عودة المغتربين وعطاءات الدولة
للمغترب اللبناني في كل عواصم الأرض هموم وشجون، حنين إلى الوطن، واشمئزاز من زعمائه، يبتعد عن أهله وناسه، وينجح حيث اختارته الأقدار، يزور وطنه دوماً، ويأسف لما آلت إليه الأمور، ويجد نفسه دون وعي منه في مقارنة بين الوطن الأم والوطن المضيف، ويعقد العزم على البقاء في عز الغربة دون مذلة العودة. وفي زمن الكورونا الذي اجتاح مشارق الأرض ومغاربها، وجد اللبناني نفسه أسيراً بين جدران الوباء والعوز والوحدة، واستبشر خيراً عندما هبّت الأصوات من الداخل داعية لإحضار المغتربين اللبنانيين إلى أرضهم كيلا يعيشوا المعاناة بعيداً عن الأهل والأحبة. وشعر للمرة الأولى أن له أهمية في عقل دولته ووجدانها، وأن الآخرين ليسوا أفضل منه كياناً ووجوداً كما اعتاد أن يشعر دوماً.
وبدأت ملامح الأمور تتضح شيئاً فشيئاً، وأُعلِن النبأ العظيم في أن تذكرة العودة من البلد الإفريقي حيث يعيش إلى لبنان ليست مجانية، بل عليه أن يدفع ثمنها من جيبه وكرامته وأمنه وكينونته وانتمائه ألفاً وثمان مائة دولار، بالإضافة إلى تكاليف الإجراءات الصحية التي تنتظره عند الوصول، خلال الحجر الصحي وبعده.
وكثيراً ما تكون الخيبة من الحدث أكبر من الحدث نفسه، فلقد منّ النفس بأمل سقط عند أول مواجهة. لم يبخل على وطنه طيلة عقود طويلة، وقدّم لدولته ما جناه العرق والتعب والصبر والمعاناة، ولم يشعر يوماً أنه يمنُّ على وطنه وأهله حتى في أحلك الأوقات وأصعبها، لأن وطن الإنسان أبواه وأولاده وطفولته ووعيه وقلبه النابض في كل حين. أما الآن وبعدما ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وعطّل الوباء عمله، وحجزت المصارف اللبنانية الجاحدة أمواله، يجد نفسه عاجزاً في أن يعود وعائلته إلى وطنه لأنه لا يملك ثمن العودة.
ويسأل، كما كثير غيره، أين الزعماء والأثرياء أصحاب المليارات الذين نهبوا البلاد والعباد طيلة ثلاثين سنة؟ أليس لهم دور في إعادة من ساهم في إعمار الوطن الذي مزّقته أطماعهم السياسية والمالية والاجتماعية؟ لماذا لا تتدخل المصارف اللبنانية لمساعدة من احتجزوا أموالهم من خلال سياسات مالية واقتصادية عنوانها الصارخ هو السرقة والنهب؟ ما مصير عشرات الآلاف من المغتربين الذين لا يملكون ثمن العودة؟ ليس كل المغنربين أغنياء كما يظن البعض، بل أن كثيراً منهم لجأ إلى الغربة هرباً من قسوة الوطن ليؤمن فيها كفاف يومه فحسب. فهل سيبقى الفقراء في لبنان ضحايا ظلم الدولة وتقصيرها وعتوها وسياساتها الخاطئة؟
أخبرني أحدهم أن البلد الإفريقي آواه عندما لفظه بلده، وأعزّه حينما أذلّه بلده، وساندته حكومته عن دمّرته حكومة بلده. هذا البلد الإفريقي الذي وجد فيها وطناً مخلصاً صادقاً، يستحق منا جميعاً أن نبارك أرضه وشعبه ونظامه بعد أن تخلّى عنا وطننا في زمن الوباء والعوز. وأضاف قائلاً: لا أملك ثمن التذكرة لأعود إلى وطني، لكنني أعيش في بلد يحضنني وطناً دون ثمن…