سياسةمحليات لبنانية

قانون مكافحة تبييض الاموال وتمويل الارهاب ودوره في مكافحة الفساد واسترداد الاموال المنهوبة

 

الدكتور عـلي بــــدران – الحوارنيوز
تزداد المطالبة في الآونة الأخيرة بضرورة إسترداد الأموال المنهوبة في إطار عملية مكافحة الفساد، وأيضاً بإسترداد الأموال التي تمّ تحويلها من المصارف إلى الخارج بعد تاريخ 17 تشرين الأول 2020، كما المطالبة أيضاً بإقرار قوانين وتشريعات جديدة لمكافحة الفساد لا سيما على الصعيد المالي.

ما هي الآلية القانونية التي يمكن إعتمادها؟ ومن هي الجهة الصالحة في الخارج للتعاون معها في هذا الموضوع؟ وهل من السهل إسترداد الأموال المنهوبة دون إدانة من القضاء اللبناني، وإعتبارها بالدرجة الأولى أموالاً غير مشروعة ناتجة عن الجرائم المحدّدة في قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب رقم 44/2015، وهل يُشكّل هذا القانون المدخل الأساسي لإسترداد هذه الأموال من خلال "هيئة التحقيق الخاصة" في مصرف لبنان، وهل لدى "الهيئة" الصلاحية الكافية أم هناك ضرورة لتدخّل القضاء وصدور حكم قضائي؟ وهل يُمكن إستعادة الأموال المُحوّلة إلى الخارج في ظل عدم وجود قوانين تمنع ذلك؟ هل المنظومة القانونية الحاليّة كافية؟ أم هناك حاجة لتحديث بعض القوانين وتشريع قوانين جديدة لمكافحة الفساد وإستعادة هذه الأموال؟

أهمية قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب رقم 44/2015
يعتبر قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الارهاب رقم 44/2015 أحد ركائز محاربة الفساد والجرائم المالية والتهرّب الضريبي في لبنان. وهو قانون حديث وفق المعايير الدولية، جاء ليعدّل القانون السابق رقم 318/2001 ويحلّ مكانه، حيث أقرّ توسعاً في تعريف جريمة تبييض الأموال وإعتبارها جريمة أصلية بحد ذاتها ولا تستلزم الإدانة بجرم أصلي، وأضاف التعديل أربعة عشر جريمة على الجرائم السبعة القائمة، والتي ينتج عن إرتكابها أموال غير مشروعة سواء حصلت في لبنان أم خارجه، منها الفساد بما في ذلك جرائم الرشوة، صرف النفوذ، الاختلاس، إستثمار الوظيفة العامة، إساءة إستعمال السلطة، والإثراء الغير المشروع، إضافةً إلى التهرُّب الضريبي والتهرُّب الجمركي، وجرائم أُخرى تم تعدادها في المادة الأولى من القانون.

كما أن أبرز التعديلات التي طالها القانون 44/2015، تمثلّت في توسيع صلاحيات "هيئة التحقيق الخاصة" في مصرف لبنان المُنشأة بموجب المادة السادسة منه منذ إقرار القانون السابق 318/2001. وتتمتّع "الهيئة" بالإستقلالية التامة والطابع القضائي لإجراء التحقيقات في العمليات المالية التي يُشتبه بها، والتحقّق من مصادر الأموال والحسابات المصرفية ومتابعة حركة الأموال (Traceability)، وتقرير مدى جدّية الأدلّة والقرائن على إرتكاب أي من الجرائم المذكورة. ويعود لهيئة التحقيق الخاصة وحدها صلاحيّة إتخاذ القرارات برفع السرية المصرفية والتجميد الإحترازي المؤقّت كما النهائي لأرصدة الحسابات أو العمليات المالية المشتبه بها، وللجهات المعنيّة الإجراءات اللازمة لمنع التصرّف بها، والطلب من النائب العام التمييزي إتخاذ إجراءات إحترازيّة في ما يتعلّق بالأموال المنقولة وغير المنقولة، ودون الحاجة لأي ترخيص أو إذن للقيام بالمهام المحدّدة لها.

كذلك وسّع القانون رقم 44/2015 الجهات المُلزمة بإبلاغ "هيئة التحقيق الخاصة" عند قيامهم بمهامهم ضمن أصول وإجراءات معينة، عن تفاصيل العمليات المالية التي يشتبهون بها تتعلق بهذا القانون، لتشمل المحامين وخبراء المحاسبة المجازين وكُتّاب العدل، وأضاف القانون أيضاً إجراءات العناية الواجبة (Customer Due Diligence)، التي تُسهم في تعزيز المعايير المهنية والأخلاقية، وتمنع إستغلال هذه الجهات لدخول أموال مشبوهة أو غير مشروعة. وقد جاء هذا التوسّع للجهات الملزمة بالإبلاغ، إستجابة لمضمون توصيات "مجموعة العمل المالي" (FATF)2012 التوصية رقم 22 المتعلقّة بالمؤسسات والمهن غير المالية. كما ألزم هذا القانون أيضاً المراقبين العاملين في لجنة الرقابة على المصارف في مصرف لبنان، بإبلاغ "هيئة التحقيق الخاصة" بواسطة رئيس اللجنة عن العمليات التي يطّلعون عليها عند قيامهم بمهامهم والتي يشتبهون بها.

نصّ القانون رقم 44/2015 على جرائم الفساد والتهرّب الضريبي، وهي من الجرائم المرتفعة المخاطر في لبنان، والتي لها تأثير كبير على مالية الدولة، وبالتالي الجهات المعنية المحدّدة فيه من أجهزة إنفاذ هذا  القانون "كهيئة التحقيق الخاصّة" والسلطات القضائية، مكلّفة بالعمل على زيادة فعالية التطبيق (Effectiveness)، والتأكُّد من مدى الإمتثال لمعايير مكافحة الفساد وإساءة إستعمال السلطة والمال العام.

إن التجريم الذي نصّ عليه القانون رقم 44/2015 واضح، ويشمل كل من كان قائماً بخدمة عامة أو خاصة، ويُحدّد الأموال غير المشروعة (illicit funds) برمتها مهما كان مصدرها أو نقلها أو توظيفها أو المستفيد منها، فإدانة أي شخص باحدى الجرائم المنصوص عنها في المادة الأولى من القانون المذكور، تتطلّب مصادرة الأموال الناجمة عن ذلك لمصلحة خزينة الدولة، أي (إسترداد الأموال غير المشروعة) بموجب القانون 44/2015، كما أن قانون العقوبات اللبناني ينصّ على ذات المصادرة والإسترداد بمجرّد صدور قرار قضائي بإتهام شخص معيّن وملاحقته وفق القوانين الموجودة.

بين تطبيق القوانين الحالية لمكافحة الفساد وتشريع قوانين جديدة
إن دراسة النصوص والقوانين تؤكّد أن القانون اللبناني الحالي كافٍ إلى حد كبير لملاحقة المتورطين في جرائم فساد، وذلك على الرغم من بعض الشوائب والحاجة لتعديل بعض القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد، وأهميّة إقرار قانون إستقلالية القضاء، الذي يشكّل الدرع الأساسي لتمكين القضاء من تطبيق جميع القوانين. لكن في حال وُجد القرار لملاحقة الفاسدين، فإن المنظومة القانونية الحالية كافية لبدء الإصلاحات البنيوية (Structural Reform) بشكل فعاّل على الصعيدين الإقتصادي والمالي وعلى المستوى الإداري، ومكافحة الفساد وتفعيل أجهزة الرقابة للقيام بدورها، وإرساء نظام الشفافية عبر تطبيق القوانين النافذة والتي يزيد عددها عن الـ 50 قانوناً جميعها تساعد على مكافحة الفساد وأهمّها القانون رقم 44/2015.

أبرز قوانين مكافحة الفساد:
– قانون من أين لك هذا؟ الذي أُقر في العام 1953، والذي لا يزال مجرّد قانون على الورق، ولم يُغيّر شيئاً على مستوى الفساد، هذا القانون الذي يحمل إسمه صفة السؤال ولم يُجيب عليه أحد لغاية اليوم.. ولم يُعاقب أحد بسببه عمل في القطاع العام أو الخدمة العامّة، ولم يُلاحق أو خضع لمحاسبة أو مساءلة أي شخص بموجب هذا القانون منذ اقراره.
– قانون "الاثراء غير المشروع" رقم 154 تاريخ 27/12/1999، والذي لم يُوضع بعد موضع التنفيذ، رغم أهميته بالحد من الفساد في المؤسسات العامة ومحاسبة الفاسدين ووقف الهدر في المال العام، وإمكانية النيابة العامة من تحريك دعوى الحق العام، فالقانون يُعاقب على الإثراء الذي يحصل عليه الموظّف والقائم بخدمة عامّة وكل شريك في الإثراء غير المشروع (المواد 351-366) من قانون العقوبات اللبناني، والتي تُشكّل جرماً جزائياً في الجرائم الواقعة على الإدارة العامّة.
علماً أن القانون المذكور يتضمّن بعض الثغرات ويتطلّب بعض التعديلات، أهمها موضوع تقديم كفالة مصرفية من الشاكي بقيمة 25 مليون ليرة لبنانية مرفقة مع الشكوى، فضلاً عن المسؤولية المترتبة على المدّعي، والغرامة الباهظة في حال عدم كفاية الشكوى أو إبطالها.
– قانون مكافحة تبييض الأموال وهو نافذ منذ العام 2001 تحت الرقم 318 قبل تعديله بالقانون رقم 44/2015 الحالي، وهو قانون جزائي، ويعتبر الفساد في المادة الأولى منه من الجرائم التي يجوز فيها رفع السرية المصرفية من خلال "هيئة التحقيق الخاصة" في مصرف لبنان، والتي ليست بحاجة لأي ترخيص للقيام بالمهام التي حدّدها هذا القانون، ولا تشكّل السرية المصرفيّة بحد ذاتها عائقاً قانونياَ أمام إجراءات الملاحقة في جرائم الفساد، وهي أفعال في أغلب الأحيان يمكن توصيفها قانوناً على أنها جرائم تبييض أموال.
– قانون الاجازة للحكومة الإنضمام إلى إتفاقية الأُمم المتحدة لمكافحة الفساد رقم 33 تاريخ 16/10/2008، وهي الإتفاقيّة التي أقرّتها الجمعية العامّة للأُمم المتحدة (UNCAC)، وأصبحت نافذة بتاريخ 14/12/2005، وتُعتبر هذه الإتفاقيّة المُتعدّدة الأطراف الأكثر شمولاً وقوّة في مكافحة الفساد الذي لم يعد شأناً محلياً، بل أصبح ظاهرة دوليّة. كما توفّر الإتفاقية التي تضمُ ما يزيد عن 190 دولة إطاراً جديداً لتقوية التعاون الدولي في مكافحة الفساد الذي يقوّض سيادة القانون بين الدول، وتُلزم الإتفاقية الدول الأطراف فيها، ومنها لبنان بتنفيذ مجموعة واسعة ومفصّلة في تدابير منع ومكافحة الفساد، وتعزيز إنفاذ القانون والتعاون القضائي الدولي، من خلال توفير آليات قانونيّة فعّالة لتعقُّب وتجميد وإسترداد الأموال والموجودات الناتجة عن الفساد بإعتباره المبدأ الأساسي للإتفاقية، كما المساعدة التقنيّة وتبادل المعلومات وفقاً لآلية تعاون مُلزمة للدول الأطراف.
إن إنضمام لبنان لهذه الإتفاقية، والتي تُعتبر أول أداة دوليّة لإستعادة الأموال الناتجة عن الفساد، جاء لمواكبة التطورات الحاصلة في مجال مكافحة الفساد الذي أصبح يُهدّد القيم الأخلاقية والتنمية والعدالة وتطبيق القانون للخطر، وبغية منع الفساد والكشف عنه لتعزيز النزاهة والمساءلة، والعمل على إرجاع الموجودات والأموال الناتجة عن أنشطة الفساد، لأنها في الواقع مسألة في غاية الأهمية بالنسبة للدول الناميّة حيث الفساد ونهب الثروة الوطنية على مستوى مرتفع.
– قانون حقّ الوصول إلى المعلومات رقم 28 تاريخ 10/2/2018.
– قانون حماية كاشفي الفساد رقم 83 تاريخ 10/10/2018.
– قانون دعم الشفافية في قطاع البترول رقم 84 تاريخ 10/10/2018.
قد يتبيّن وجود نقص أو ثغرات في بعض القوانين تتطلّب الحاجة لتعديل أو تحديث معيّن، وأحياناً تشريع بعض القوانين لتحقيق الإصلاح المنشود،على سبيل المثال:
 إقتراح قانون رفع الحصانات عن جميع القائمين بالخدمة العامّة وإدارة المال العام أكانوا من الحاليين أم السابقين.
 إنشاء محكمة خاصّة مستقلة تنظر في ملفات الفساد والجرائم على المال العام، نظراً لبطء الإجراءات أمام القضاء العادي، تكون مدعومة من أهل الإختصاص من خبراء ماليين ومصرفيين وخبراء محاسبة مجازين لديهم الخبرة والكفاءة.
 إجراء بعض التعديلات على قانون مكافحة الفساد في القطاع العام، وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، تكون مستقلة ونزيهة قادرة على تفعيل المحاسبة القضائية، وتوسيع الصفة لأعضائها عبر إنتخاب محامٍ من قِبل نقابة المحامين في بيروت والشمال، وإنتخاب خبير محاسبة مجاز من قبل الجمعية العمومية في نقابة خبراء المحاسبة المجازين بناءً على ترشيحات من النقابتين، بدل تعيينهما من قبل مجلس الوزراء، وعضو من الخبراء المتخصصين في شؤون مكافحة الفساد أو المالية العامة.
 توسيع صلاحيات الهيئة الوطنية لتشمل رفع الحصانات عن كافة الموظفين في القطاع العام، وإجراء التحقيقات والملاحقات بجرائم الفساد دون الحاجة للحصول على الإذن المسبق الملحوظ في القوانين، وتأمين الحماية اللازمة لكاشفي الفساد، إضافة لمنح الهيئة حق رفع السرية المصرفية عن حسابات المشتبه بهم بشكل مباشر أو عبر "هيئة التحقيق الخاصة" في مصرف لبنان من خلال القانون44/2015.
مكافحة الفساد فعلياً يتطلّب وجود ثقة بجدّية التدابير المتخذة لتطبيق القوانين، يجب أن يتكامل العمل التشريعي والرقابي، وهو الأساس لإمكانيّة إستعادة الأموال المنهوبة. ما الجدوى من تشريع قوانين جديدة إذا لم تُطبّق القوانين القائمة؟ المشكلة في فعّالية التطبيق، وعدم وجود النيّة والقُدرة أحياناً لملاحقة الفاسدين.

إمكانية إسترجاع الأموال المحوّلة للخارج وإسترداد الأموال المنهوبة
تصدّرت قضية الأموال المحوّلة إلى الخارج منذ بداية الأزمة في لبنان في شهر تشرين الأول 2019، وقضية الأموال المنهوبة خلال الفترة الزمنية السابقة، وتجسدّت في تحقيقات تدخلت فيها الحكومة لتصبح خطة عمل لها.

أولاً: في إستعادة الأموال المحوّلة إلى الخارج منذ بداية العام 2019.
مع نهاية شهر نيسان 2020، كلّفت الحكومة وزارة المالية الطلب من مصرف لبنان إعداد لوائح بالتحويلات المالية إلى الخارج عبر المصارف منذ بداية العام 2019، وتبيان مجموعها لغاية تاريخ الطلب، مع تحديد نسبة المبالغ التي جرى تحويلها من قبل أفراد يتعاطون الشأن العام، وتلك التي حوّلت لأسباب تجارية وتبيان نسبة كل منهما إستناداً إلى قانون النقد والتسليف، وقانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب رقم 44/2015 وقانون الإثراء غير المشروع رقم 154/1999.

من حيث المبدأ، إن عمليات تحويل الأموال إلى الخارج أو بتعبير آخر "هروب الأموال إلى الخارج" لا يُخالف القوانين اللبنانية، وفي ظل عدم وجود أي تشريع مثل قانون الـ (Capital Control) يفرض قيود أو يمنع التحويلات إلى الخارج، وإنما جوهر الموضوع هو مصدر الأموال أن لا يكون جرمياً، أو أن مصدر الأموال المحوّلة للخارج غير مشروعة.

جزء من الأموال المحوّلة إلى الخارج، ناتج عن إعتمادات كانت مفتوحة قبل تاريخ 17/10/2019 لسداد مترتبات خارجيّة في المصارف المراسلة أو لأسباب أُخرى، والجزء الآخر من هذه الأموال تمّ من قِبل مودعين أو لأصحاب نفوذ معيّنة بالإتفاق مع إدارات بعض المصارف، لكن خلال ذروة أزمة سيولة كان له الإنعكاس السلبي لهذه التحويلات على الإستقرار النقدي، وفي وقت فرضت فيه أغلب المصارف قيوداً مشدّدة على سحوبات المودعين، وحظّرت عليهم تحويل أي مبلغ بالعملات الأجنبية للخارج، بمن فيهم المواطنون الراغبون في تحويل أموال لأبنائهم الذين يدرسون في الجامعات خارج لبنان، وكذلك التجّار المضطّرين إلى سداد ثمن بضائعهم المستوردة وحتى الأساسية منها، أو لأي اسباب أخرى.

من الناحية العملية، الأموال التي تم تحويلها إلى الخارج خلال الفترة المطلوبة ناشئة من حسابات وودائع موجودة في المصارف اللبنانية، ومن المفترض أنه تم التحقّق من هذه الأموال قبل ذلك، وإن قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 44/2015 يفرض على المصارف معرفة مصدر الأموال المودعة مهما كان نوعها، أمّا من تدور حوله أيّة شبهات، على "هيئة التحقيق الخاصّة" أو القضاء التحقيق في مصادر الأموال، وخصوصاّ فيما يتعلق بأصحاب الحسابات المعرّضون سياسياً (PEPs) Politically Exposed Persons، والذين يشغلون أو كانوا قد شغلو مراكز رسمية مهمة (رئيس دولة، قاضٍ، عسكري، شخصيات بارزة في أحزاب سياسية ..) وأفراد عائلاتهم وشركاؤهم المقربين، بما ينسجم مع التوصية رقم 12 المنصوص عنها في المعايير الدولية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب الصادرة عن مجموعة العمل المالي (FATF)، لجهة إتخاذ تدابير معقولة لمعرفة مصدر الأموال.

كما يفرض القانون 44/2015 على المصارف، القيام بالمتابعة والمراقبة المستمرة المعزّزة على حساباتهم، ترتكز على إعتماد درجة المخاطر  RBA(Risk Based Approach) لتصنيفهم، وفي مطلق الأحوال، وإستناداً لنظام مراقبة العمليات المالية والمصرفية لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب المرفق بتعميم مصرف لبنان الأساسي رقم 83 تاريخ 18/05/2001 وتعديلاته، والذي وُضع تنفيذاً لأحكام قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 44/2015، يفرض على المصارف مسؤولية إعتماد إجراءات واضحة لفتح الحسابات، وتطبيقإجراءات العناية الواجبة، والتي تشمل التحقّق من هوية جميع عملائها المقيمين وغير المقيمين، وتحديد طبيعة عملهم، وفهم كيفية هيكلية مُلكية الشخص المعنوي، والغرض من التعامل وفتح الحساب، و"صاحب الحق الإقتصادي" (Beneficial Owner)، ومصدر الأموال ومراقبة العمليات بشكل مستمر، وعندما يكون "صاحب الحق الإقتصادي" غير صاحب الحساب، يتوجّب أيضاً على المصرف المعني تطبيق إجراءات العناية الواجبة ذاتها المطلوب تطبيقها على العملاء، والإستحصال على معلومات أكثر تفصيلاً لا سيما تحديد مصدر الثروة.

إضافة إلى ما تقدم ومع بداية العام 2020، طلبت "هيئة التحقيق الخاصة" في مصرف لبنان، وبناء لكتابي النيابة العامة التمييزية تاريخ 30/12/2019، من جميع المصارف العاملة في لبنان وعلى مسؤوليتها وخلال مهلة شهر واحد، إعادة دراسة الحسابات المفتوحة لديها لأصحاب الحسابات المعرضّين سياسياً (PEPs)، التي جرت عليها تحاويل إلى خارج لبنان، وذلك عن الفترة الممتدة من 17/10/2019 ولنهاية العام 2019، ولا سيما لجهة تحديد مصدر الأموال المودعة فيها، وإفادة "هيئة التحقيق الخاصة"في حال وجود أي شبهة على الحسابات.

وقد أجابت "هيئة التحقيق الخاصة" النيابة العامة التمييزية بعد إستلامها رد المصارف التي نفّذت تحاويل إلى الخارج خلال الفترة المطلوبة، بعدم وجود شبهة لدى المصارف بالعمليات أو بمصدر الأموال المودعة في الحسابات لديها، وبالتالي إن الأسماء التي أجرت التحاويل للخارج غير معروفة من "هيئة التحقيق الخاصّة"، ويتعذّر عليها قانوناً إتخاذ أي قرار بخصوص هذه الحسابات، أو الطلب من المصارف تزويدها بالأسماء لعدم وجود شبهات عليها.

يمكن "للهيئة" معرفة الأسماء فقط في حال إبلاغ المصارف عن الإشتباه بحسابات معينة،عندها يتم الكشف عن الأسماء وتُرفع السرية المصرفية عن حسابات الجهة المُشتبه بها، والطلب من الدولة التي تم التحويل إليها من خلال "وحدة الإخبار المالي الأجنبية" تجميدها كونها مشبوهة تمهيداً لإمكانية إستعادتها.

إن تحويل الأموال إلى الخارج وإن كان على سبيل"الهروب" في الظروف الإقتصادية والمالية الصعبة من لبنان، لا يشكّل بذاته جرماً ما لم يكن مصدره جرمياً، أي ناتجاً عن أي من الجرائم المذكورة في المادة الأولى من القانون 44/2015، ومهمّة "هيئة التحقيق الخاصة" في هذه الحالة تتبّع هذه الأموال (Traceability) ومخابرة السلطات اللبنانية أو الأجنبية كافة من قضائية وإدارية ومالية وأمنية بغية طلب المعلومات إستناداً للمادة التاسعة من قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب رقم 44/2015.

دور "لجنة الرقابة على المصارف" في مصرف لبنان في عملية إسترداد الأموال المُحوّلة إلى الخارج
ينحصر دور "لجنة الرقابة على المصارف" في معرفة تفاصيل وقيمة المبالغ التي تم تحويلها إلى الخارج، من خلال الطلب من جميع المصارف عن العمليات والجهة المحوّل إليها دون معرفة أسماء الأشخاص، وقد أشارت "اللجنة" في إطار ردّها عن التحويلات المالية إلى أن 60 في المئة من حجم هذه التحويلات ناتج عن عقود إئتمانيّة، وإن "اللجنة" إذا إشتبهت بحساب معيّن ترسل كتاباً بهذا الخصوص إلى "هيئة التحقيق الخاصّة" في مصرف لبنان للقيام بدورها.
أمّا التحقّق من مصادر الأموال وتحديد الشبهة يندرج ضمن إطار عمل "هيئة التحقيق الخاصة"، فهي الجهة الوحيدة التي لا تقف السرية المصرفية عائقاً أمامها، وليس من مهمات "لجنة الرقابة على المصارف" التي لا يحق لها رفع السرية، ولا الإطّلاع على المستندات والمعلومات المتعلقة بأصحاب الحسابات التي حوّلت منها الأموال إلى الخارج، لأن ذلك يندرج ضمن صلاحيه الإطّلاع على هوية أصحاب الحسابات الدائنة، عملاً باحكام المادة 150 من قانون النقد والتسليف، بحيث لا يحقّ لمراقبي البنك المركزي، في أية حال، أن يُلزموا المصارف بإفشاء أسماء زبائنهم، بإستثناء أصحاب الحسابات المدينة، ولا يحق لهم الإتصال بأي شخص غير مدير المصرف المسؤول، وكذلك المادة التاسعة من قانون تأسيس "لجنة الرقابة على المصارف" رقم 28/67 تاريخ 9/5/1967.

إن مهمّة لجنة الرقابة تتركّز بالرقابة على المصارف والمؤسسات المالية ومؤسسات الصرافة وكونتوارات التسليف وشركات تحويل الأموال. وتؤدّي مهامها الرقابية الميدانية والمستنديّة الدورية على المؤسسات الخاضعة لرقابتها، وبالتدقيق بصحة وسلامة القطاع المصرفي والوقاية من المخاطر المصرفية، وتقوم اللجنة بتقييم الأوضاع المالية وتحليل البيانات المالية ومراقبة الإلتزام بالمعايير المطلوبة،والتأكّد من إلتزام المصارف والمؤسسات المالية بتنفيذ التعاميم الصادرة عن مصرف لبنان، وهو دور حُكماً يختلف عن دور "هيئة التحقيق الخاصة" المنشأة بموجب قانون مكافحة تبييض الأموال السابق رقم 318/2001.

ثانياً: في إستعادة الأموال المنهوبة أو تلك الناتجة عن الفساد.
إن تعبير الأموال المنهوبة غير موجود في القوانين الحالية، بل إن الفساد يؤدي إلى الأموال المنهوبة، يُمكن تعريف أو تحديد مفهوم هذه الأموال بأنها تلك الناجمة عن الجرائم المنصوص عنها في المادة الأولى من قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب رقم 44/2015، والمقصود بها الأموال غير المشروعة التي تعني الأموال المنهوبة.

بالتأكيد هناك أموال منهوبة في لبنان، وهناك أشخاص فاسدون وناهبون لهذه الأموال، عمدوا من خلال مواقعهم وتوليهم المسؤولية العامة إلى مخالفة القوانين والأنظمة، وعمدوا إلى نهب المال العام وإساءة إستعمال السلطة، والتهرّب الضريبي وغيرها من الجرائم المالية التي يُعاقب عليها القانون.

من الصعب جداً معرفة الرقم الحقيقي للأموال المنهوبة من دون الإطلاع على حركة تنقّل رؤوس الأموال منذ العام 1992 لغاية هذا التاريخ، والتي هي بالحد الأدنى بقيمة الدين العام أي حوالي90 مليار دولار على أقل تقدير، وبحسب "الدولية للمعلومات" يُقارب المبلغ 150 مليار دولار . ليس من السهل إسترداد الأموال المنهوبة دون إدانة من القضاء اللبناني تُؤكّد عدم مشروعيتها، و"هيئة التحقيق الخاصة" تتحرك فور ورود طلبات إليها من النيابات العامة التي يعود إليها التحقيق في مواضيع الفساد والأموال المشبوهة والملاحقات الجزائية، والمطالبة بإستعادة هذه الأموال لخزينة الدولة بعد جمع الوثائق والمعلومات والإثباتات التي تدعم الإخبارات الواردة إليها.

يوجد آليات قانونية نصّ عليها القانون 44/2015 لمكافحة تبييض الأموال، وهي مدخل لمكافحة الفساد وإستعادة الأموال المنهوبة، إذ أن من ضمن الجرائم المشمولة بهذا القانون ما يتعلق بجرائم الفساد وإختلاس الأموال العامة، بحيث تستطيع النيابة العامة التمييزية أن تطلب من "هيئة التحقيق الخاصة" مراسلة نظيراتها في العالم، أي وحدات الإخبار المالي الأجنبي لإفادتها عن حسابات أشخاص معنيين في الخارج أو أقربائهم.

لكن في الواقع تحقيق ذلك دونه صعوبات كبيرة، ويتعلق بمدى فعاليّة تجاوب "وحدات الإخبار الأجنبية" في عدد من دول العالم مع "هيئة التحقيق الخاصة" في لبنان، فإسترداد الأموال المنهوبة من الخارج عمليّة معقّدة جداً تحتاج إلى تعاون دولي كبير، وتجربة العديد من الدول إستغرقت سنوات طويلة لإسترداد الجزء اليسير جداً من الأموال المنهوبة.

خلال شهر حزيران 2020 ردّت وزارة الخارجية السويسرية مديرية القانون الدولي، بعدم إمكانية المساعدة القانونية على الطلب المقدّم من النيابة العامة التمييزية في لبنان بداية العام 2020، بطلب المساعدة القضائية في شأن المعلومات عن تحويل مبالغ مالية من لبنان إلى حسابات مصرفية في سويسرا، معتبرة أن شروط "التعاون لم تتحقّق"، والحاجة لمعلومات إضافية وتكميلية لتجميد أي أصول، والحاجة لشروط معينة منها تحقّق فقدان الحكومة السلطة، كما لا يُمكن البحث في تتبُّع الأموال المنهوبة وتجميد الأصول الناتجة عن الكسب غير المشروع في المصارف السويسريّة، بإعتبار أن الخوض في ملاحقة هذه الأموال يمثّل تدخلاً في شوؤن الدول الأُخرى، وقد يكون في جزء من رد الطلب ضعف الثقة بالنظام القانوني والقضائي في لبنان، الذي يمنع من التعاون بالفعالية وبالسرعة اللازمة.

إن إستعادة الأموال المنهوبة تتطلّب بالدرجة الأولى تطبيق القوانين المرعية الإجراء، فهي الأساس للإسترداد عبر تحريك النيابات العامة وملاحقة أي شخص فاسد أمام القضاء عمل في القطاع العام من أدنى الرتب إلى أعلاها دونما إبطاء، وضرورة إلغاء الإذن بملاحقة أي موظف بعد تعديل المرسوم الإشتراعي لنظام الموظفين.

يتطلب الأمر وجود إرادة وقرار سياسي حاسم بملاحقة كل من أساء إستعمال الوظيفة العامة، والوصول إلى الإدانة بواسطة القضاء، وإزالة بؤر الفساد ومصادرة الأموال غير المشروعة بالتنسيق مع الأجهزة المعنية، وتحديداً "هيئة التحقيق الخاصة" في مصرف لبنان حيث المطلوب توسيع دائرة إختصاص "الهيئة" للقيام التلقائي أو الذاتي بالتحقيقات اللازمة للقائمين بالخدمة العامّة من دون تمييز، حتى لو تطلّب الأمر تعديل لبعض مهام "هيئة التحقيق الخاصة" في القانون رقم 44/2015، لكشف الفاسدين من خلال أموالهم وأصولهم الماديّة أو غير المادية، المنقولة وغير المنقولة الناتجة عن إرتكاب الجرائم المنصوص عنها في القانون المذكور، وتفعيل عمل القضاء المستقل في إطار مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والحوكمة والإدارة الرشيدة، مع توسيع دائرة الجهات القضائية لعدم حصرها بمرجعيّة واحدة لإجراء التحقيقات اللازمة.
خلاف ذلك، سيبقى شعار إستعادة الأموال المنهوبة شعاراّ، على الرغم من وجوده ضمن خطة الإصلاح الحكومي الأخيرة كمصدر مهم لسداد الخسائر، لكن حسب التطورات الأخيرة لا يبدو أن هذا الأمر سهل المنال.

أهمية القانون رقم 55/2016 حول "تبادل المعلومات لغايات ضريبية" لمكافحة الفساد
إن إسترداد الأموال المنهوبة من الخارج أكثر تشعباً وتعقيداً من الداخل، ويمكن التعامل معه بالحد الأدنى من الكفاءة عبر المعيار الدولي للإبلاغ الموحّد لتبادل المعلومات الضريبيةCRS  (Common Reporting Standard)، الذي يرعى شروط تبادل المعلومات بين الدول، من خلال قانون "تبادل المعلومات لغايات ضريبية" رقم 55 الذي أُقر في لبنان بتاريخ 27/11/2016. والذي يتضمّن الإجراءات الخاصة بالإبلاغ والعناية الواجبة لغايات التبادل التلقائي للمعلومات الضريبية. وبموجب هذا القانون جرى رفع السرّية المصرفية عن غير المقيمين لتمكين السلطة المختصّة من القيام بواجباتها المفروضة بموجب الإتفاقيات الموقّعة، وأجاز للحكومة إبرام الإتفاقيات التي تسمح للبنان إجراء عملية التبادل التلقائي للمعلومات، وتفويض وزير المالية للتوقيع على هذه الإتفاقيات.

لم يطبّق القانون نظراً لإشتراط منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية (OECD) أن يتم التبادل المعلوماتي من خلال وزارة المال، والتي لا تزال غير جاهزة تقنياً، علماً أن الحكومة قد طلبت مع نهاية نيسان 2020 من وزارة المالية المباشرة بإتخاذ الإجراءات التقنية واللوجستية اللازمة لتبادل المعلومات الضريبية إستناداً إلى إتفاقية التعاون التقني المتعدّدة الأطراف في المجال الضريبي (MAC) والإتفاقية المتعلّقة بالسلطات المختصّة (MCAA)  والمصادق عليها بموجب القانون رقم 55/2016، وذلك توصلاً للحصول التلقائي عن الحسابات المصرفية المفتوحة في الخارج.

أهمية تنفيذ هذا القانون أنه يضبط جريمة التهرُّب الضريبي ويُعيد إلى خزينة الدولة بعض الأموال غير المشروعة، كما يتيح للبنان أن يتلقى معلومات لأغراض ضريبية، عن أموال اللبنانيين في الخارج، بأسماء أصحاب وأرقام الحسابات والمبالغ بجميع العملات، في مقابل مبادلة لبنان بالمعلومات عن مواطنين الدولة المشتركة في التبادل في لبنان، فالأموال قابلة للتعقّب والمتابعة وإمكانية إستردادها لكل من تعاطى الوظيفة العامّة والشأن العام في حال كانت غير مشروعة.

بالإمكان تحقيق المحاسبة أيضاً إستناداً إلى صدق التصريح الضريبي أو عدم صدقه، من خلال طلب تقديم السيرة الذاتية الضريبية لآخر عشرين عاماً، بغية المحاسبة على أساس تناسب مستوى العيش والمصاريف مع الدخل المصرّح عنه، وعلى أساس الصرف الضريبي الذي يبقى معياراً أساسياً للمحاسبة في الدول المتطورة، إن هذا التصريح الضريبي في ما لو أعتمد، سيفسح في المجال للمساءلة من الرأي العام والمحاسبة القضائية.

إن محاسبة كل من كان مسؤولاً عن سوء إدارة المال العام مهما كان مركزه، لا تتحقق فقط بالكشف على حساباته المصرفيّة ورفع السرية المصرفية عن الأموال الموجودة في الداخل فقط، لأن نتائجها محدودة وعديمة الفائدة بالنسبة لمن إحتاط بإستعمال أسماء مستعارة أو بتوظيف أمواله بموجودات غير نقدية أو بتحويل الأموال إلى الخارج، يمكن أن نجد أن أصحاب هذه الأموال مدينين في المصارف اللبنانية، فيما الملايين أو المليارات موجودة في الخارج.

إصلاح منظومة الشراء العام في إطار مكافحة الفساد
يُعتبر إصلاح المشتريات العامّة، أحد أبرز الإصلاحات الهيكلية الضرورية لدعم جهود مكافحة الفساد وتعزيز الحوكمة المالية، وتحسين جودة الخدمات العامّة، وإعادة الإعتبار للمعايير الدوليّة المهنيّة للعمل المالي والإقتصادي. إن القسم الأكبر من الفساد في لبنان، يأتي من المناقصات والمشتريات العامّة ذات الجودة المتدنيّة، والتي تُمثّل جزءاً كبيراً من أموال دافعي الضرائب، فالشراء العام هو أداة أساسية لتنفيذ السياسات العامّة الماليّة، وإحدى أدوات ترشيد الإنفاق العام من خلال نظام عقود الصفقات العموميّة لتلبية إحتياجات مختلف المرافق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية.
إنّ الخلل في منظومة الشراء العام، وغياب الشفافيّة والرقابة الفعّالة، فضلاً عن صيغة عقود أو صفقات التراضي وفوضى المناقصات التي أُعتمدت في قسم كبير من القطاعات، مع غياب معايير واضحة ودفاتر الشروط الموحّدة أدّى لتفشّي ظاهرة الفساد والهدر، ما يتطلّب إجراءات إصلاحيّة فورية، إن إقرار قانون الشراء العام حديث وتطبيقه بالدرجة الأولى يُشكّل مطلباً للمجتمع الدولي لمساعدة لبنان ودعمه، خصوصاً في ظلّ المفاوضات الجارية مع صندوق النقد الدولي لمواجهة الأزمة المالية الحاليّة.

خاتمــة
إن إستعادة الأموال المنهوبة أو الناتجة عن الفساد ليس بالأمر اليسير، إنها رحلة طويلة وشاقّة ومعقدّة تتطلّب وقتاً، لكن كشف مرتكبي الفساد لإستباحتهم المال العام أمر ضروري للقضاء على بؤر وينابيع الفساد في الإدارة والمؤسسات العامة، وإطلاق يد القضاء المستقّل لملاحقة الفاسدين ومحاسبتهم، كما الحاجة إلى تعزيز دور الهيئات الرقابية الصارمة والحازمة للقيام بدورها الفعّال، لا بد من تطبيق جميع القوانين، فمن المبادئ الأولى والأساسية لمكافحة الفساد سيادة القانون.

لبنان الثالث عالمياً ضمن أكبر الدول في نسبة الدّين العام من الناتج المحلي الإجمالي، حسب صندوق النقد الدولي IMF، وقد وصلت نسبته إلى 152,8 في المئة في نهاية العام 2019 إستناداً لجمعية مصارف لبنان، القسم الأكبر منه تم هدره على الفساد. نسبة التضخُّم التي تتوقّعها وزارة المال ستصل إلى 27 في المئة في نهاية العام 2020، وكذلك صندوق النقد الدولي الذي يتوقّع إرتفاع هذه النسبة إلى أرقام قياسية، ما يعني المزيد من الخسائر التي تتحمّلها الفئات الأضعف في المجتمع.

فضيحة أزمة قطاع الكهرباء المُزمنة في لبنان، وهي محور الأزمات التي يفوح منها الفساد والهدر، الكهرباء التي هي من أبسط متطلبات الحياة في القرن الواحد والعشرين، إنه قطاع فاشل من جمبع الجوانب، ووفقاً للبنك الدولي فإن ما يقرب من 40 في المئة من الدين العام المتراكم منذ العام 1992، يعود إلى التحويلات من الخزينة اللبنانية إلى شركة الكهرباء التي أرهقت المالية العامة للدولة. ومع ذلك إن مأساة هذا النفق المظلم يزداد سواداً، فإنقطاع التيار الكهربائي والتقنين الخانق في إزدياد مستمر على إمتداد لبنان بكامله والمشكلة تزداد سوءاً، وعلى الرغم من مطالبة صندوق النقد الدولي IMF منذ عشرين عاماً بأن يكون إصلاح ملف الكهرباء في أولوية الإصلاحات المطلوبة، لأن الخطوة الأساسية لوقف الهدر والفساد تبدأ من الإصلاح الجذري للكهرباء.

لبنان ضمن مجموعة الدول الأكثر فساداً في العالم، واحتلّ مستويات مُتدنية جداً ضمن التصنيفات الدولية لمكافحة الفساد، ومنها تصنيف مؤشّر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية. على الرغم أن لبنان من الدول الموقّعة على "إتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد"، والتي يُمكن الإستعانة بها لمكافحة الفساد. كما يُصنّف لبنان من البلدان التي تعاني من أسوأ نوعية للبُنى التحتية الحكومية في العالم، حسب تقرير القدرة التنافسية العالمية للمنتدى الإقتصادي العالمي.

الفساد في لبنان يكافح القوانين وليس العكس، رغم جميع الدعوات لمكافحة الفساد فقد ظلّ شبحاً لا يخاف منه أحد، محاربته لا تتم بالتراضي أوعبر الشعارات الإعلامية والعناوين النظرية، بل عبر قرارات جريئة لمحاسبة الفاسدين وإجراء إصلاحات فوريّة، وإعادة هيكلة القطاع العام برمته لإستعادة ثقة المواطن والمجتمع الدولي بمؤسسات وماليّة الدولة.

لبنان يمر في مأزق مفتوح على كل الإحتمالات الخطيرة، في ظل المراوحة وغياب الحلول لإرساء دولة القانون والمؤسسات، وفي ذروة أزمة سيولة حادّة وتعثُّر إقتصادي لم يشهد لبنان مثيلاً له، دون وجود أي إجراءات إصلاحية حقيقية لغاية اليوم تعيد بعض الثقة لإنقاذ ما تبقّى، أو للحدّ من الإنهيار المالي والنقدي، وإنخفاض سعر صرف العملة الوطنيّة المتواصل والمريع بسبب غياب الثقّة بالدرجة الأولى.

هل أصبح لبنان بلداً غير قابل للإصلاح بسبب الهدر والفساد والإنقسامات السياسية؟ مع علم الجميع بأن مفتاح الحل الوحيد في لبنان الإصلاح الفوري.. هل وصلنا إلى الطريق المسدود؟ الأمر الذي سيوجّه الضربة القاضية للإقتصاد اللبناني، ويُهدّد الإستقرار الإجتماعي ويزيد التفكّك والفوضى ونسبة البطالة والفقر..

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى