بقلم د. عدنان عويّد * – الحوارنيوز
تنشر “الحوارنيوز” في ما يلي الحلقة الخامسة من السلسلة التي أعدها الباحث السوري الدكتور عدنان عويّد حول حزب البعث العربي الإشتراكي:
مع طرح شعار قائد المسيرة، تجسد هنا على المستوى الفكري في حزب البعث ما أستطيع تسميته بـ (فقه القائد)، حيث أصبح لفكر حافظ الأسد الدور الأول في مسألة تحديد الخطوط الاستراتيجيّة لعمل الحزب والدولة معاً، وأن كل ما يقوله في هذا الشأن إن كان في خطبه أو لقاءته الصحفيّة وغير ذلك، راح يسجل بـ (ماء الذهب)، ويعتبر أوامر للحزب والحكومة معاً، يجب أن تُنفذ دون مناقشة أو مراجعة أو تعديل، بل أصبح فكره في هذا الاتجاه حتى عند القيادات اللاحقة بديلاً عن فكر الحزب ومنطلقاته النظريّة، وخاصة على مستوى التثقيف الحزبي، إن كان في الفرق والحلقات الحزبيّة، أو في مدارس الإعداد الحزبي حيث تم حذف الكثير من مواضيع التثقيف الحزبي القائمة على جوهر العلميّة والثوريّة مثل: ( كراس العلمية والثورية، ومحاضرات حول الفلسفة الماركسيّة، ومبادئ أولية في الاقتصاد السياسي، والاتجاهات الفلسفيّة في الحريّة)، وغير ذلك مواد محاضرات، وحلت كلماته وخطبه ولقاءاته الصحفيّة لتغطي حيزاً واسعاً من منهاج التثقيف الحزبي لهذه المدارس .
كما حسم حافظ الأسد فهم أهم مسألة في فكر الحزب وهي التلازم بين النضالين القومي والاشتراكي، عندما ربط الأهداف مع بعضها ربطاً ميكانيكيّاً بقوله ( إن أي تقدم في طريق هدف من أهداف “الحزب” هو بالضرورة تقدم على طريق الأهداف الأخرى للحزب (الوحدة والحريّة والاشتراكيّة) والعكس صحيح. وهو هنا جعل العلاقة بين الأهداف علاقة عضويّة ميكانيكيّة وليست جدليّة تحمل في داخلها التناقض والصراع والتحول، وبذلك فلا تعارض ولا تناقض طبقي أثناء النضال من أجل تحقيق هذه الأهداف).
فمع تحديده البعد الفكري (12)، لهذه المسألة التي غاب فيها الحسم الفكري لدى الكثير من نخب الحزب منذ عام 1963 حتى 1970 كما يقول كراس (قائد المسيرة)، حيث أدى هذا الغياب في حسم طبيعة العلاقة بين الأهداف الثلاث، إلى ظهور نزعات شوفينيّة قوميّة، وليبراليّة إصلاحيّة، ويساريّة طفوليّة شعاريّة، جاء توضيحها من قبل حافظ الأسد ليضع حداً أمام أيّة محاولة أخرى تحاول تفسير فكر الحزب في الوحدة والحريّة والاشتراكيّة خارج فهمه العضوي الميكانيكي اللاجدلي. والملفت للنظر هنا أن معظم الرفاق البعثيين طوال كل تلك المدّة التي مر بها الحزب منذ عام 1943 إلى 1970، لم يكونوا على معرفة حقيقيّة بالعلاقة بين أهداف الحزب التي كانوا يناضلون من أجلها حتى جاء حافظ الأسد بالحركة التصحيحية ووضح لهم هذه العلاقة التي لم يفهمها أيضا الكثير من البعثيين، على الرغم من أن السؤول حول هذه العلاقة ظل يجري عند النخب المثقفة في صفوف الحرب وهم قلة: هل هي علاقة جدليّة ذات حمولة طبقيّة تقوم على التناقض والصراع كما يفهمها جدل الماديّة التاريخية؟، أم هي علاقة عضويّة ذات طابع ميكانيكي سكوني، يفتقد إلى حالات الحركة والتناقض والصراع بين القوى المستغِلة والمستغَلة .؟. ومع هذا الحسم الفكري من قبل حافظ الأسد لأهم إشكاليّة فكريّة في فكر حزب البعث، انتقل الحزب في مرجعياته الفكريّة والتنظيميّة والسياسيّة، من فهم المنطلقات النظريّة الجدلي القائم على العلميّة والثوريّة وحمولتها الطبقيّة الداعية إلى محاربة الاستبداد والظلم، إلى فكر ولاية الفقيه حافظ الأسد القائم على التصالح الطبقي.
إذاً أمام تبني فقه القائد وقيمه، لم يعد هناك فسحة كبيرة لأعضاء البعث أن يعودوا إلى أيّ مراجع فكريّة وثقافيّة أخرى، وهذا ما أكدت عليه (قيادة اتحاد شبيبة الثورة) من خلال شعارات مؤتمراتها العديدة التي كانت تؤكد على هذه المسألة كالشعار الذي ظل مرفوعاً عدّة مؤتمرات للشبيبة بعد أحداث الثمانينات من القرن الماضي الذي يقول: (لنتمثل فكر وقيم القائد، ونعمل على محاربة الفكر الرجعي بكل أصوله وفروعه)، بل كان هذا التبني والتمثل لفكر القائد واضحاً في مقدمة كراس (كلمات الرفيق القائد بشار الأسد) الصادر عن منظمة شبيبة الثورة، السلسلة الثقافيّة رقم /1/، حيث تقول: (ثلاثون عاماً وشبيبة الثورة تغتني مصادرها الثقافيّة عبر الكلمات الوطنيّة والقوميّة للقائد الخالد حافظ الأسد، وتتوافر لها عوامل وعيها واكتشافها لطرق نضالها الصحيحين عبر توجهاته، وحكمة عبقريته المبدعة.).
إن التقمص الفكري والقيمي لفكر حافظ الأسد من قبل الحزب ومنظماته، هو الذي يمثل أعلى سلطة فكريّة في الدولة والحزب، والذي غالباً ما تفرض عليه الظروف الداخليّة والخارجيّة العربيّة منها والإقليميّة والدوليّة أن يغرق في التكتيك على حساب الاستراتيجيّة، الأمر الذي يجعلنا نجد في الغالب (تشابهاً) في نصوص كلماته وخطبه، على حد تعبير الفقهاء بالنسبة لمفهوم التشابه في النص المقدس، كون ما يدلي به أصبح مقدساً، كموقفه الفكري مثلاً من الخطاب الإسلامي التكفيري الرجعي، عندما يخاطب الشبيبة في مؤتمرها الرابع، مع قيام أحداث الثمانينات من القرن الماضي بقوله: (علينا أن نحارب الفكر الرجعي بكل أصوله وفروعه، وأن نعمل على بناء الطبقة الواحدة.)، نجده يقول في مكان آخر بعد انتهاء أزمة الثمانينات: ( إن الإسلام ليس كلمات مجردة، بل دين وحياة وممارسة، وعندما يرفض الإسلام الاستعمار والظلم والتبعيّة والذل والإذلال، وعندما يرفض الإسلام (أمراً) إنما يطالبنا أن نناضل ضده لنجسد بذلك ما رفضه، وما أمر به الإسلام.).(13). وإضافة للمفارقة أو التناقض هنا بين القولين، يأتي التساؤل عن فكر الحزب ومنطلقاته النظريّة بعلميته وثوريته، وحياديّة المنطلقات من الإسلام ذاته الذي جعل عمليّة اعتناق الدين وممارسته أمراً شخصيّاً واجتماعيّاً، بعيداً عن تدخله بالسياسة، أو حتى لا تلوثه السياسة القائمة على المصالح الدنيويّة. نعم لقد حل الإسلام عند حافظ الأسد قائد البعث بديلاً وأصبح : (دين وحياة وممارسة.. وعلينا أن نناضل لنجسد ما رفضه وما أمر به الإسلام.). وهذه مسألة سنتطرق لها بشيء من التحليل والتفصيل بعد قليل.
إن هذا التناقض في فكر حافظ الأسد، كثيراً ما وجد فيه من في قلوبهم وعقولهم زيغ من البعثين ورجال الدين الموالين للقائد الملهم معاً، ما هو مناسب لمصالحهم في محاججة خصومهم من البعثيين التنويريين العقلانيين أو الذين يتبنون العلمانيّة في صفوف الحزب، وهذا ما اشتغل عليه رجال الدين والكثير من البعثيين المشبعين بالفكر الديني السلفي الذين أصبحوا قادة في صفوف الحزب على مستوى الفروع والشعب الحزبيّة، بسبب الردة الدينيّة بعد أحداث الثمانينيات في سورية، وقيام الثورة الإيرانيّة 1970، وبدء انتشار الإسلام السياسي في الساحة العربيّة والإسلاميّة، هذا النشاط الذي راح يمارسه بكل نشاط وحيويّة مشايخ المؤسسة الدينيّة الرسميّة في سورية الذين وجدوا في كلمات حافظ الأسد ذات التوجه الديني، ما يبرر لهم الاشتغال على الخطاب الديني في صيغته السلفيّة المشبعة بالفرقة الناجيّة وتسويقه أمام غياب الفكر العقلاني والتنويري الذي أصبح محط عداء للكثير من ممن هم داخل الحزب وخارجه، لا سيما وأن حافظ الأسد راح يتناغم أو يتماها كثيراً مع الخطاب الديني بصيغتيه الأشعريّة والماتريديّة والصوفيّة الشاذليّة والخزنويّة والرافعيّة وغيرها في سورية، ويعطي مساحة واسعة للمؤسسات الدينيّة لنشر هذا الفكر السلفي، بشرط أن تتحرك تحت مظلة التسويق بأن الدين الإسلامي، ضد العنف وإقصاء الأخر وتكفيره، وعلى أنه دين الرحمة والمحبة والعدل والوسطيّة، واحترام الرأي الآخر، و(إن هناك علاقة حميمة بين العروبة والإسلام، فكلاهما إيمان، وكلاهما يدعوان إلى الوحدة ومحاربة الاستعمار والظلم.. إلخ).(14). بيد أن من منحهم الأسد الثقة من مشايخ السلطان للاشتغال على هذا التوجه، كانوا يشتغلون في السر على الفكر السلفي التكفيري والفرقة الناجية خارج ما يريده حافظ الأسد، وهذا ما سأقوم بتوضيحه في الحلقة المقبلة من هذه الدراسة.
يتبع.
*كاتب وباحث من سوريا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
12- -المرجع نفسه –ص16.
13- -كلمات الرفيق القائد بشار الأسد – السلسلة الثقافية رقم /1/ – ص7.
14- -العروبة والإسلام في فكر القائد الخالد حافظ الأسد- د.ما جد شدود – سلسلة الثقافة رقم/2/ -ص42..