سياسةمحليات لبنانية

المدينة وسلب الأجور

الأجر، وفقا لمفهوم الاقتصاديين الليبراليين هو عائد العمل. والأجير أو العامل في الاقتصاد الرأسمالي هو الشخص الذي يبيع قوة عمله لرب العمل مقابل شراء قوة العمل. ففي هذا الاقتصاد تعتبر قوة العمل – أو القدرة عليه – سلعة تباع وتشترى، ولها قيمة مبادلة معينة، أو ثمن معيّن تتحدد طبقا لنفس القوى التي تحدد قيم أو ثمن أي سلعة أخرى. وقد أوضح الاقتصاديون الليبراليون الأوَل، الذين وضعوا أسس الفكر النظري للاقتصاد الرأسمالي، أنّ العمل، شأنه في ذلك شأن كل سلعة، تتحدد له قيمة مبادلة معينة، وهذه القيمة تسمح له فقط بالمحافظة على حياته وحياة أسرته، وأن الأجر الذي يناله هو مجموع قيم السلع اللازمة للاستهلاك الضروري للعامل، أي للاستهلاك الذي يسمح له فقط، بالمحافظة على حياته، وحياة أسرته.
ومفهوم الأجر براهنيته ارتبط عمليّا بنشوء الرأسمالية، والمدن، والتجارة، ومن ثمّ الصناعة، ورافق تطوّر الرأسمالية ليصبح على ما هو عليه الآن، وسيتلازمان مستقبلا معها؛ ومثلما الأجر هو الابن البار للرأسمالية، كذلك هو الاستهلاك، فالاثنان ولدا من رحم الرأسماليّة، وربيا في حضنها، وبين جنباتها، ترتكز هي عليهما، ويخضعان لارتكازها، ومعهما تتطوّر المدينة، ليس فقط كمكان للسكن، بل للاستهلاك أيضا، ولأنّها (أي المدينة) هي الطفل المدلل للرأسمالية، وللأجر، وللاستهلاك، فمن خلالها تستعيد باليد اليُسرى ما دفعته من اجر باليد اليمنى، وواسطة الاستعادة هو الاستهلاك، فما يحصّله الأجير لقاء عمله، سرعان ما تستعيده منه المدينة، وتعطيه للرأسمالي، تاجرا كان، أم صناعيّا، أم موفّرًا للخدمات، أو جميعهم معا، وتشارك هؤلاء في الاستعادة الدولة، من خلال الرسوم والضرائب، المباشرة منها وغير المباشرة، ولقاء الخدمات التي تقدّمها له، من كهرباء وماء، وهاتف، وتعليم ومعاملات، وبنى تحتية وغيرها.
من هنا تبرز المدينة ذات قيمة عليا للرأسمالية، على العكس من الريف، الذي يحتلّ القيم الدنيا بالنسبة لها، فالمدينة بأحيائها، وأسواقها التجارية، والمالية، والخدماتية، ومصارفها، وامكنتها السكنية، ووسائل التواصل الاجتماعيّ، والإنترنت، وهي المكان الذي تُستَعاد فيه لا أجور التي دفعتها، ليُعاد تدويرها من جديدها في حركتها الدائريّة غير المنقطعة. وبناء عليه، تُضحي أمكنة السكن هي الوجهة الفضلى لكبح جماح الرأسمالية وليس أمكنة العمل، لأنّ تلك الأماكن تبرز بوضوح جليّ الكيفيّة التي تُسلَبُ فيها الأجور، وتبرز في الوقت عينه السالب!

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى