ناجي العلي ..اشتاقت لك بيروت(يونس زلزلي)
د. يونس زلزلي – الحوارنيوز خاص
خمسةٌ وثلاثون عامًا مضت، وما زال طيف ناجي العلي وظلّ حنظلة ينبسطان في مدانا العربيّ أيقونتين على ذلك الصّراط الجميل المستقيم، صراط فلسطين. رفض ناجي العلي الاعتلال العربيّ بقدر رفضه الاحتلال الإسرائيليّ، فخاض معركته مزدوجةً للتّحرير والتّحرّر. وبين الشّعوب والأنظمة، أعلى ناجي صوت الشّعوب منحازًا لمن هم تحت بين قبور مصر وحواري الخرطوم، وقرى لبنان ومخيّماته. كان الكاريكاتير عنده معادلًا لألف بندقيّة، لا يناور ولا يساوم، يرسم فيهزم جيشًا من الاحتلال وجيوشًا من الخونة والمارقين. الدّويلات عنده ويلات، لأنّه مؤمنٌ بالوحدة، وفلسطين هويّته التي لا ينكرها حتّى الموت، بكامل ترابها وزمانها ما قبل 1948 (فلسطين بلادنا مش الضّفّة وغزّة)، ولاءاته للصّلح والمفاوضات والاعتراف لا تتبدّل بين الخرطوم وفاس خلافًا للاءات القادة والزّعماء فتصير وصايا عشرًا هي تكرار عبارة لا تصالح، واقتتال الأخوة ممنوع، والطّائفيّة حماقة، وثورته هي ثورة قائمة حتّى النّصر…انتصب ناجي وتوأم نضاله حنظلة قامتين كالرّماح لم تتعبا من ارتياد ميادين الصّراع، وكان حنظلة نقطة عرقٍ من جبين ناجي، تلسعه إذا جال بخاطره أن يجبن أو يتراجع.
كان ناجي العلي يرسم لفلسطين ويكتب لها ويذود عنها بيراعٍ يمتاح حبره من دم قلبه وماء عينه التي اخترقتها رصاصة الغادرين. هي مسافة الثّورة التي قطعها ناجي العلي من جدران زنازين الاعتقال إلى جدران المخيّم إلى أعمدة الصّحف والمجلّات التي سطع فيها نجمه.
لم يكن ناجي وحنظلة وحيدين، فكانت فاطمة معهما امرأةً استثنائيّة من فلسطين. لم يكن هناك من خطوطٍ حمراء أمام قلم ناجي وريشته إلّا الاعتراف بإسرائيل والاستسلام لها توقيعًا وتطبيعًا واعترافا. وتبرّأ ناجي العلي من الرّاكعين لأميركا، ونثر في وجوههم حفنة ترابٍ من أرض البرتقال الحزين، لعلّهم إذا شَمُّوها يعودون إلى رشدهم، وإن لم يعودوا وظلّوا على ثقتهم بأميركا، فليُقَاوَموا باليد واللسان والقلب والبندقيّة. كتب ناجي العلي ورسم وانتقد، وكان الوصول إلى فلسطين وصول المنتصرين الفاتحين لا المتهافتين المنبطحين، مراده في كلّ لمسة من قلمه وغمسة من ريشته. وكأنّه تنبأ بقدره المحتوم في مواجهة طغمات المحتلّين والخونة وظلمات كواتمهم. فأبدى استعداده للرّسم بأصابع قدميه إنْ ذوَّبوا يديه بالأسيد، وتنبّأ بأنّ غريمه كاتم الصّوت، فقال لا صريحة لكاتم الصّوت ولا للاغتيالات السّياسيّة، وتنبأ أيضًا أنّ عصافير الحرّيّة تموت خارج أوطانها، وأنّ من يكتب عن الدّيمقراطيّة يجب أن يقرن كتابته عنها بوصيّته، وقلب منهجيّة ديكارت: أنا أفكّر، إذًا أنا موجود؛ فصارت: أنا أفكّر، إذًا أنا ملحود. أتت شهادته في بلاد الضّباب النائية عن خمسين عامًا من الفوح بأريج أزهار فلسطين وشقائق فدائها وحقائق بهائها، ومن والبوح بإصرارها السّرمديّ على الانعتاق والانبثاق، إعلانًا لبداية أزمنة الضّباب واليباب والسّراب من المحيط إلى الخليج. ودخلت فلسطين في زمانٍ عربيّ رماديّ، لا يقين فيه إلّا بحرها ونهرها وانتفاضاتها ونجيع أبنائها الميامين، وحفنةٍ من إخوانهم الخلّص الصّامدين على درب فلسطين على الرّغم من كثرة النّاكثين والمرتدّين: “لن نرفع الأعلام البيضاء، لن نرفع سوى العلم الفلسطينيّ”.
في ذكرى ناجي العلي نسترجع صباح الخير يبعثها حلوةً نديّةً لبيروت، ونلتفت معه إلى حيث كلّ الجهات، إلى الجنوب الذي جعل ناجي العلي الجهاد فيه مع مقاومته الوطنيّة بمثابة حجٍّ يقال للسّاعي إليه والخائض فيه: حجًّا مبرورًا وسعيًا مشكورا. ناجي العلي هو فلسطين، فوصيّته الأبقى على مرّ السّنين: لن ننساك، ولن نرضى وطنًا سواك.
ذات صيفٍ قائظٍ بالاحتلال، غادر ناجي العلي بيروت بحرًا مع المغادرين، فرسم سفينته وكتب عبارة “اشتقت لبيروت”، وهذه بيروت التي كانت تتلهّف لنبض قلبه وومضة حضوره فيها سفيرًا فوق العادة لفلسطين القضيّة والأرض والإنسان والفنّان، تقول بلسان حال بنيانها وإنسانها، بوجدانها الوطنيّ والعربيّ والإنسانيّ السّليم والقويم: “اشتقت لناجي العلي”.
*كاتب لبنانيّ