في يوم الأرض:بين المدن والريف في زمن الكورونا
هدى سويد ـ إيطاليا
في الواحد والعشرين من أبريل (نيسان) الجاري كان اليوم العالمي للأرض، الذي نادى به الناشط الإنكليزي جون ماك كونيل منذ العام 1969 ، تحتفل به حوالي 193 دولة حسبما بلغ عددها مؤخرا ، ممن تحترم إلى حد ما وتقدّر قيمة الأرض وتعمل بشكل أو بأخر للحفاظ عليها والتخفيف من التلوث وأضراره على البشرية ، منذ أن كرسته الأمم المتحدة واضعة أسس الحوار العالمي وقواعد احترام البيئة .
لست في صدد المناداة والتوسع في هذا الموضوع كثيرا ، لكن ما لفتني هذا العام مع جائحة الكورونا المُستجدة وما فرضته من قواعد رسميّة تحت شعار "البقاء في البيت" للحفاظ على حياتنا منعا من انتقال وانتشار العدوى ، توقف معها العديد من المؤسسات والمصانع الصغيرة منها والكبيرة للأسف ، لكن كان لذلك حصيلة إيجابية ألا وهي الحد من ازدحام السيارات وما ينجم عنها من مشاكل صحيّة ،كل ذلك وجميعنا يعرف أنه ترك عدة إشارات إيجابيّة ـ بمعزل عن وباء الكورونا ـ على البيئة أبرزها انخفاض التلوث وتحديدا في الصين كما في شمال إيطاليا وغيرهما من الدول الصناعية ، حسب الجهات البيئية المختصة كالناسا وايسا، وعلى سبيل المثال بلغ متوسط الهواء النظيف 21 بالمئة في شهر فبراير كما أظهرت الأقمار الصناعية.
ما أود قوله في هذه المناسبة أن الإنسان بنسبة ملحوظة عرف مع الوباء بل قبل سنوات قليلة ، ما يعنيه فارق العيش بين المدينة والريف ، فبعد أن كان هم نسبة عالية منه التباهي بالمدينة واحتقار المناطق الزراعية والمزارع أو من قرروا الحياة فيها ، وكثيرا ما كانت تُستخدم كلمة ضيعة للانتقاص من قيمة المكان والإنسان من قبل الذي لا يعرف ما تعنيه الطبيعة ببساطتها وما يعنيه العيش فيها أو أن تكون له رقعة بسيطة خضراء بوسعه التنفس من خلالها ، عوضا عن شقة محفوفة بالإسمنت .
في إيطاليا كما في معظم أنحاء العالم قرى انطلقت منها أسماء مبدعين كليوناردو دا فينشي الذي قدم من قرية "أنكيانو" الصغيرة في توسكانا ، وغيره ممن لا مجال لتعدادهم في هذا النص، وكثيرة هي القرى كما البلدات الصغيرة التي لم تتضرر بالكورونا. في إيطاليا النماذج جمّة كبوكا دي ماغرا في ليغوريا على سبيل المثال حيث سكني ، وإن كنّا محاطين بالكورونا من جميع الجهات نظرا للموقع الجغرافي المتواصل شمالا حيث المناطق الأكثر تضررا ، وكما بوكا دي ماغرا كانت بلدة "أوتوني" الجميلة التاريخية التي لم تُسجل أي حادثة كورونا فيها رغم وقوعها في محافظة "بياشنسا" الأكثر تأذيا في إقليم "أميليا رومانا" ، وإن عمد سكانها بتوجيه من رئيس بلديتها إلى إقفالها مانعين إلدخول إليها كما الخروج منها منذ أول حالة سمعوا بها في بياشنسا ..وغيرهما كثير لا مجال لتعدادها سواء في إيطاليا أو غيرها من الأماكن عالميا التي لم تتعرف عليها الكورونا لحسن الحظ ، ولم تتضرر البلدات والقرى الإيطالية الأخرى إلى حد كبير إلاّ بسبب هرب الناس من المدن الكبرى ،وما حل فيها من إصابات الكورونا ، فانتقلت العدوى إلى الأخيرة قبل اتخاذ السلطات القرارات بحالة الطوارئ ومنع الإنتقال من بلدية وإقليم لآخر.
ما أود قوله في المناسبة العالمية للأرض هذا العام الذي صادف معه زحف الكورونا ، أن بيوتا مُجاورة لي اختارها كبيت ثان أهل مدينة ميلانو التي لقيت في الفترة الأولى للكورونا حسب الإحصاءات الرسمية خمسة أضعاف من الضحايا ما تكبدته في الحربين العالميتين ، ناهيك عن جنسيات أخرى كانت تنشد المنطقة هذه كما غيرها من ريفية متوزعة في كل الأنحاء الإيطالية ، يأتون إليها في الصيف للاستجمام أو آخر الأسبوع في مختلف المواسم ، إلاّ أن أصحابها لم يتمكنوا من القدوم إليها في مرحلة الكورونا إلا من استطاع الهرب في بداية انتشار الوباء ، بقوا في ميلانو التي كان يضرب فيها أكثر من هلع وخوف ، وبقيت البيوت هذه تصدح في وحدتها وفراغها ، لا صوت ولا حركة لجيراني الذين سيتأخرون أيضا في المجئ لاحقا ، لأن المرحلة الثانية لكورونا تحدّ التنقل ما بين الأقاليم برغبة أو حجّة التوجه للبيت الثاني إلاّ إذا كان هذا البيت في الإقليم نفسه للسكن الرئيسي كما تناهى .
واظبت مع من كنت على صداقة كباولا ، جورجيو وباريزي ذوي الأصول الميلانية ، طوال الفترة هذه على إرسال صور لبيتهم وحديقتهم لعل الصور تثلج صدرهم : "نتنفس بمجرد رؤيتنا للطبيعة الخضراء والزهور، نعيش في ميلانو بين أربعة حيطان " هكذا كانوا يرددون . وكما رددوا هم ،ردد عديدون من خلال التواصل الاجتماعي رسما وفيديوهات للشقق الملاصقة لبعضها البعض يطل ناسها على بيت أوشقة أرضية بحديقة صغيرة للتعبير "أن نيال من يملك رقعة خضراء للتنفس". حتى على الصعيد النفسي أكد أكثر من طبيب نفسي أن انعكاسات الكورونا على هؤلاء أخف وطأة على المسجونين في شققهم .
هل سننسى مرحلة الكورونا ؟ هل سننسى الجدران الأربعة ونعود لعقلية مضى عليها الدهر ؟ وأن التقدم لا يعني مدنا والتخلف يعني قرى ، وأن بوسع المرء تغذية روحه بما يشاء وكيفما شاء من حضارة تتمثل بكل الألوان والأشكال الحديثة التكنولوجية والفنية التي تنطلق جميعها من جمال وحيد هو جمال الأرض ؟.