عامل البناء..
يصيح الديك في أذنه وتزدحم العربات في عينيه المرآب ،وهو عامل بناء بائس يقف على لوح خشب يترنح في الأعالي ، يصعد عند الفجر على حبل مشنقة ليصل الى عمله حاملاً ما يكفي من التراب والباطون والماء ليسقط عند المساء كسقوط المقصلة على أمال الأيام ليلمس عتمة الوجع والرصيف ، لا هواية له غير تفكيك عبوات الموت في الحياة ، يضع علامات تعجب وعلامات أسئلة فوق ألغام وجودية ويبحث عن الإجابات بصلاة في معبد يُمنع فيه على أي كان ان ينام في داخله او في باحته بحجة الحفاظ على النظافة.
يُحكى ان الإله يختلي بنفسه في الليل ، ليرتب اوراق القيامة بهدوء و ليضبط مواعيد يوم الحساب بدقة لذلك تجد المعابد خالية تماما عند الظلم و الظلام.
ترى البائس ليلاً، يخطّ على جدران المدينة كلمات غزل لحبيبة رفضت سلامه وهربت من محياه، كانت هنا في لحظة لا إدراك للمشاعر وصارت هناك في لحظة وعي مأسوف عليه .
بائس لأن الأقدار شاءت ان يولد في لحظة خطأ ، في مكان لا يخضع لقوانين التفلت من الجاذبية ليهاجر مع باشق او عُقاب، على مساحة امتداد لقبر من أجل شدّ وضغط نحو عمق أعماق ارض الوطن والأمة ليُدفن وليرقد بسلام .
يتابع الأخبار من عليائه، عبر راديو صغير يربطه حول رأسه ليساعده على الحفاظ على توازنه في بلاد و أمة فقدت التوازن وتعثرت في السير نحو غد أفضل، نحو غد وعده به والده المؤمن بقوة بنهضة الأمة ويقظتها قبل أن يسقط لإختلال في التوازن عندما أضحكه عامل بناء آخر ، في لحظة تخلّي ،في لحظة نسي فيها ان الضحك في وقت العمل و الشقاء ممنوع و حرام ، قبل أن يسقط عن لوح خشب يستند على سقالة أعمدة حديدية ركبت على عجل قبل وصول شبيحة قوى الامن بحثا عن إقامة مزعومة او مخالفة لرخصة بناء بهدف الافتراء بحجة راتب حقير لا يكفي للعيش بدل السؤال عن عقد شركة تأمين الزامية للحوادث وللكوارث ، لتأمين على الموت بدل الحياة .
يتوارث البناؤون مهنتهم وأخطارها ويتوارثون احتمالات موتهم كما يتوارث القضاة العدالة ،وكما يتوارث الضباط رتب الحياة العسكرية وكما يتوارث رجالات السياسة اسرار الخيانة والنفاق ، كما يتوارث رجال الدين مال العوام والسادة، كما يتوارث رجال الاقتصاد ألغاز استغلال الانسان للإنسان وألغاز تسويق ربح المال الخاص كخدمة للمواطنين .
ليس لعامل البناء البائس مواعيد تفرحه غير العودة لشرب الشاي الأسود مع والدته المريضة التي لم يعُرف لها مهنة غير الصلاة والصوم والدعاء ، ليس لديه مواعيد خارج استثناءات العوز واحتمالات الفقر و الحرمان، إن عاش فلأن الموت رفضه وإن سقط و مات فلأن الله واصحاب العمارة ومسؤولي الدولة شاؤوا اعدامه…
كيف لعامل بناء ان تكون حياته حسب الصدفة ،وكيف لعمال تدمير يحكمون البلاد ان يكون وجودهم قضاء وقدرا على الناس وفي الحياة؟!.
في بلادي، يحتقرون عامل البناء ويقدّسون عامل الموت والتدمير ، هذه هي كلّ المسألة!!!
من هنا تبدأ خارطة وجود الأسئلة وهنا تنتهي الإجابات والكلمات.