سياسةعاشوراء

عاشوراء الحسين: ثورة على الفساد.. من قبل ومن بعد(واصف عواضة)

 

كتب واصف عواضة – خاص الحوار نيوز 

  كانت رسالة الرسول الأكرم محمد بن عبد الله رسالة إنسانية ،إنطلقت في أساسها ثورة على الفساد الذي كان مستشريا في عصر الجاهلية، وكان من الطبيعي أن ينهج حفيد الرسول الإمام الحسين، إسلام جده ويثور على الفساد ،مثلما نهج أبوه علي بن أبي طالب ، خلال خلافته القصيرة ،وبعد أن أصبح الفساد ثقافة عامة في بدايات العصر الأموي.

 

وثورة الإمام الحسين إذن في أحد مضامينها هي ثورة على الفساد والإفساد والمفسدين. وهذه الآفة لم تكن وليدة العهد الأموي، بل كانت لها جذورها السابقة لخلافة معاوية بن أبي سفيان، ومن بعده ولدُه يزيد بن معاوية .ولا بد هنا من العودة الى التاريخ للوقوف على هذه الجذور.

 

توفي الرسول الأكرم في العام التاسع للهجرة بعد أن أدى رسالته للإنسانية، وبعد أن ألقى خطبة الوداع الشهيرة في غدير خم . ولا أريد هنا أن أتوقف أمام الجدل الذي يدور منذ أربعة عشر قرنا حول أحقية الخلافة بعد النبي .المهم أن الخليفة الأول أبا بكر الصديق ،عبد الله بن عثمان القرشي ،تولى الخلافة ،وقامت في عهده حرب الردة فانشغل الرجل في تقويم هذه الظاهرة وإعادة الأمور الى نصابها. ولم تدم خلافته أكثر من سنتين ،فتولى عمر بن الخطاب الخلافة من بعده ،وشهدت السنوات العشر التي عهدها ابن الخطاب، فتوحات باهرة انشغل بها المسلمون وامتدت أرجاء الدولة من أقصى بلاد فارس الى مصر ،بما في ذلك العراق والشام، وأطل المسلمون على خيرات جديدة أمّنت لهم طفرة مشهودة من العائدات والأموال وازدهرت التجارة .وما كادت تطل ولاية عثمان بن عفان حتى كانت الدولة الاسلامية في أوج مجدها وقوتها وغناها.

 

وهناك قاعدة تقول إنه حيث يكثر المال وتكثر الخيرات وتغيب الإدارة الصارمة، تكثر الرشاوى والبذخ والهدر ويستشري الفساد .وحيث تولى أمصار الدولة الاسلامية بعض الشخصيات التي فتحت بطونها للمال العام ،وفي غياب المحاسبة الصارمة من قبل المركز،أفلت الزمام من يد القيادة المركزية،وبدأت روائح الفساد تدب في أرجاء الدولة ،وانغمس العامة في مجالس الأنس والطرب والخلاعة والهدر والتبذير،خاصة في الولايات المستحدثة كالشام ومصر وفارس وغيرها .ويذكر الرواة وأصحاب السير فصولا كثيرة في هذا المجال. وأنصح في هذا المجال بمراجعة مسند الإمام أحمد بن حنبل وهو أحد أئمة المسلمين السنّة الكبار.

في العام الخامس والثلاثين للهجرة وبعد مقتل عثمان بن عفان ،حُمل علي بن أبي طالب حملا الى كرسي الخلافة ،وكان زاهدا فيها لأنه عاش مشاكلها ووقائعها الصعبة مع ثلاثة من الخلفاء ،وكان عليه أن يواجه هذه الحالة لتقويم الإعوجاج ،فكانت رسائله الشهيرة الى الولاة التي ذهب في معظمها الى حد التقريع بتصرفاتهم . وكان من الطبيعي أن يكون هناك متضررون يرفضون نهج عليّ ،وقامت في وجهه الثورات والمؤامرات والدسائس ،  ووقف المتضررون الى جانبها،حيث أمضى الإمام علي خمس سنوات في محاولة تظهير الحكم العادل ،الى أن قضى في مسجد الكوفة عام أربعين للهجرة على يد الخوارج  ،وكان معاوية بن أبي سفيان قد تولى الخلافة بعد معركة صفين ، وقصة هذا الانتقال الغريب في السلطة ليست خافية على المؤرخين والعامة.

خلال السنوات العشرين من خلافة معاوية ، ازداد الفساد استشراء ،وخاصة في أهل بيته وبطانته. وكان على الحسين الذي عاش هذه الظروف لحظة بلحظة أن يصبر على الضيم بعدما قضى أخوه الحسن مسموما، بانتظار أن يقضي معاوية ويختار المسلمون من يُصلح أمورهم، وذلك على قاعدة “لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين”، وهي القاعدة التي أطلقها والده الإمام علي يوم ولّي عثمان بن عفان الخلافة.

 لكن المفاجأة التي صدمت الحسين وجعلت صبره ينفذ ،أن معاوية عهد بالخلافة الى ولده يزيد خلافا لما درج عليه المسلمون بعد الرسول لجهة مبدأ الشورى،وكانت شهرة يزيد قد ملأت الآفاق في الفساد والإفساد ،وكان على الحسين ساعتئذ أن يواجه ويرفض ويستشهد في سبيل ذلك،وكان في رفضه ثورة على الفساد والنظام السياسي الذي يحكم تلك المرحلة.

ولا يخفى على أحد من خلال مراجعة بسيطة للتاريخ ،أن الفساد صبغ كل العهود حتى عصرنا الحاضر ،من العهد الأموي الى العباسي الى العصور الأخرى الى العهد العثماني الى عهود الأنظمة الجمهورية والملكية . وكلما حاول حاكم أن يحد منه أو يقضي عليه ،كان يواجه متضررين  يسعون الى إزاحته أو حتى قتله .وكان الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، أكبر مثال على ذلك ،حيث دُسّ له السم في الطعام وقضى نحبه  بمؤامرة حاكها أهل بيته الأمويون الذين تضرروا من عهده نتيجة زهده وحربه على الفساد والإفساد.

والحقيقة أنه ما من دولة في العالم تخلو من الفساد والمفسدين ،ومن يحلم بدولة نظيفة بنسبة مئة بالمئة فهو واهم.ولكن هناك فرق شاسع بين أن يكون الفساد ثقافة عامة، أو أن يكون نسبيا ومحدودا ومحارَبا.هناك فرق شاسع بين أن يكون الفساد مقتصرا على مجموعة، وبين أن يكون نظاما سياسيا كاملا  متكاملا.

وعندما نقول النظام الفاسد لا نقصد فقط الجانب المالي لجهة الرشوة والسرقة ونهب المال العام ،بل بالدرجة الأولى الأسس والنصوص والشرائع التي تحكم هذا النظام. فهذه الأسس هي التي تشجع على الفساد وتسمح للفاسدين بأن يخترقوا القوانين والشرائع والنصوص ،عندما تتأمن لهم الأغطية السياسية والحماية الحزبية أو الطائفية.

وللفساد وجوه عدة طرقها الإمام عليّ لمّا سُئل كيف تفسد العامَّة من النّاس،فقال:

 (إنَّما هي من فساد الخاصَّة ، وإنّما الخاصّة ليُقسمون على خمس :

العلماء وهم الأدلّاء على الله ، والزهّاد وهم الطريق إلى الله ، والتجّار وهم أمناء الله ، و الغزاة وهم أنصار دين الله ، والحكّام وهم رعاة خلق الله .

فإذا كان العالِم طمّاعاً وللمال جمّاعاً فبمن يُستَدَل ؟

وإذا كان الزاهد راغباً ولِما في أيدي الناسِ طالباً فَبِمَن يُقتدى ؟

وإذا كان التاجر خائناً وللزكاة مانعاً فبمن يُستوثَق ؟

وإذا كان الغازي مُرائياً وللكسب ناظراً فبمن يُذَبُّ عن المُسلمين ؟

وإذا كان الحاكم ظالماً وفي الأحكام جائراً فبمن يُنصرُ المظلوم على الظالم ؟

فوالله ما أتلف الناسَ إلّا العلماءُ الطمَّاعون ، والزُهّاد الراغبون ، والتجّار الخائنون ، والغُزاةُ المُراؤون والحكَّام الجائرون ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون والعاقبةُ للمُتَّقين﴾.

 

هذا الواقع هو الذي طبع العهد الأموي الأول،وجاء إسناد الخلافة ليزيد بن معاوية بعد أبيه ليبلغ بالدولة الإسلامية الفتية مبلغا لا يمكن أن يتحمله حفيد النبي ،ولا العامة من الناس،فكان لا بد من الخروج على هذا النظام الجديد ،وعليه رفض الحسين ،زعيم الهاشميين في تلك الفترة، مبايعة يزيد وقال لوالي المدينة “إن مثلي لا يبايع مثله”.

كان الحسين يعرف جيدا أن هذا الموقف سيعرّضه وأهله وأنصاره للمضايقات والهلاك على الطريقة الأموية،فقرر الخروج من المدينة باتجاه العراق ،وتحديدا الكوفة عاصمة خلافة والده الإمام عليّ ،بعد أن جاءته الرسل من العراق بدعمه والوقوف إلى جانبه في مناهضة الحكم الأموي. وخرج الحسين من المدينة وكان بعدها ما كان والوصول إلى كربلاء واستشهاده مع معظم أهله وأنصاره.

هكذا إذن كانت ثورة الإمام الحسين، بدأت وقامت ضد الفساد أولا، وهدفت إلى تغيير هذا الواقع المكبّل بالفساد، ولذلك تعيش هذه الثورة إلى يومنا هذا على هذا المنوال، لأنها انتصرت وما زالت تنتصر للإنسان، وترفض إلحاق الظلم به، وتردع كل من تسوّل له نفسه التعدّي على حقوق الإنسان. خرج الحسين ضد يزيد لكي يغير الواقع الفاسد ويضع حدا له.  

وقد خطب الإمام الحسين في الناس عندما اعترض طريقه الحُر الرياحي ومنعه من دخول الكوفة، فقال:

“أيّها الناس، إنَّ رسولَ الله  صلّى الله عليه وآله وسلّم- قالَ: مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً مُستحلّاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ اللهِ، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يَغِرْ عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه. وقد عَلمتُم أنَّ هؤلاء القومَ – ويشيرُ إلى بني أميّة وأتباعِهم- قد لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتَولَّوا عن طاعةِ الرحمنِ، وأظهرُوا الفسادَ وعطلّوا الحدودَ واستأثَروا بالفيء، وأحَلّوا حرامَ الله وحَرَّموا حلالَهُ، وإنّي أحقُّ بهذا الأمر.

ويُستدل من هذا النص أن الإمام الحسين تحرك من موقع التزامه الإيماني ومسؤوليته عن تغيير الواقع الفاسد،ورأى أن الساكت عن هذا الفساد حتى لو لم يستفد منه، فهو شريك في النتائج على مستوى الدنيا، وهو سيحاسب على كونه شريكاً عندما يقف بين يدي الله.

(يتبع)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى