بقلم القنصل محمد الجوزو*
يكاد يجمع الخبراء على اعتبار النموذج الاقتصادي الذي كان سائدا في لبنان من الاستقلال وحتى اواخر العام 2019 قد تهاوى موضوعياً ولم يعد في الامكان اعادة استنساخه.
فالدور الذي رسم للبنان في تلك الحقبة كنقطة التقاء بين الغرب والشرق أو كبلد خدمات نوعية، لم يعد قائماً.
لم يستقر الرأي الدولي على دور جديد للبنان نتيجة الصراعات التي تعصف بين الأفرقاء المؤثرين في صناعة القرار الدولي والإقليمي، والمؤسف أن لبنان بقواه الحية لم يبادر بعد الى مناقشة وطنية حيال هذا الأمر، ولا زالت القوى السياسية في الحكم والمعارضة، تبحث عن مصالحها وعن مقاعدها، دون أن تلتفت الى انها تبحث عن مقاعد في مركب آيل للغرق … إلا إذا .
كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون صريحاً عندما قال لرؤساء الكتل النيابية اثناء لقائه بهم في قصر الصنوبر: عليكم تطوير نظام الحكم.
ودعوة الرئيس الفرنسي تستهدف النظام السياسي العالق بين الديمقراطية والتوافقية بما هي تعبير جميل عن طائفية، محاصصية، غنائمية قبيحة، تستهدف النظام الاقتصادي بطبيعة الحال.
ما يهمنا في هذا المقال هو الإضاءة على النموذج الاقتصادي للجمهورية اللبنانية الممكن في ظل التحولات الكبرى على مستوى اقتصادات دول المنطقة.
بعد الانهيار المتواصل للعملة الوطنية، دون أن يكون ثمة أمل بنفاذ اجراءات قانونية ومالية قادرة على وضع قعر لهذا الانهيار… أي قطاع اقتصادي سيكون قادر على اعادة احياء نفسه وانتاج خدمات أو سلع قادرة على المنافسة في الخارج؟
1- القطاع السياحي سجل حركة نشطة نسبياً خلال فصل الصيف الاخير نتيجة توافد اعداد من المغتربين اللبنانيين، لكنه ليس قادرا على التحول الى قطاع منافس للقطاعات السياحية في الدول المجاورة أو البعيدة، لا خدماتيا ولا على صعيد الأكلاف. فبحسب بيانات وزارة الثقافة والسياحة التركية (على سبيل المثال لا الحصر) فإن عدد السياح القادمين إلى تركيا سجل نموا قدره 186.52 بالمئة خلال شباط الماضي، مقارنة بالشهر ذاته من العام الفائت.
يُذكر أن عائدات تركيا من السياحة، حققت نمواً بنسبة 103 بالمئة خلال العام 2021، وذلك مقارنة بالعام الذي سبقه.
تكفي هذه المؤشرات لتبيان حجم الهوة بين لبنان ودول المنطقة، بحيث لا يمكن الحديث عن قطاع سياحي دون رؤية وإدارة حكومية فاعلة وقطاع خاص متعاون وحوافز وضوابط ورقابة ودعاية وتسويق وهذا كله غير متوفر الآن.
2- القطاع الصناعي يعمل بأنفاسه الأخيرة في ظل نمو القطاعات الصناعية في مختلف الدول العربية، بما فيها الدول الخليجية، ويسجل هنا أن المصانع السورية العاملة داخل سوريا، أو تلك المملوكة من الصناعيين السوريين في عدد من الدول العربية في مصر والأردن قد حققت تقدما غير مسبوقاً في مجال انتاج المواد الغذائية.
فعن أي دور يبحث لبنان وهو الغائب الأكبر عن مواكبة هذه التطورات، ويعيش أزمة سياسية كبرى مع عدد من الدول العربية المؤثرة في صناعة القرار المالي والاقتصادي، ليس في المنطقة فحسب، بل في العالم؟
3- واحدة من ميزات لبنان التفاضلية كانت ولا زالت الاستثمار بالتعليم والموارد البشرية لذلك لا بد في الاستثمار في “المدن الذكية”، التي تسعى إلى توفير بيئة رقمية صديقة للبيئة ومحفزة للتعلم والإبداع تسهم في توفير بيئة مستدامة تعزز الشعور بالسعادة والصحة . وفي العموم.. تستشرف “المدن الذكية” المستقبل على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وتتلخص الغاية منها في توفير بيئة رقمية صديقة للبيئة ومحفزة للتعلم والإبداع، تسهم في توفير بيئة مستدامة تعزز الشعور بالسعادة والصحة.
4- لقد استحوذ قطاع التجارة والخدمات الحصة الأكبر من النمو على حساب القطاعات المنتجة وخاصة الزراعة والصناعة، ومن هنا، وبعد اتفاق الطائف تعزز قطاع الخدمات، لكن للآسف لم يتمكن من تطوير نفسه نتيجة ظروف الحكم في لبنان وأسباب أخرى. فتحول اقتصاد لبنان الى اقتصاد هش قابل للزعزعة، واعتمد بشكل مباشر على الاستيراد الخارجي بحيث وصلت قيمة الاستيراد في العام 2013 الى 22020 مليار دولار أميركي وهو أعلى رقم خلال العشر سنوات الماضية، واذا ما نظرنا في أرقام الاستيراد في العشر سنوات الماضية يمكننا أن نلاحظ أن من يتحكم بمفاصل الاقتصاد هم مجموعة من المحتكرين وخاصة أن لبنان بلد يستورد أكثر 80% من حاجاته، ما يعني أن لبنان بلد مدولر بإمتياز ومن هنا بدأ النظام المتبع منذ ثلاثة عقود في لبنان بتعزيز مسار الانتحار بحيث كانت تتعايش عملة محلية ضعيفة قام المركزي بايهام الناس بأنها ثابتة من خلال الفوائد العالية والاغراءات التي كان يقدمها للمودعين مقابل عملة عالمية قوية يحتاجها لبنان لتغطية احتياجاته من الاستيراد ومن التحويلات للخارج لاكثر من سبب كالعمالة الأجنبية على سبيل المثال لا الحصر.
لقد آن الآوان للاعتماد في الفترة المقبلة على الاقتصاد المنتج والتي تشكل الصناعة فيه أحد أبرز الأعمدة الأساسية من أجل النهوض الاقتصادي والتأسيس لاقتصاد بنيوي متين يعتمد على الانتاج المحلي والديمومة الاقتصادية.
في فترات سابقة كانت الصناعة تساهم في حوالي 22% من الناتج المحلي الإجمالي الى أن تراجع هذا الرقم الى حوالي 8.5% من الناتج المحلي والى أن وجدت الصناعة اللبنانية نفسها تصارع في ظل غياب سياسة صناعية موجهة من قبل الدولة.
ونتيجة التحديات الكثيرة التي تواجه الصناعة ، اضطرت مصانع عدة الى الإقفال. أو الانتقال ال الخارج.
وتواجه الصناعة العديد من العوائق التي تساهم في جعلها ضعيفة وغير قابلة للمنافسة وذلك للأسباب التالية:
-الأكلاف الإضافية التي تثقل كاهل الصناعيين.
-عدم اهتمام الدولة بانشاء مناطق صناعية مجهزة بالبنى التحتية الأساسية والمتطورة.
-غياب أي نوع من الحماية حيال إغراق الأسواق المحلية، فقد عمدت الحكومات في السنوات الأخيرة الى زيادة الرسوم الجمركية على أكثر من عشر قطاعات بهدف حماية الإنتاج الوطني الا أن هذه الخطوة لم تكن مدروسة لجهة وجود كميات انتاج محلي من المنتجات التي تهدف الدولة لحمايتها ما أدى الى زيادة أسعار السلع.
-تدني نسبة التمويل الصناعي 12.9% من مجمل التسليفات.
-كثرة التهريب عبر المعابر الشرعية.
-وجود منافسة غير مشروعة من قبل مؤسسات غير مرخص.
-ضعف الإنتاجية والقدرة على المنافسة بسبب عدم وجود يد عاملة مختصة وغياب الآلات الحديثة والمتطورة.
4- منذ العام 2019، بدأت تظهر نتائج الأزمة على الميزان التجاري، وبحسب إحصاءات الجمارك اللبنانية، انخفض العجز التجاري في العام2020 ليبلغ 7765 مليون دولار مقارنة مع 15508 ملايين دولار في 2019. وقد نجم ذلك عن تراجع في الاستيراد بنسبة 25.9%، وارتفاع في التصدير بنسبة 19.4%، مع الإشارة هنا الى أن لبنان كان يتبع خطة دعم السلة الغذائية المدعومة والتي استحوذت السلع المشمولة ضمنها ما نسبته 46.9% من مجمل الواردات وبالتالي فإن باقي السلع لم تنخفض بأكثر من 27.8% خلال فترة الانهيار المصرفي والنقدي والاقتصادي.
وتشير الإحصاءات إلى أن واردات لبنان بلغت 11309 مليون دولار في نهاية 2020 مقارنة مع 19239 مليوناً في 2019، في مقابل صادرات بقيمة 3544 مليون دولار في 2020 وبقيمة 3731 مليوناً في 2019.
التراجع الذي طرأ على الاستيراد بدأ يظهر اعتباراً من الشهر الثالث من العام 2020، واستمر بوتيرة متراجعة إلى أكثر من النصف حتى شهر تشرين الثاني، حيث عاد وقارب نفس النسبة من العام 2019 ويعود ذلك الى دخول أموال من الخارج بعد انفجار الرابع من آب، ما أدى الى زيادة في حركة الاستيراد والاستهلاك.
إن تراجع عجز الميزان التجاري في لبنان هو حاجة ملحة لخفض العجز في ميزان المدفوعات وتوقيف نزف العملات الأجنبية الى الخارج. الا أنه بالنظر الى أرقام الاستيراد والتي تبين أنه تراجع بمستوى غير مقبول وخاصة في ظل فقدان العملة الوطنية نحو 94% من قيمتها فكان لا بد لهذا التدهور في العملة أن ينعكس بشكل حتمي تراجعا كبيرا على الاستيراد والقدرة الشرائية للمستهلكين في آن معا.
في أكبر اقتصادات العالم والتي تتمتع بصفة ” الاقتصاد الحر” تلجأ الحكومة الى اتخذ تدابير وقرارات سريعة لمعالجة الأزمة ولو على حساب النظام الاقتصادي الليبرالي الحر وذلك لحماية اقتصادها من التدهور وللعمل على معالجة الأزمة التي تمر بها البلاد.
في ظل الأزمة ما زالت الدولة مستمرة بمفاوضات مع صندوق النقد الدولي لاستقراض مبلغ 3.3 مليار دولار أميركي وفي المقابل يسجل صرف ما قيمته 10 مليار دولار على الكماليات حتى الآن من العام 2022 أضف الى ذلك تحويلات عمالة أجنبية في العام الماضي ما قيمته 2.1 مليار دولار فكيف لدولة بهذه الأرقام أن تكون مفلسة؟؟
لا بد للدولة أن تحذو حذو البلدان التي تتمتع باقتصاد حر والتي عادة ما تتخذ القرارات المنطقية التي تفرضها القواعد والأسس الاقتصادية البديهية فلا بد من أخذ قرارات لتقييد الاستيراد ولو بشكل مؤقت والحد من نزف العملة الصعبة للعمالة الأجنبية وغيرها ولو كانت هذه القرارات غير مرضية لكبار التجار والكارتيلات.
اللافت أيضا في لبنان أن السوق لا يزال قادر على تمويل كلفة الاستيراد العالية فلا يمكننا أن ننسى هنا كمية التحويلات المصرفية التي حدثت منذ العام 2019 للمحظيين من سياسين وتجار كبار واصحاب رؤوس الأموال على حساب صغار المودعين ما أدى الى جني هؤلاء اموالا طائلة تخولهم الاستفادة منها للمضاربة ولتحقيق أرباح خيالية، أما السبب الثاني فيعود الى التحويلات من المغتربين .
أخيرا لا بد من تسليط الضوء على أن الناتج المحلي بين العام 2018 و 2022 هبط بنسبة انحدارية من 55 مليار دولار أميركي الى 15 مليارا.
في المقابل ومنذ بدء الأزمة في العام 2019 ارتفع الاتكال على اقتصاد ال Cash money من 30% من الناتج الى 200% في العام الحالي، وبالنظر في القواعد الاقتصادية فان هذا النوع من الاقتصادات يفسح المجال أمام عمليات تبييض الأموال والتهرب الضريبي وزيادة نسبة الفساد فهل هذا ما تريدونه للبنان؟؟
اي اقتصاد نريد وأي دور سيكون للبنان في المرحلة المقبلة؟
انه السؤال الاصعب.
* بالتزامن مع الزميلة صحيفة اللواء
*عضو المجلس الاقتصادي الاجتماعي والبيئي