنفها؟

 لا شكّ أن هناك أسباباً كثيرة معظمها لا يتصل بهذه الوريقات المحدودة، والذي أهمّ ما يعنينا في هذا المقام هو كتاب المسلمين الذي هو محور حياتهم، كبيرها وصغيرها، ومصدر إبائهم وعزتهم، يعيش في وجدانهم مع كل آية من آياته الكريمة، ويتفاعلون مع كل كلمة من كلماته. هذا الكتاب الذي ظلَّ معجزة صارخة طيلة قرون طويلة، وسيبقى كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فهل استثمر المسلمون هذا الكتاب العظيم ليكون دستوراً خالداً يعيشون في كنفه، وينعمون في ربوعه، وينطلقون من خلاله إلى كل العالم ليكونوا نماذج علم ومحبة وعطاء؟ 

لا شك أن هناك خللاً في تعاطي المسلمين مع القرآن الكريم وتفاعلهم معه وفهمهم له كما يجب أن يكون الفهم، وإلا لما كان حال المسلمين بهذا الشكل البعيد كل البعد عن مضامين الكتاب الكريم وأفكاره وأنواره. أو فلنقل إن حالهم لما كان ليكون كما أسلفنا لو أن تعاطيهم مع هذا الكتاب كان بطريقة مغايرة. ولو حاولنا استنطاق التاريخ القديم والحديث لأنبأنا بالكثير من المآزق والويلات التي عاشها المسلمون فرقاً وشيعاً نتيجة إساءة فهم القرآن الكريم حيث كلٌ منها يعتبر الصواب إلى جانبه ويتّهم الغير بالكفر والجهل وعداوة الله، وبالتالي كان يُشرّع القتال في سبيله ضد الكفر والكافرين. وكثيراً ما اندلعت الحروب والمعارك وسقطت أعداد كبيرة من المسلمين لتنتهي بعدها بحلول سياسية آنية فيتوقف القتال ولا ينتهي الخلاف الفكري والديني بانتظار مجيء زمن آخر وأناس آخرين وحروب ومعارك أخرى.

لقد اختلف المسلمون في السياسة والفلسفة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق والعقائد والفقه وكثير غيرها، بل اختلفوا حتى في العبادات والمعاملات وكيفية طاعة الباري وتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه، وكل ذلك ناتج من عدم فهم آيات القرآن والسنة النبوية الشريفة كما ينبغي أن يكون الفهم.

وتسوء الأمور أكثر مع تقدّم الزمان والابتعاد أكثر عن عصر النزول، وتزداد الفرقة بين المسلمين، وينبري منهم من يدّعي احتكار فهم الإسلام وكتابه والسنّة، فيستخدم القتل والبطش والإرهاب سبيلاً لتنفيذ أوامر الله ورسوله، ضد أعداء الله والإسلام مستعيناً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية مسوَّغاً شرعياً صائباً لما يفعل. وما نشهده في هذه الأيام دليل على صحة ما ندّعي.

وإذ نقول ذلك فإننا لا ندعو إلى الفوضى في فهم كتاب الله وتدبّر آياته، ولكن هذا العصر، كما العصور القليلة الماضية، تطوّر فيه كل شيء وبات التعامي عن ذلك مأزقاً نعيش في دركاته السفلى، فلا مناص من الاستعانة بهذا التطور للاستفادة منه في تغيير حالنا وتحسين أمورنا، ومن ذلك تدبر آيات القرآن الكريم حسب تطوّر الحال في هذا الزمان، ولكن ضمن شروط لا بد من التأكيد عليها، ووضع خطوط حمر يجب ألّا نتجاوزها، لأن القضية تتعلق بكلام الله المقدس، ومضامينه التي لا تشبه أياً من النصوص البشرية على الاطلاق.

وإذ ندعو إلى قراءة جديدة لآيات الله البينات، فإننا نرغب في فهم يطال الناس جميعاً ليحقق لهم حياة إسلامية واعية تخدم الطريق والمآل، ويؤمّن للمسلمين في مواجهتهم لكل مستجدات العصر بأساليب وأدوات فكرية تستطيع الإجابة عن تساؤلاتها، وتمكّنها من استشراف حلول لمشاكلها، فلا تخضع للمجهول لجهلها به، ولا تركن للمصاعب لتفوقها عليها.

 إن الحاجة لقراءة الآيات القرآنية قراءة جديدة تزداد كل يوم، كما كانت الحاجة إليها منذ قرون أيضاً، وما نعيش في خضمّه من حروب باسم الدين، وتكفير باسم الكتاب، والتفرد بامتلاك الحقيقة من كل فرقة، يحفّزنا جميعاً أن ندعو لاستخدام المناهج العصرية لقراءة النصوص الدينية، من كتاب وسنّة، ضمن الضوابط والحدود الواجب اتباعها في تحقيق ذلك، فالنصوص لا تتغيّر لكن دلالاتها ومعانيها تتبدّل وتتغيّر مع العصر وتقدّمه، وهذا يجب ألّا يقلق المسلمين الخائفين على كتاب الله وسُنَّته، فالله يحفظهما بحفظه، والإسلام قوي بنهجه ومبادئه وتعاليمه، ولا يمكن لأحد القضاء على هذا الدين الحنيف.

إن عدم أخذنا بأسباب القوة والعلم والتقدم والانفتاح هو الذي أدّى إلى عجزنا وضعفنا وجهلنا وتخلفنا وانغلاقنا. أما تذرّعنا بمنطق الابتعاد عن الدين الحنيف وتركنا سنّة السلف الصالح، بحجّة أن الإسلام يحلّ كل الأزمات ولا بد من اللجوء التام إليه وترك غيره الذي لا ينتج سوى الكفر والانحلال والضياع، فقد أثبتت القرون الطويلة الماضية، حيث تقدم الغرب وتخلفنا، ضلال هذا التوجه وانحراف مسلكه.

إن النص الديني، قرآناً كان أو سنّة، لا يكتنف الجمود في طياته، ولا يدعو إلى الانغلاق والتقوقع في بؤر الماضي، ولو كان هذا الماضي عنوانه النبي والسلف الصالح والذاكرة المشرّفة. وإن التفاسير القرآنية، والآراء الإسلامية العامة، التي استقرّت في الوجدان قروناً طويلة، وتركت بصمات جلية في العقل الإسلامي، وفي حركة العلماء والمفكرين وتوجهاتهم، وامتثال أتباعهم بأوامرهم وتوجيهاتهم، لم يعد مقبولاً أن تمثّل القداسة التي لا يجوز مخالفتها، أو أنها تنطق بالحقيقة التي لا يجوز المسّ بها. لا مقدّس في آراء غير المعصوم، مهما كان علمه وفهمه ونبوغه، وما دام باب الاجتهاد مفتوحاً كان حريّاً أن يسير الانفتاح في كل جنبات العقيدة والتشريع، لا الانغلاق والجمود والتقوقع. عند ذلك  يمكن لحركة التغيير أن تستجيب لنداءات الزمان المتغيّر، ومتطلبات العصر المستقبلية، دون أن يكون ذلك على حساب النص الإسلامي المقدّس وإنما الأخذ من إيحاءاته، ودون تصوير الأمر وكأن الإسلام خضع لمبادئ الآخرين، وإنما يكون الانفتاح الذي بلغه المفسّر والمفكر الإسلامي المعاصر من خلال نتائج وأفكار جديدة متطورة ما لم يستطع تداركه ذلك الذي عاش النصوص الدينية منذ قرون طويلة.

 

 

*دكتوراه في العلوم الإسلامية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى