بقلم الدكتور نسيم الخوري
أراد الرئيس الأميركي هاري ترومان ( 1884- 1972) ان توقع اليابان وثيقة الاستسلام بعدما أمر بضربها بقنبلتين نوويتين ( 6 و 9 آب 1945) أزالتا هيروشيما وناكازاكي وخلّفت سبعين ألف قتيل، لكنّه اكتشف بأنّ تعلّق اليابانيين بل الإعتقاد بإمبراطورهم هيروهيتو( 1901- 1989 ) هي العقيدة الصلبة التي تصعب مقاومتها ونزعها من نفوس اليابانيين، بالرغم من هزيمتهم واستسلامهم في الحرب العالمية الثانية . ماذا حصل؟
اقترحت أميركا الحفاظ على الامبراطور حاكمًا على اليابان بعد الحرب خوفاً من ان يرفض اليابانيون توقيع وثيقة الاستسلام، لأنّهم كانوا بالفعل عاشقين للاستمرار في الحرب حتى اخر ياباني إذا حصل أي اعتداء او عزل لإمبراطورهم. هكذا تمّ تحوير العقيدة لدى اليابانيين حفاظاً على صورة الامبراطور بصفته حاكمهم الأوحد . لكن القائد الأميركي المشهور ” دوغلاس ماك آرثر”( 1893-1954) أجبر إمبراطور اليابان، ان يذيع بصوته، بعد فترة، تصريحه المشهور لليابانيين:
“ما انا سوى بشر مثلكم” human being like you” “I am only a ،
هكذا نجحت أميركا بقلب المجتمع والذهنية اليابانية من خلال السيطرة على الإمبراطور وغسل أدمغة اليابانيين، وراحت تحثّ على كره السلاح واحتقار الحروب بعدما كانت العقيدة مجبولة بالروح العسكرية فتحوّلت إلى الطموح بالرخاء والإزدهار .
لماذا هذه القصة؟
1- للسؤآل عن العلاقة بين الحكّام والشعوب؟
لقد واجه هذا السؤال المعقّد ويواجه كل حاكم في التاريخ مهما يكن شكل الحكم. هناك علاقة صريحة أو ضمنية أو معقّدة بين ما يفكر فيه الناس وبين ما تفعله الحكومات والحكّام، وليست الحكومات المحبوبة من الشعب هي وحدها التي تنام هانئةً على إرادة ما يُسمّى بالشعب.
عبر هذا السؤآل يبرز دور استطلاعات ما يعرف بالرأي العام الرائجة جدّاً في العالم اليوم. أراها مربحة للحكام وللشركات الإحصائية،بعيداً من الخرائب والمفاجآت المحيقة بالجميع، فتراهم يصبون أحاسيسهم وعقولهم على ورش قياسات الرأي العام اللبناني وصناعته بل صناعة الزعماء والأبطال والمشاهير. هناك تقنيات هائلة تغيّر الصور والأشخاص والأشياء، مع يقين كوني بأنّ الكثير من التقدم في قياسات الرأي العام،في هذا العصر،لا يمكن قياسه على الإطلاق، وخصوصاً في عصر العولمة الذي يسمح بالقول أنّ كلّ مواطن واعٍ هو طاقة بحدّ ذاته.
2- للبحث عن مسألة لبنانية عاصفة شديدة التعقيد ، لم تشهدها دولة ديمقراطية أخرى في التاريخ تتعلق مباشرة بالإنتخابات البرلمانية المنتظرة بين آذار وأيّار والمشكوك بحصولها بالرغم من هذا الإنخراط المرضي بقياسات الرأي العام. وسواء حصلت تلك التجربة أو لم تحصل، فإنّني أسأل:
ماذا يعني الرأي العام بصيغة المفرد في لبنان؟ أهو موجود فعلاً؟ ومن يدّعي القدرة على تحديده في ظلّ حكّام يعتبرون أنفسهم أنصاف آلهة أو أباطرة دهريين تسلّحوا بالطائفية والحزبية والصراعات الدموية الجاهزة والمتأصّلة في أبسط الأمور، لتبدو الجماهير مركونةً إلى “معالفهم” بعد فرط الدولة.
3- وللتذكير بمشاهد تهشيم أطباء الأسنان في لبنان صناديق الإقتراع أثناء انتخابات نقابتهم، غافلين أنّ بأنّ للطبيب بين الناس صورة خاصة تدفعهم لأن يسمّونه بالحكيم ولا حاجة للتفصيل في معنى الحكمة. يكفي التذكير بمقاعد إلفلاسفة والحكماء في مدينة افلاطون الفاضلة المبنيّة على المحاورات التي وضع أعمدتها معلّمه سقراط . وللتذكير أيضاً بأنّ أيّ قياس للرأي العام بعدما تهشّمت الصناديق لا قيمة له. لقد تعولم المشهد وبات عنواناً للتفكير وتفسير معاني الحكم والحكمة من قياسات الرأي العام وحتّى الإنتخابات في لبنان. ببساطة، أرى لبنان مؤخّراً لبنانات لا عدّ لها.
أكتب هذا، وفي ذهني انزياح الأغطية الكامل عن اللاوعي اللبناني العاصف والمشدود عبر سلسلة من الإنتخابات النقابية التي توالت تباعاً وكأنها “بروفات” تجريبية لما هو منتظر مستقبلاً. بدأت بانتخابات نادي القضاة ثم نقابة المحامين فنقابة الأساتذة المتقاعدين في الجامعة اللبنانية، ثمّ نقابة الصيادلة فنقابة المهندسين وبعدها أطباء الأسنان ونقابة المحررين.
بالخلاصة إنّ “أباطرة” لبنان ينخرطون فقط لتلمّس مستقبلهم البرلماني والسياسي المهتزّ، وهم يقيسون مدى تآلف النخب اللبنانية وقدرتها على الخرق والتغيير والتهديد إنطلاقاً من “ثورة 17 تشرين 2019”. التي أميل إلى دفنها بين قوسين لآنتفائها وتشرذمها لدى الجميع من أساتذة الجامعات والمفكّرين والكتّاب والطلاّب إلى الصارخين من جوعهم في الساحات. أيصبح التغيير إنساناً هلامياً متحرّراً يتغذى بماء العولمة ويتسلّق فضاءات العالم صارخاً في وجوه هؤلاء:
لستم سوى بشر مثلنا.
زر الذهاب إلى الأعلى