سياسةمحليات لبنانية

لبنانيّون ضدّ لبنان: يُقونِنون مخالفة القانون( الجزء الرابع)

من آخر "صرعات" المُشرِّع اللبناني (وباسم الشعب اللبناني المُشَرَّع) أنّه، من خلال تمرير الموازنة العامة للدولة، هو يشرِّع لمخالفة القانون.  فهو يكون بذلك قد دخل موسوعة الأرقام والأعمال غير المسبوقة بأنّه يُقَونِنْ مخالفة القانون وفي الوقت نفسه يخالف أصول التشريع ،أي أنّه لا يمارس تلك الصلاحية من خلال جلسات التشريع المخصّصة لكلّ موضوع على حدة، ليُدْرَسْ ويُعْرَضْ على الزملاء في حقّ التشريع وعلى ملأ الرأي العام والمصلحة العامة، بل "يمرّرها" من خلال  الموازنة (مع معرفتي سلفًا أن دستوريّين سيُبِرّرون عملهم هذا من دون إقناعي).  ثمّ أنّ اللبناني يشرِّع ما هو لاقانوني بقرارات من وزير "سيادي"، أي ما بات يُعرف ب"سيّد نفسه"، أي لا يُحاسَب على "عطاءاته".
برافو … مِنْهَنّيكمْ يا لبنانيين !..
ولأنّ هذا الكلام هو جزء من مسلسل لا نهاية له وكي لا أطيل في التشويق في ما أريد الذهاب إليه، سأحصر الموضوع بقرارات ثلاثة إستعجلتها الحكومة في الموازنة التي تستهدي الآن طريقها الى مجلس النواب حيث، لا بدّ، أن يُصار الى المزايدة على ما عانينا منه خلال عشرين "جلدة" من جلسات مجلس وزراء.
– الإجراء الأول كان فرض رسم ألف ليرة على كلّ رأس نرجيلة الخ… وبغضّ النظر من الجدل (الصحّ) القائم حول أحقّية أو آلية التحقّق من الأعداد المضروبة بالرسم الضريبي الجديد، نذكّر أنه كان (يا ما كان في …) قد صدر منذ سنين قانون (أظن تحت الرقم 194) منع بموجبه التدخين في الأماكن العامة المغلقة ومنها المقاهي وما شابه ولم يُطَبّق منذ نشأته.  وبالتالي فالمقاهي وأخواتها ما زالت تقدّم النراجيل في الداخل في مخالفة واضحة للقانون.  وقد أتى المقرار الآن ليفرض رسمًا على سلعة ممنوع تقديمها وبيعها للعموم الخ… فمن لم يُطَبِّق الكلّ يسعى من طريق ذلك الى تطبيق الجزء، عملًا (بمنطق خاطيء) بمقولة "ما لا يُدرَك كُلُّه لا يُترَك جُلُّه".
إذن: المُشترع سمح رسميًّا (أي بالقانون) بمخالفة قانون كان هو (وزراء ونوّاب وكُتَل وتحالفات نيابية وغيرها) قد فرضه، أي أنّ المُشترع و"الساهر" على حسن تطبيق القانون يشجّعان معًا المواطن على مخالفة القانون.  تهنئة .. من القلب المحروق (بالنارة يا ولد) !..
– أمّا الإجراء الثاني فتَمَثّل بفرض رسم (ضريبة) مليون ليرة على الحصول على إذن بوضع الزجاج الداكن (fumé) على السيارة الخاصة، هذا "الإمتياز" الذي يميّز ذكورية "المافيوزي" اللبناني، علمًا أنه ينطبق على النساء أيضًا وبإلحاح كبير.  وجديرٌ العودة بهذه القصّة الى ما كان يُعرف بالضرورات الأمنية في زمن الحرب (وهل يُحدّد لنا أحدٌ متى كان هذا الزمن ومتى وهل إنتهى؟) التي لن تنتهي أبدًا طالما أنّ هناك من يُشرِّع لمنافعها بذريعة دوام ظروفها، أي أنّ "دود الخلّ منه وفيه".  وكانت الحجّة من اعتماده سابقًا، وبشكل غير مشروع أو قانوني، حاجة "شخصيات معينة" سياسية الى التجوّل متستّرًا incognito)).  لذلك كانت تمنح وزارة الداخلية هذا الترخيص لهؤلاء الأشخاص حسب تقديرها (وما أدراك) ثمّ انسحب الأمر على جيوش من المرافقين والمحازبين وكلّ من جماعة  "حبّ البروز" الى أن أصبح عددهم  "حرزانًا" ليشكّل "بحصة" تسند خابية خفض عجز الدولة (المالي والسلطوي معًا).
ومن مطالعاتنا ومشاهداتنا ومعاناتنا خلال العقود المنصرمة تبيّن أن غالبية الجرائم، على أنواعها، تحصل من طريق إستعمال سيارات ذي مواصفات "مافياوية".
إذن، المُشترع يفرض ضريبة على السماح بمخالفة القانون وفي موضوع أمني يشكّل خطرًا دائمًا على الأمن الوطني والسلام الأهلي.
مبروك.  خَرْجْكُمْ.
– وفي الجزء الثالث، وهو أخطر و"أفكّ رَقبِة"، وخلافًا لأي نصّ آخر، أُعْطِي وزير الدفاع الوطني، "السيد نفسه" للتذكير أبدًا، إمكانية منح تراخيص حمل السلاح لقاء مبلغ ربع مليون ليرة التي يمكن تسديدها في المصارف وعبر، إقرأ جيّدًا، شركات تحويل الأموال ؟؟.  (وهو تدبير ألغته الويلات الأميركية المتحدة للحدّ من إنتشار السلاح غير المنضبط).
وللتنبيه، فتكلفة التمويه للإعداد لجريمة هو أربعة أضعاف تكلفة حمل أداة الجريمة.
عظّم الله أجوركم !
بالله عليكم.  أسألكم جميعًا.  المسؤولون أولًا ومعهم سائر الشعب "المستفيد" !  تعالوا نتصوّر أن كلّ معاملة وسلعة وخدمة، والأنكى، كلّ واجب من واجبات الدولة يصبح له سعر مختلف حسب الترتيبات ووفقًا لغِنَى الطالب والحاجة الى المطلوب وسرعة الإنجاز وحجم المخالفة الخ…، فماذا سيحصل مع عامة الشعب؟ وهل فكّر أحدٌ بأنّ هذا السلوك والأسلوب سيُنتِجان نمطية عدم إنجاز أيّ معاملة بالشكل التلقائي القانوني الطبيعي المطلوب لأنه بات من الممكن تشريع مخالفات، ومنها وأظلمها، جباية رسوم وضرائب وأتاوات مقابل قيام العاملين في الإدارات والأجهزة والهيئات والمؤسّسات العامة بأبسط واجباتهم ؟
وماذا يمكن أن يحصل في الإدارات والمؤسّسات:
– في الداخلية هناك سيارات ونُمَر وسَيْر وقيادة ومستلزماتها وأدواتها ورخصها وقانون السير…
– في الخارجية هناك الدبلوماسية والقناصل والجوازات على أنواعها والمؤتمرات والسفر…
– في الدفاع هناك السلاح و"الأرزة" ورخص المرور، هذا الى جانب خدمات متاحة من سائر الأجهزة الأمنية  و…
– في الإتصالات هناك أنواع الخدمات والأرقام وعَدَدها وعِدَدها وتسهيلاتها…
– وهل يجوز الكلام عمّا يمكن وضعه من رسوم في وزارة العدل ؟..
– وفي البيئة (كسّارات، مرامل، محميّات، مكبّات،..)، وفي الصناعة وفي الزراعة وفي السياحة وما أدراك في الأشغال العامة، في الطرق والمباني والتنظيم المدني والإستملاكات (ولقانون تسوية مخالفات البناء حديث منفصل، كما في وجوب توازن الموازنة)، والنقل، من مطار وأمن المطار وصالونات واستقبالات والشيء نفسه ينطبق على المرافىء و …
وفي الصحة دواء وإستشفاء و… وفي العمل والعمّال والضمان الإجتماعي والعمالة الأجنبية وفي الإعلام و…
وفي المالية وكلّ ما سبق أو لم يذكر مرتبط بها.
هذا في بعض الموازنة، أمّا في قطع الحساب .. فَمِن قطع الأرزاق.
فِعلًا هذا عمل خلّاق يستحقّ منح الحكومة براءة إختراع من حيث أنها قَوْنَنَت الرشوة وحوّلت محاصيلها  الى صندوق الوزارات المختلفة (حرفيًّا) بدلًا من مكافحة الفساد في مهده !
أن " يَفْلُتْ المْلأ " لدى عامة الناس، فأمر مستنكر ومرفوض ولكنّه منتظر في خضمّ تعميم الفوضى (غير الخلّاقة)، ولكن أن يفلت ذلك لدى الذين إئتمنهم الشعب  (وأنا لست منهم) لتشريع قوانينه والسهر على "حسن" تنفيذها و"احترامها" ؟؟  فهذه هي نهاية المشوار … وقد وصلنا إليها.
هذا كلّه يحصل أمام ناظرنا على مدى جلسات ومناظرات ومهاترات على وقع بيت الشعر القائل:
" فالشمس لا تحتاج، رأد الضحى   إلى شهود: عينُها شاهدةْ !" (1)
هذا النقاش "الرصين" الذي تقاذفه المُمْسِكون بالسلطة وبقواعد الصراع عليها في آن، هذا كلّه حصل مع تغييب أي بند إصلاحي أو إنمائي من الموازنة.  فبقي الإنماء المتوازن مسمارًا بارزًا في صدر الدستور شمّاعة  الخطابات البِلا خطّة…البِلا برامج…البَلا..ء .  وبقي الإصلاح مادة خَمْسَتسعينية دستورية، مكرّرة من جيل الى جيل منذ قرن، مطوّرة من صيغة الى أخرى لأنّها "الممنوعة أن تُبكى .. التي يُرجى  لها حُسن الإياب" (2).

ولأختم، أرى أن المُشترِع والمنفِّذ قد أمعنوا في إرسال رسائل كارثية الخطورة الى المواطن من خلال الإجراءات الثلاث هذه.  فمع رأس النرجيلة تمرّ رسالة سلبية عن الصحّة العامة واحترام القانون، ومع زجاج الجرائم توجّه رسالة تقول فيها للمواطن أن لا يتّكل على الدولة بالنسبة للأمن (أنت دبِّر حالك) والى حين .. سيطول … ويطول.  أمّا مع آلية ترخيص السلاح تمارس الدولة عشقها للإزدواجية في كلّ شيء: فأنت في خدمة العَلَمْ .. وأنت في خدمة الدَيْن.
كلّ هذا يأخذني الى كلام الشاعر اليوناني هسيود (المعاصر لهوميروس، عام 650 – 750 قبل الميلاد) الذي نشد في أول قصيدة تعليمية عرفها التاريخ متكلّمًا فيها عن عصر لا بُدْ آتٍ وفيه:
" لن نحترم لا إيمان اليمين، ولا العدالة، ولا الفضيلة؛ سنفضّل تكريم الرجل الشرّير والوقح؛ لن نستخدم فيه العدل والتواضع؛ الأشرار سيُغْضِبون الأفاضل بالخِطَب الماكرة التي سيضيفون إليها الحنث باليمين" (3).  وبشِّرِ الصابرين !.. هل يذكّركم هذا بحكّام بلد ما ؟
فعلًا… عظّمَ الله أُجوركُمْ !..

بيروت، في 29 أيار 2019.                                                       حيّان سليم حيدر.
مواطن لبناني … قيد التأسيس.

(1) سليم حيدر – من قصيدة  " يُهْنِئكِ حيّان" – ديوان "ألوان" ، الصفحة 47 – شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.
(2) " فأنا في القرية "الممنوع أن يُبْكى"، لأني         إبن ذاك الذي يُرجى حُسْن الإيابِ ! " – سليم حيدر -ديوان " إشراق " ، الصفحة 27 –  شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.
(3) “On ne respectera ni la foi des serments, ni la justice, ni la vertu ; on honorera de préférence l’homme vicieux et insolent ; l’équité et la pudeur ne seront plus en usage ; le méchant outragera le mortel vertueux par des discours pleins d’astuce auxquels il joindra la parjure, ».  Hésiode, poème didactique : « Les Travaux et Les Jours »,V – VIIème – VIIIème siècle av.J.C.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى