الساعة الخامسة..*
… سامحيني يا أختي، وجهها طفولي تنام البراءة عند ابتسامته، تثور السعادة بجنون عند إشراقته، وتغني السماء والنجوم والأطيار عند التفاته…
سامحيني يا أختي إذا ما انقطعت أخباري ونسيتكم جميعاً…
ففي هدأة الليل أحياناً، شياطين خوف تزرع الكوابيس في كل الأرجاء، تقتل كل شيء في النفوس، تقتل الذكرى، تقتل السلوى، تقتل الحياة في قلب نابض مجنون، ولا يبقى بعدها إلا اللحظة، لحظة الواقع التي تدوم وتدوم، وتمر الساعات والشهور، ولا يدوم إلا تلك اللحظة…
صبرا يا أختاه لا تتعجلي، وتحملي دقائق قليلة، أقرئيني سنتين ولو في دقائق قليلة، فقد تحملتُ سنتَيْ حياتي طويلاً، واعلمي أن أخاك لم يعد كما عهدته من قبل، لقد تغيَّر كما تغيَّر كل شيء حوله…
هي قرية صغيرة وحقيرة، دمَّر الفقر كل معالمها، ونسيت الحضارة وجودها.
سلاح أهلها الرفش والمعول، وعربات تجرها الحمير والثيران والبغال.
يتجدد أمل الحياة دوماً عند أول رذاذ تنعم بها السماء، وتبلغ النشوة عند الحصاد…
أحاديث لا تتناول تفاصيلها إلا كروم العنب وأشجار التين والزيتون … تجارة التبغ الخاسرة، ولعنة الريح العاتية، وقد أطاحت بشتلات القمح.
وثور أبي محفوظ الذي نفق بلدغة عقرب أثناء قيامه بواجبه. وبقرات أم يعقوب وقد أفسدت زرع جيرانها، لكنها أرملة لا حول لها ولا قوة…
إن أكثر ما عانيته عند وصولي كان عداء الكلاب التي لا ترحب بأي غريب، ولم ينتهِ عداؤها لي حتى بعد مضي أشهر على وجودي، يبدو أنها أحست بالغربة تنبض في قلبي وتسري في شراييني وأنفاسي وأحقادي ومتاهاتي…
طويلة لياليها الباردة الموحشة، موحلة شوارعها المقفرة، قاسية ملامحها الساكنة، كأنها قطعة من الجحيم الأسود …
هي مدرسة صغيرة متواضعة كنت أحد أساتذتها الأربعة، أصغر زملائي يناهز الستين، وربما لا يوجد في هذه القرية الحبيبة إلا شيوخ وعجائز، وأنا بينهم، أعيش معهم ماضيهم، وأنسى حاضري ونفسي، وأكره حاضري ونفسي … يا إلهي …
كل شيء كان كالعدم ، كالصمت، الضجيج صمت، عواء الكلاب والذئاب ونقيق
الضفادع ونحيب الطيور صمت… عالم من الصمت…
تخيلي أخاك الذي كان يملأ الدنيا ضجيجاً وصخباً أينما حل، كيف انزوى سنتين كاملتين في عالم من الصمت …
وقررت بعدها أن أعود، مهما كانت النتائج سوف أعود. فليثُر أبوك في وجهي، وليتهمني بالفشل والرعونة وعدم الصبر، والطفل المدلل الذي أفسدت تربيته رفقة السوء وسهر الليالي في الملاهي والحانات وعلب الليل التي يؤمها شياطين الرذيلة والفساد.
لقد اعتدت ذلك يا عزيزتي.
ولتلطم أمك وجهها، وتشدّ من شعرها، وتندب حظها لماذا لم ترزق بولد مثل ابن أختها جمال ذي شهادة الدكتوراه والرأس الأجوف الكبير الذي لا يعرف من الحياة سوى عيادته والأمراض، وتقبيل أيدي والديه عند كل تحية.
لماذا لم تُرزق بولد مثل ابن جارنا حسن صاحب محلات البقالة ومعارض السيارات و…
لقد اعتدت ذلك يا عزيزتي.
لا يهمني ما سيفعلانه، واعلمي جيداً أنه من السهل أن يصبح المرء طبيباً برأس أجوف، يقبل أيدي والديه في كل مناسبة، ومن السهل أن يصبح تاجراً غنياً، ولكن ليس من السهل أن يكون مثل أخيك، من الصعب جداً، واسألي صديقاتك: أحلام، وداد، سهام، ريما… وأسماء كثيرة نسيتها في غربتي، اسأليهن، وسيخبرنك أنه ليس من السهل أن يكون الرجل "دون جوان" كأخيك…
آه يا أختي الحبيبة ، ما أجمل أيام الحماقة …
لقد ضربت في يوم تلميذاً كدت أودي بحياته. لم يكن ذنبه إلا وجوده أمامي ساعة كنت فيها على شفا هاوية الجنون.
وجاءني إلى البيت بعد ذلك رهط ضاقت بهم عتبته، وانزويت في غرفة النوم مترقباً دوي تحطيم الباب، واقتحامهم البيت، وهدمه فوق رأسي، أو سحبي من شعري ثم إشباعي ضرباً أمام الملأ لأكون عبرة لغيري.
لكن مشاعر الخوف والجبن صاحبها شيء من الارتياح في أن بشائر النهاية –أياً كانت النهاية – بدأت تلوح بيارقها …
وخاب ظني كالعادة في قرية لم ألاقِ فيها سوى الخيبات …فلا اقتحام ولا ضرب ولا عبر، بل اعتذار من التلميذ وأبيه وأقاربه، وسلة بيض، وصندوق تفاح وعنب وتين، ودعوة للعشاء في اليوم التالي لتأكيد قبولي الاعتذار من الضحية وأهلها …
وبقي عقاب المدرسة، أملاً للعودة إلى سابق عهدي …
وانتظرت، وطال انتظاري، ولم يحصل شيء قط، لا تأنيب، ولا تحذير، ولا حتى عتاب… ربما لو كنت أحب عملي لما بقيت في تلك المدرسة يوماً واحداً. لقد سامحتني الإدارة بكل محبة، فليس من السهل إحضار مغفل آخر إلى تلك البقعة الجهنمية …
وفي يوم، كنت على شرفتي أحاول نسيان واقعي، وكانت الساعة تقترب من الخامسة حينئذ. ما هي أهمية الوقت يا عزيزتي؟ ما أهمية الدقائق والثواني؟ هل فكرت يوماً أن لحظة خاطفة تمضي، وأنت تنفضين الغبار عن أطراف ثوبك أو ترمين بعقب سيجارتك وتدوسينها بقدمك، وعند أطراف ثوبك، وعند قدمك، تهزئين من الزمان.
هل فكرت يوماً أن لحظة خاطفة تمضي ولا تكاد، ينتفض كل ما حولك وتغزو عالمك الساكن تيارات هائلة من التغيرات.
وعند تلك اللحظة يأسرك الزمان …
أعلنت ساعة الحائط تمام الخامسة، وبائع الخضار يداعب حبات الفواكه، ويبتسم كلما التقت نظراتنا، ولا أذكر أني بادلته ابتسامته مرة واحدة.
وانتفض الحاضر من أمامي، وثار كل ما حولي.
عينان تحتضنان الحزن والغموض، تخترقان جدار كياني، تغوصان في شراييني وقلبي، وتعودان إلى اليدين اللتين تلتقطان حبات الخوخ الحمراء لتختبئ في داخل كيس أزرق.
وربما لم يكن الخوخ أحمر ولا الكيس أزرق، فلا أمان للذاكرة حينما تُخدش المشاعر بعشق جديد …
والتفتت إلي بإصرار وكأنها تعلن الحرب، وسألتني عن الوقت، فتجمد الدم في
عروقي، وسقطتُ في بؤرة ارتباكي، ولم أستطع الكلام.
فابتسمت معزية ورحلت بهدوء.
وحاولت القيام للحاق بها، ولكني كنت مسمّراً في مكاني.
وبقيت مرتمياً في هدأتي المريبة وقتاً لا أعلم له مدى، تساورني الأفكار وتتنازعني الشكوك، واستطعت أخيراً الوصول إلى بائع الخوخ.
تهرب من الإجابة …
كلمات قليلة من شفتين اختبأتا تحت شاربين فاختفت معالمهما، ربما تراءى لي أن شاربيه يحجبان نصف وجهه …
وبحثت عنها عدة أيام ولم أجدها …
طرقت أبواباً كثيرة، ووجوها كثيرة، وجوها لم أرها من قبل، وربما رأيتها لكن غشاوة الغيظ أعمتني ففقدت البصر والبصيرة …
وتهرَّب الجميع من الإجابة عن تساؤلاتي. من هذه الفتاة ؟ ما اسمها ؟ ما سرها ؟
غموض في كلماتهم، والنظرات عند الجميع تتحدث بلغة واحدة، لكنها لغة لم أفهمها …
كلمات الناظر زادت من حيرتي وقلقي: " إنها مسكينة … دعك منها ".
" مسكينة " أنت المسكين أيها اللعين. كل من في هذه القرية مسكين وغبي. لكن هذه الفتاة مختلفة … لا يمكن أن تكون من صنع هذه القرية …
لا أعرف يا عزيزتي إن كان هناك سر في هذه الفتاة عبث بحياتي وأربك كياني.
أفهل وجودي العدمي في هذه القرية هو سبب تعلقي بها ؟
أفهل لو كنت في المدينة لانتابتني مثل هذه المشاعر الغريبة ؟
أفهل زادني شغفاً ذلك الغموض الذي يكتنفها ؟
أفليس للغموض رهبة ترعب أرواحنا، لكنها تشدنا إلى غمراتها ؟
أعلم بماذا تفكرين الآن يا عزيزتي.
لست بحاجة إلى عقلانيتك وثقافتك، لست بحاجة إلا إلى إصغائك للصوت المنبعث من وراء كلماتي. وكلماتي أكتبها بقلم روحي. فأرجو أن تنسي قليلا شهادتك في العلوم الاجتماعية ونظرياتها السخيفة، ولن تعلمي كم هي سخيفة تلك الشهادة حتى يمنّ الله عليك بزيارة قسرية إلى هذه القرية، قرية الرعب والسكون. التجربة الإنسانية أكبر من كل النظريات والتفاهات التي أفنيت عمرك في غمراتها.
شجرة باسقة تحتضن وجودي وتنهداتي، ألوذ إليها دائماً، وأردد مع الطيور الحزينة حكاياتي، وأغرق في متاهاتي.
سياط الشمس يلفح كل تلك البقعة الموحشة، إلا حضن تلك الشجرة.
ما أجمل هذا الشعور. وفجأة، شعرت بوجود طيف يسخر من وحدتي، يقتحم علي أحلامي، إنها الفتاة نفسها. ضالتي التي وجدتني، ولم أجدها.
إن الفرحة عند الإنسان تخبو فجأة عند تحقيق ما كان يصبو إليه. أفهل السعادة أكذوبة اخترعها للهروب من رتابة واقعه ؟ لماذا شعرت بالخوف عند ظهورها الذي طالما كنت أتوق أليه ؟ لماذا أرتجف كطفل صغير ينتظر عقاباً قاسياً؟ أفهل من الممكن أن تسبب لي فتاة تصغرني بأكثر من عشر سنين هذا الضعف في نفسي ؟
كانت تحيتها بسمة حزينة يكتنفها كل المعاني …
وانتفضت في مكاني وقلت لها بشوق من استرد عافيته بعد احتضار طويل :
"أين كنت ؟ لقد بحثت عنك في كل مكان … أو تسألين عن السبب ، لقد اشتقت إليك … لا يهم أن كانت لحظة واحدة جمعتنا أو كانت سنين طوالاً … الروح لا تتقوقع في أسر الزمان ولا تستسلم لحدود المكان … ".
وتكلمتْ كثيراً، ما أجمل كلامها، حدثتني عن شتاء القرية، والمطر الذي يداعب صفحات المياه الراكدة، حدثتني عن بكاء الطير عائدة ومرتحلة، حدثتني عن دفء البيوت الآمنة التي تغلق أبوابها أيام الخريف وتنام في أحضان المواقد الناعمة، حدثتني عن كل شيء، ألا عن نفسها…
واقتربت مني وقالت باستسلام : "يجب أن أذهب ".
إلى أين ؟ إلى المجهول الذي تختبئين وراءه ؟
هل سأبحث عنك من جديد ؟
هل سأبقى تائها أبحث عن نفسي فلا أجدها ولا أجدك ؟
وسارت خطوات وعيناها تلقيان تحية الوداع وقالت :
" دع القدر يحدد لنا موعداً آخر… عندما تبارك الشمس القلوب ، وتعود الطير من سفر طويل، وينام الليل في حضن الصباح… لا تبحث عني أرجوك … " . وبدأت تبتعد في خطوات ثابتة وكأن اليأس مقصدها…
" ما اسمك ؟ يجب أن يصبح لطيفها عنوان في خيالي … .
"دنيا ".
دنيا … منذ لحظات لم يكن لهذا الاسم أي معنى. أما الآن فهو تاريخي وعمري، نبض قلبي وشمس دربي وأنشودة الحب في ظلام ضلالي، نعم يا أختي لقد فقدت صوابي …
وعادت الأيام إلى رحلتها من جديد في قرية لا تعرف أي جديد.
حيرة هي حياتي، ارتباك، غموض، ضعف، انكسار، بانتظار موعد يحدده القدر. أسابيع مرت في مكان لا يعيش الانتظار، ومفهوم الوقت يختلف بين موضع وآخر ، وانتظار وآخر ، وصمت وآخر. اختفت من جديد، والساعة الخامسة أمل يبرق كل يوم عند ساعة الحائط.
كم أصبحت أكره بائع الخوخ وبسمته الصفراء.
هل للبسمات ألوان ؟
لا أعرف، ولكن بسمته صفراء تذكرني بخيبة الأمل وعدم ظهورها.
تلك الشجرة، وموعد أحدده كل يوم. أتوسل إلى الشمس كيلا تغيب حتى قدومها. لقد كرهت مغيب الشمس أيضاً. حياتي أصبحت كذلك، فإما أن أكره أو لا أكره، ولا شيء آخر ، لا مشاعر أخرى…
لقد أطلت عليك يا عزيزتي، ثواني هذه الأسطر تساوي حياة أعيشها بثوانيها الثقيلة.
ما أصعب ثواني الانتظار. ما أصعب أن تقتل أحلام وردية تنبض في قلب مشتاق.
ما أصعب أن تأسر روح في قفص الذل الناعم …
سامحيني يا أختي. وجهها طفولي تنام البراءة عند ابتسامته، وتثور السعادة بجنون عند إشراقته، وتغني السماء والنجوم والأطيار عند التفاته…
وجاء ذلك اليوم …
جاء ذلك اليوم بموعد لم أتوقعه، عند حضن الشجرة الباسقة …
تطفل جمهرة من الناس على سكون ذلك المكان ووحدته، همهمات، وتأوهات، وعبارات استنكار، وكلام فارغ.
حلقة كبيرة حول جسد يعانق التراب، يرتجف، يتلوى، ينتفض، يرتعش، يستسلم لمرض بات جزءاً من وجوده وحياته…
والأعين ترقب مشهداً مألوفاً لديها.
وسؤال يطرحه الجميع: "ماذا جاء بها إلى هنا ؟… " .
لم يعرفوا أنها جاءت إلي … لقد حددت اليوم موعداً ولم يشأ القدر ذلك اللقاء. لم يشأ أن يجمعنا حضن تلك الشجرة الناعم.
لم يشأ أن يمنحنا السكينة ولو للحظات.
وانتظر الجميع هدأة الجسد الندي وخلوده في استسلام ليحملوه بعدها إلى البيت كما اعتادوا في كل مرة تفقدها نوبة الصرع إدراكها…
واعتزلت البيت عدة أيام، تظاهرت بالمرض ولم أقابل أحداً، ولكني عدت أخيراً إلى المدرسة خوفاً من استغنائها عن خدماتي. لأول مرة أشعر بارتباطي بالمدرسة والحرص على ألا أفقد وظيفتي ومسكني ومتاهاتي.
وكان لا بد من مواجهة الموقف، لابد من مقابلتها والتحدث إليها. قصدت أهلها فعنفوني، هددني والدها بالقتل إن حاولت التحرش بها. ذلك الرجل الهادئ المتزن، انقلب وحشاً كاسراً عندما تعلق الأمر بابنته … " أحبها، أريد الزواج منها، إنها مريضة ويمكن معالجتها ".
كل من سمع بذلك نهرني، لقد أصدروا حكماً عليها بالموت في حياتها، ولا سبيل لتغيير هذا الحكم، فهو من المقدسات التي لا يجب التعرض لساحتها …
ومضت سنتان يا عزيزتي… عالم الصمت لم يعد يزعجني، لقد أصبحت جزءا من الصمت … زماني توقف مع كل الركود حولي، منذ ذلك اليوم لم أقصد حضن تلك الشجرة، منذ ذلك اليوم لم أعد ألعن نفسي وواقعي والخيال … ولكن، لي عند كل يوم موعد في الساعة الخامسة عند شرفتي، وأمامي بائع الخوخ وقد كبرت بسمته، بسمته الصفراء الخبيثة التي صارت جزءاً من وجهه… جزءاً من شاربيه … جزءاً من حياتي الساهدة عند الساعة الخامسة…
*من كتاب "على قارعة السعادة"