مواطن القوة والضعف في الاتفاق اللبناني- الاسرائيلي لترسيم الحدود البحريّة* (جواد الهنداوي)
د.جواد الهنداوي* – الحوارنيوز- خاص
لا يخلو أي اتفاق أو نص قانوني او دستوري مِنْ مفردات أو عبارات قابلة للتأويل أو التفسير سلباً او أيجاباً، لصالح هذا الطرف أو لصالح ذاك الطرف المُتَفِقْ. ولو كان للقوانين وللاتفاقيات وللعقود صفة الكمال لما كان لوجود القضاء والمحاكم ضرورة .
ولكن، وجود مواطن ضعف، في الاتفاق، فالامر لا يُبّددْ التفاؤل ولايضّيعُ الامل المنشودان على انجاز وتنفيذ الاتفاق، وما سيجلبه الاتفاق من مزايا سياسيّة واقتصادية وأمنيّة للبنان وللمنطقة وللعالم .
أُنجِزَ الاتفاق بمدة قصيرة وقياسيّة لم تتجاوز أربعة شهور (من شهر حزيران الى شهر تشرين الاول ) لسنة ٢٠٢٢، صحيح أنّ المفاوضات والوساطات بدأت منذ سنة ٢٠٢٠، وصحيح أيضاً بأنَّ جهود السلطات اللبنانية الدستورية في هذا المضمار بدأت في عام ٢٠١١، حين اصدر مجلس النواب اللبناني قانون رقم ١٦٤ في ١٠ /٨ /٢٠١١، يُلزم فيه الحكومة باتخاذ الاجراءات واصدار القرارات اللازمة لتنفيذ القانون الداعي الى ترسيم حدود لبنان البحرية مع فلسطين المحتلة، ولكن أربعة شهور كانت كافية لتكريس نتائج جهود عقد من الزمن.
كانت الحاجة للاتفاق هي وراء اتمامه بسرعة؛ حاجة لبنان وحاجة اميركا وحاجة اسرائيل؛ لبنان بحاجة ماسة الى استغلال ثرواته لانتشال اقتصاده من الانهيار ، وبحاجة الى دخولة في نادي دول الطاقة، واميركا والغرب بحاجة الى الغاز والنفط، و اسرائيل بحاجة ايضاً الى استغلال الثروات في المياه الفلسطينيّة المحتلة وبحاجة ان تدخل نادي الطاقة . كما انَّ الحرب الاوكرانيّة الروسيّة دفعت اصحاب الحاجة (اميركا والغرب واسرائيل) الى التواضع في شروطهم والتنازل عن بعضها، والى ” الاخلاص ” في جهودهم، ونتمنى الاخلاص والوفاء في التزاماتهم.
كان ادراك الجميع بويلات ومصائب فشل الوصول الى الاتفاق عاملاً اساسياً في انجازه، لم يكنْ أصحاب الحاجة، ولا الذين خلف أصحاب الحاجة بوارد خوض وتحمّل وزر حرب أخرى في منطقة انتاج وتسويق الغاز والنفط . لذا كان دور الوسيط الامريكي فاعلاً ومخلصاً ومنتجاً، وتمنيناه ان يكون هكذا في الملف الفلسطيني.
إعلان
ما توّصل له الطرفان (اللبناني والاسرائيلي) هو حلٌ ” سلمي ودائم ومنصف ” لنزاعهما البحري الحدودي الاقتصادي. وصفات الحّل ( سلمي ودائم ومنصف ) مُقتبسة من نص الفقرة هاء من القسم الاول للاتفاق المكتوب .
الصفة القانونية لهذا الحّل هو اتفاق غير مُباشر لفّض نزاع بين لبنان واسرائيل حول مياههما الاقليمية والمناطق الاقتصادية الخالصة لكل منهما، وتّمَ هذا الاتفاق “بواسطة و برعاية و بضمانة امريكية”، وهذا الالتزام الاميركي الرسمي ( وساطة ورعاية وضمانة ) مُستمر ودائم، وغير محدود لا في الجهد ولا في الوقت.
بعبارة اخرى لا ينتهي عند اتمام الاتفاق وانما يستمر عند تنفيذ الاتفاق. هذا ما استنتجه من قراءتي لأقسام الاتفاق الاربع ولنصوص الاتفاق التي جاءت على شكل فقرات، حيث نجد استعداداً اميركياً للتدخل والتوسّط بخصوص ايَّ سوء فهم او اختلاف تفسير يقع بين الطرفين ، وخاصة في شأن استثمار و استغلال بلوك رقم ٩ والذي يتضمن حقل قانا ، وثلثي هذا الحقل في الجانب اللبناني وثلث منه او اقل في الجانب الفلسطيني .
حضور الدور الاميركي في جميع فقرات الاتفاق هو رسالة طمأنة من الادارة الاميركية موّجهة الى لبنان لتبديد مخاوفه من عدم أو سوء تنفيذ من قبل اسرائيل .
ومُحقْ جداً لبنان في توخيه الحيطة والحذر ، لانّ اتمام الاتفاق مع اسرائيل شئ وتنفيذ الاتفاق من قبل اسرائيل شئ آخر ، وتجربة العرب مع اسرائيل غنيّة بسلوك نكث العهود و التنصّل من الاتفاقات و الالتزامات .
ويتكلُّ لبنان ايضاً على قدراته العسكرية وعلى تلاحم الشعب والجيش والمقاومة في حال نكثت اسرائيل في التزاماتها ، وفي حال عجزت امريكا عن ضبط اسرائيل .
قّوة الردع التي يمتلكها اليوم لبنان ، والتي ساهمت ايضاً بتحقيق انجاز الاتفاق ، ستبقى وستتعزّز في المستقبل ، من اجل ضمان تنفيذ مسؤول ومنصف للاتفاق .
من الناحية الاقتصادية ، ستباشر اسرائيل باستغلال وباستثمار منطقتها الاقتصادية الخالصة لاستخراج الغاز ، من حقل كاريش، والذي يقع حصراً في منطقة اسرائيل الاقتصادية. على لبنان البدء بأعمال التنقيب في منطقته الاقتصادية الخالصة في بلوك رقم ٨ ، ٩ ، ١٠ .وخاصة بلوك رقم ٩ والذي يتضمن حقل قانا . وحسب ما يراه المختصون الفنييون ، يحتاج لبنان الى مدة ٣-٥ سنوات حتى يبدأ بالانتاج. وكلمّا بدأت الجهات المعنيّة في لبنان بأعمال الاستكشاف والتنقيب والحفر مبكراً ، كلما كان ذلك اسرع في الانتاج والضخ والتسويق ، لذا السرعة في تشكيل الحكومة سيساهم على الاسراع في اصدار القرارات واتخاذ الاجراءات الضرورية للبدء بالتنقيب و اعطاء الضمانات السيادية للشركات التي ستقوم بتشييد البنى التحتّية لمشاريع التنقيب والاستخراج والضخ .
هذا الاتفاق الاقتصادي البحري غير المباشر بين لبنان واسرائيل هو ايضا ترسيم لحدود لبنان البحرية مع فلسطين المحتلة، حيث تبنى لبنان الخط البحري رقم ٢٣، والذي حدّده لبنان منذ عام ٢٠١١ وبموجب المرسوم الحكومي رقم ٦٤٣٣ وبتاريخ ٢٠١١/١٠/١٠ ، وجاء هذا المرسوم طبقاً لقانون رقم ١٦٣ لعام ٢٠١١ . و بقي لبنان متبنياً لهذا الخط البحري ( خط ٢٣ ) ، وحصلَ عليه في الاتفاق المُبرم في ٢٠٢٢/١٠/٢٨ ، موضوع الدراسة والتحليل . لذا ، من الناحية الدستورية ، لم يكْ لبنان بحاجة الى موافقة مجلس النواب ولم يكْ بحاجة الى موافقة مجلس الوزراء ، من اجل الموافقة على الاتفاق والتوقيع عليه من قبل السيد رئيس الجمهورية ، لأنَّ هذه الموافقات الاصولية سبقَ وان تمت في عام ٢٠١١ ، وهذا كان مصدر التوافق الوطني الصلب بين الرئاسات الثلاث في التفاوض والتوقيع على الاتفاق . بخلاف الحال لاسرائيل ، حيث انها تبنت ومنذ تموز عام ٢٠١١ خط “رقم 1” لحدودها البحرية ، ولكن الآن و وفقاً للاتفاق لم تستطعْ الحفاظ على مساحتها البحرية بموجب الخط رقم ١ ، وخسرت بموجب هذا الاتفاق مساحة ٨٧٦ كيلومترا مربعا لصالح لبنان ،لذلك اضطرت عرض الاتفاق على مجلس الوزراء للموافقة علية قبل التوقيع ،كما انها استعانت بموقف المحكمة الاسرائيلية العليا ،التي رفضت كافة التماسات وطلبات اليمين المتطرف ، الداعية الى رفض الاتفاق. وكانت الادارة الاميركية داعمة لموقف رئيس الوزراء الاسرائيلي نحو توقيعه على الاتفاق .
حرص وادراك الادارة الاميركية على انجاز ونتائج انجاز الاتفاق كانا اكثر من حرص و ادراك اسرائيل .. وتبعاً لذلك لم يكْ اي تأثير اقليمي او عربي سلبي، او اي موقف اقليمي او عربي غير مؤيد لهذا الاتفاق .
عندما نتفحص نصوص الاتفاق ، و التي وردت في اربعة اقسام وفي عّدة فقرات ، نجدُ في القسم الاول نصوصا تؤكد على ان هذا الاتفاق هو ترسيم حدود بحريّة نهائي و دائم لكل من لبنان واسرائيل ، مع تحفظيّن صريحيّن: الاول هو ” دون المساس بالحدود البريّة ” ، والثاني هو “في سياق ترسيم الطرفين للحدود البرية او في الوقت المناسب بعد ذلك ، والى ان يتم تحديد هذه المنطقة ،يتفق الطرفان على ان الوضع الراهن …” ، لذا ليس من دون سبب ان يصفَ بعض المحللّين بأن هذا الاتفاق هو اتفاق ” الوضع الراهن “.
في الفقرة د من القسم الاول نجدُ النص التالي “الاحداثيات الواردة في اتصالات كل طرف في الامم المتحدة ( يعني مراسلات لبنان واسرائيل الى الامم المتحدة ) تحّلُ محل الاحداثيات الواردة الى الامم المتحدة من اسرائيل بتاريخ ٢٠١١/٧/١٢، ومن لبنان بتاريخ ٢٠١١/١٠/١٩ ، ولا يجوز لأي طرف مستقبلاً ان يقدم مخططات او احداثيات الى الامم المتحدة لا تتفق مع هذه الاتفاقية … ” . انتهى النص .
نستنتج من هذا النص بأن الاحداثيات التي تم تبنيها نهائية ومُلزمة ولا يجوز استبدالها .
في نصوص اخرى ، نجد ان التزام اسرائيل مبني على معايير قابلة للتفسير وللتأويل؛ مثلاً ،في الفقرة د من القسم الثاني والخاص بإستغلال الثروات: ” لن تعترض اسرائيل على الانشطة المعقولة والضرورية … التي يقوم بها مشغّل بلوك رقم ٩ ( يعني التي تقوم بها الشركة التي ستستكشف الغاز في حقل قانا ) جنوب خط الحدود البحرية ( يعني في مياه المنطقة التابعة لاسرائيل ، لأنَّ جزءا من حقل قانا يقع فيها ) سعياً وراء استكشاف الغاز …” . عبارة ” انشطة معقولة وضرورية ” قابلة للتأويل وللتفسير ،ربما تكون بعض الانشطة ضرورية ولكنها لاسرائيل غير معقولة ! ماهو المعيار للتمييز بين ماهو معقول وغير معقول لاسرائيل؟
في الفقرة ز من القسم رقم ٢ ، نجدُ ايضا مطّبا آخر ، ” اذا كان حفر الافاق ضرورياً جنوب خط الحدود البحرية ( يعني في المياه التابعة لاسرائيل ) .. لن تحجب اسرائيل بشكل غير معقول هذه الموافقة على الحفر … “
هنا ايضاً نتساءل وكذلك القارئ الكريم ما هو المعيار للتمييز بين ماهو معقول وغير معقول؟ قد يكون للشركة التي تتولى الحفر امراً معقولاً وقد يكون لاسرائيل الامر غير معقول ! حصول مثل هذا النزاع وارد حتى ولو ركَنّا الى ماهو معتاد عليه في مجال النشاط .
الفقرات الاخرى من الاتفاق تُكّرسُ دوراً مهما للولايات المتحدة الامريكية في الوساطة والتدخل عند حدوث ايَّ تعثّر او سوء تنفيذ بند من بنود الاتفاق .
رغّمَ كل ما يتضمنه الاتفاق من التزامات واضحة لكلا الطرفين ، ومن دور وساطة مستمر للولايات المتحدة الامريكية ، يبقى حسن تنفيذ الاتفاق والتزام اسرائيل واميركا مرهونه بتطورات الوضع الاقليمي والدولي والحاجة الى موارد الطاقة .
الجميع يلتقون في القول بأنَّ هذا الاتفاق سيساهم في امن واستقرار المنطقة ، وهذا صحيح جداً ان حسُنت النوايا وتوازنت قوى الردع لدى الاطراف المتفقّة.
*سفير عراقي سابق ورئيس المركز العربي الأوروبي للسياسات وتعزيز القدرات-بروكسل
*مداخلة في اطار الندوة التي نظمّها المركز العربي الاوربي للسياسات وتعزيز القدرات في بروكسل وبالتعاون مع سفارة الجمهورية اللبنانية في بروكسل ،بعنوان : لبنان نحو ترسيخ السيادة والاصلاح والتوافق ، بتاريخ /٢٠٢٢/١١/2 .