منتصف الليل(قصة قصيرة)*
وتقلبت على سريرها بضيق، وفتحت عينيها بتثاقل، لتتحرَّى مصدر الصوت الذي يكدِّر ليلها ويربك نومها. ولم يكن ذلك شخير زوجها وقد اعتادته قرين ليلها وحديث غرفتها، كما اعتادت تحُّمل كلِّ ما يصدر عنه في يقظته وحركاته وكلماته وهمساته، بعد حياة دامت أكثر من نصف قرن. ولم يكن ذلك بابَ الشرفة عندما يداعبه النسيم فيطلق صريره غنجاً يغيظ الغارقين في سباتهم، ولا صوت التلفزيون في الصالة منبئاً بقدوم ولدها خالد عند عودته من عمله في الصباح الباكر.
لقد نامت متعبة بعد جهاد العمل الطويل في بيتها، لتلبسه حلة الصيف القادم، أو لتعريه من لباس البرد المنصرم، وقد يئست من وعود ابنتها نادية في أن تساعدها في يوم تعلم أنه لن يأتي قبل أن يأتي فصل جديد… ثم سمعت جلبة من جديد، فانتفضت بخوف، وصاحت بغضب: "أبو خالد… قم بسرعة… لقد بات نومك ثقيلاً جداً…". فردَّ عليها بجفاء وقد بدَّل ثقل النوم صوته: "ماذا تريدين؟".
فقالت: "هناك أمر غريب يحدث في شقة جارنا أمهز، وهو مسافر منذ أسبوع ولن يأتي قبل انتهاء الصيف".
فحملق إليها بغيظ وقال: "وما شأني بذلك؟"، " قد يكون في بيته لصوص، هل أتصل بالشرطة"، فصاح وكأنه استيقظ من نومه: "كفاك حماقة ونامي، لا شك أنك تتخيلين".
كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة صباحاً، ووجد نفسه مستسلماً للأرق وهذيان زوجته، فقام ليكمل ارتشاف بقايا القهوة التي تركها قبل أن ينام.
إن كلَّ ما في الصالة يحدِّث عن عبث ولده، وآثاره التي خلَّفها قبل ذهابه إلى عمله، ذلك العمل الذي يسرقه منه في الليل، ويعيده إليه في النهار مرهقاً ليسرقه إلى النوم مجدداً. لقد ورث العناد عن أمه، ولم يبالِ بنصائحه في الانتساب إلى كلية الهندسة، بل اختار الرسم طريقاً لمستقبله، بعد أن قلبوا كيانه بالحديث عن موهبة نادرة يمتلكها، ولا شك أنه اكتسبها من إرث سرابي، فليس في شجرة عائلته ما يوحي بهبة ميزت أحد أفرادها، اللهم إلا حظاً أنعم الله به على جده ليكون عضواً للبلدية في قريته النائية.
اتكأ على جانب الكنبة وهو يتأهب لمواجهة زوجته، وقد بدا أنها استفاقت تماماً من نومها، وجاءته مدججة بكل ما يثير غيظه ويفقد صوابه في هذه الليلة المدلهمة التي اتخذ الأرق سبيلاً في حناياها، وقالت باستسلام: "هل أتصل بالشرطة؟".
نظر إلى تجاعيد وجهها التي تحدِّث من خلالها عن سنيِّ عمره هو، لا عمرها، وقد سرقها الزمان خلسة من جعبته وخلّفه أسيراً في سجن عجزه، يحاكي الأيام أن تلوِّن ورود حديقته الشاحبة، وتثمر شجرتَيْ التين قرب نافذته، والكرمة التي تحضن شرفته، وأشجار التفاح والليمون المحيطة بالبيت، يحاكي الأيام كي تمهله قليلاً ليتمتع بخيرات السماء…
لقد بات يشعر بالعزلة الثقيلة في وجود زوجته، وأن هناك حكماً صدر بحقه، يعيش عقابه طيلة هذه السنين، ولا شك أن ما ارتكبه في ماضيه عظيم، ليكون ذاك مصيره.
كما بات يشعر بنعمة الوحدة، وإن كان لا يعلم الفرق بين الوحدة والعزلة، وذلك عندما يخطفها النوم ساعة، فتهدأ الأرجاء، وتخفت الأصداء، وينعم بهدنة يعلم أنها لن تطول، لأنها ستحرص عندما تستيقظ على أن تعوِّضه عن ما فاته من أنس غيابها.
لقد مضى أكثر من شهر على زيارة ابنته له، ولا يريد أن يتطفل عليها ويزورها، وقد يكون السبب في تردده، رغبة زوجته في مرافقته، وخوفه من التسلل من البيت من دونها، وكلا الأمرين عظيم. ولا يجد إلا في خالد فسحة يسترق من خلالها النظر إلى الفضاء البعيد، إلى حيث الطير تحلق هانئة، تسخر بأجنحتها من سطوة الزمان، إلى حيث تبارك السحبُ التلاقي بالعطاء، إلى حيث ينام الليل في حضن الصباح. إن خالداً هو بسمته الباقية، على الرغم من استسلامه لأحلام بعيدة، واستغراقه في أوهام سحيقة، لكنه سوف يصحو بعد حين، ويسير في دربه الطويل حاملاً قبس الأمل نوراً للمسير. وستتوج سعادته بالزواج من ابنة أخيه التي ستبارك الأيام الآتية، وتعيد للبيت الحياة، ستحب زوجها، وترعى عمها، وتساعده في الاهتمام بحديقته، والإفلات من براثن زوجته، لينام الساهد أخيراً في حضن الفراش بأمان.
انتفضا سوياً بعد أن سمعا صوتاً مريباً في بيت جارهما، لا شك أن هناك من يتحدى الهدوء بعد منتصف الليل. وقال لها: "لقد كنت على حق".
ونظرت إلى قبعته الصوفية وقد غطت ما أمكنها من أذنيه اللتين ضاعف الزمان من طولهما، وإلى نظارتيه الغليظتين، وقد كبرت من خلفهما العينان، وإلى اختباء بدنه داخل معطفه هرباً من برد الليل الصيفي، ونداءات المجهول. لقد أصبح مزعجاً ثقيلاً منذ أن تقاعد من وظيفته، فكثر كلامه، وازداد تبرمه… دائم السؤال… سريع الغضب… حانق، شاكٍ، متسرع، يتربص بها عند كل كلمة ليجد للصراخ سبيلاً يخفف من خلاله رتابة الأيام الشاحبة… ما أصعب حال المرأة عندما يشيخ زوجها في بيت بعيد لا يرحب بالزائرين… لقد مضى أكثر من شهر على زيارة ابنتها لها، ولا يمنعها من الذهاب إليها سوى رغبة زوجها في مرافقتها، وهو أقسى عندها من شوقها لها.
ولا تجد الأمل إلا في خالد، عندما يسافر بها إلى أحلامه الناعمة وحياته الهانئة، حيث ابنة أختها زوجة له تبارك الأيام الآتية، وتعيد للبيت الحياة، ستحب زوجها، وترعى خالتها، وتساعدها في الاهتمام بالبيت، والتخلص من سطوة زوجها الذي صار وجوده عبئاً ثقيلاً على صدرها وروحها وحياتها وزفرات أنفاسها…
"ربما عاد أمهز من سفره"، فنظرت إليه شزراً وصرخت قائلة:"أنسيت أنه سلمك مفتاح بيته قبل أن يسافر؟".
هي تعرف أنه لم ينسَ ذلك، لكنه يتعمد إغضابها بأسئلة يعلم أجوبتها، وتعليقات يدرك تفاهتها ليفتح للشجار باباً، وللصراخ سبباً، خاصة عندما يراها هادئة آمنة، وكأن أذيتها باتت ملجأه الوحيد للهروب من ركود حياته. "ربما يملك مفتاحاً آخر"… كثيراً ما يتحسر على الماضي البعيد الذي كان فيه صبوراً معها، ليناً، حليماً، هادئاً، فقد كان يعتقد أن خير طريقة للدفاع هي الهروب، وأعظم سبل الوصول إلى النصر هي ادعاء الهزيمة، وأن أفضل رد يغيظ به زوجته هو عدم الرد، لكنه كان مخطئاً، فأدمن الهروب عند كل مواجهة، وبات ادعاء الهزيمة أقوى من الهزيمة، وعلم أن إغاظة زوجته لا تتحقق إلا بقوة جسدية ونفسية لم يعد يمتلكها بعد أن أسقطه الكبر في بؤرته نادماً حسيراً .. ما أصعب أن يصبح الرجل فريسة زوجته عندما يعيش معها في بيت بعيد لا يرحب بالزائرين.
وفجأة انقطعت الكهرباء، فقفزت إلى جانبه وقد وَجَبَ قلبها رعباً، وهمست بحذر:"هل صدقتني الآن؟ لقد قطع اللص عنا الكهرباء، ماذا يجب أن نفعل؟". فقال مستسلماً:"فلنتصل بالشرطة"… " لقد اقتنعت أخيراً؟ ".
وتناولت سماعة الهاتف وأبلغت مكتب الشرطة أن هناك لصاً يحاول سرقة بيت جارهما أمهز… ومضت الدقائق ثقيلة، والتصقت الزوجة بزوجها، والخوف يحضن نظراتهما، تنهداتهما، خفقان قلبيهما، فبدا كعاشقين يتلوَان في الظلام حكايات الخيال الناعمة، ويحيكان من خيوط البدر مشعلاً يضيء درب مسيرتهما الآتية.
ونظرت إلى نظارتيه الكبيرتين وقد بدتا في عمق الظلام أشبه بنافذتين أُحكم إغلاقهما فنعمتا بالأمان، وشعرت بقبضتيه الباردتين وهما تعصران كفيها كأنه يدعوها إلى عدم الذعر ما دام إلى جانبها، أو كأنه يطرد الذعر من نفسه وينشد الأمان في وجودها إلى جانبه. " هل أنت خائفة؟"، فقالت بصوت مرتجف أجش:" لقد تأخرت الشرطة، وقد يأتي اللص إلينا"، فرفع رأسه وكأنه لم يفكر في هذا الاحتمال، ثم قال: "تعالي معي، سأحضر بندقية خالد.."…
قاما إلى غرفة نوم ولدهما، وتناول الأب البندقية من خزانة ولده بحذر، وأخذ بيد زوجته ليستقرا على الكنبة قرب النافذة المطلة على بيت جارهما. وقالت المرأة بغضب:" من الحماقة والخطر العيش في هذه المنطقة النائية البعيدة عن الناس… لو كان خالد معنا الآن لتغير الأمر… إن لم يترك عمله الليلي فلن أبقى في هذا البيت يوماً واحداً بعد الان…"، فرد عليها بضيق: "لا تكفين عن الثرثرة حتى في مثل هذه الأوقات… لقد اختار ولدك الليل عملاً له ليهرب من نهار يجمعه بك"، فقالت غاضبة: "يا ليت بإمكاني الابتعاد عنك ليلاً ونهاراً"، فردّ قائلاً: "لا شيء غير الموت يحقق أمنيتك ويريحني أخيراً"، فنظرت إليه وهي لا ترى سوى نظارتيه في الظلام وقالت:"ألا تخجل من نفسك وأنت ترتعد خوفاً من المجهول القابع في البيت الآخر، ولا تفعل شيئاً سوى انتظار الشرطة لتنقذك من ورطتك"، فابتسم وقال:"هل تذكرين بيتكم القديم وذلك الشاب القوي المفتول العضلات الذي كان يخافه شبان الحي ويسعون لإرضائه؟ لم يجرؤ والدك على رفض زواجه منك خوفاً من غضبه، ولقد حذره الكثيرون من العبث معه… لقد حلَّق في الآفاق وقطف من حديقة السماء نجمتين وضعهما مشعلين عند نافذة غرفتك… لقد انتزع من النسيم قبضة تمسح على وجنتيك إن فاجأهما حر الظهيرة… لقد سرق من رضاب المزن جدولاً ألقاه على جانبي طريقك ماءً وخريراً… لقد حمل من حفيف الجنان وشدو الطيور أناشيد تدغدغ ليلك كي تنامي… لقد فعل كل شيء لإرضائك… لقد تغيرتِ… تغيرتِ كثيراً… ما بين الماضي والحاضر امرأتان لا يمكن أن تكونا واحدة"، فقالت: "ورجل الأمس لا يمكن أن يكون رجل الحاضر".
هزَّ سكون الليل صوت أقدام تركض باتجاه بيت جارهما، وصراخ وضجيج يملآن الأرجاء، وسُمع دوي كبير يبدو أنه صوت تحطم الباب، ثم ارتفعت الأصوات منبئة بإلقاء القبض على اللص، ليسود الهدوء مجدداً إلا من كلمات متقطعة، يرتفع صداها حيناً وينخفض حيناً آخر. فأسرع الزوجان لفتح الباب على الأمان الذي حلَّ أخيراً، وتوجيه الشكر لرجال الشرطة على الشجاعة والنجاح وتلبية النداء، فبدا اللص بينهم شبحاً مطرقاً، لا يمكن للأم أن تشكَّ لحظة في هويته، وقالت باكية هامسة: "يا إلهي، إنه خالد".
*من كتاب: الوجود الخافت