سياسةمحليات لبنانية

كارول شبلي تويني تكتب ل “الحوارنيوز” عن الشراكة الوطنية: “بدونك يا حسين ما كنت وصلت”

ضللتُ الطريق، على عادتي، ذات ليلة من شهر رمضان في العام ١٩٩٦ في منطقة لم أكن اعرفها. فالحرب كانت قد عزلتنا في اماكننا زمناً طويلاً حتى بات اللبنانيون اغراباً عن بعضهم البعض. ورغم ان الاحداث البغيضة كانت قد انتهت في تلك الأيام الاّ انه لم يكن الامر عادياً، ان تدخل أحياء ً لم تطأها قدماك من قبل وذلك من باب الحيطة والحذر.
كنت احمل معي في تلك الليلة عنواناً مدوّناً على ورقة صغيرة وكان الوقت متأخراً والشوارع خاليةً من الناس.
رأيت شاباً يلهو على دراجته. كان سعيداً بها وكأنها كل ما يملك. دراجةٌ لا تختلف عن الدراجات التي استباحت بيروت عدة مراتٍ مؤخراً بشكل عدائي يحاسب عليه القانون لكونه يعرّض الانتظام العام للخطر.
استوقفته في تلك الليلة وقلت له "إني ضللت الطريق وفي حاجةٍ للمساعدة". فنظر اليّ، قرأ العنوان وقال لي بدون تردد "إلحقيني" وبدون تردد تناسيت كل التحذيرات ووجدت نفسي اتبع غريباً من زاروب الى زاروب ومن حيٍّ الى حيّ حتى توقف أخيراً امام مبنى واشار لي بيده بأنني وصلت. سألته عن اسمه، فقال "اسمي حسين" فشكرته، تمنيت له رمضان كريماً وقلت له ممازحةً "بدونك يا حسين ما كنت وصلت" فابتسم ابتسامة خجولة وغادر.
شعرت في تلك اللحظة بسعادةٍ داخلية عفوية. فعبثية الحرب التي مزّقت اللبنانيين وفرّقتهم قبائل وانبتت حقداً بينهم، لم تجرّدهم من انسانيتهم. وزرعت تلك الليلة في داخلي أملاً كبيراً وحقيقياً بامكان اعادة اللحمة بين ابناء الوطن الواحد وبناء الدولة العادلة والقوية التي يعيش في ظلها اللبنانيون بتضامنٍ ورخاءٍ متنعّمين بخيراتها مؤمنين انها السلطة الوحيدة التي تحميهم بتنوعهم من جهة، وتقوي وتعزز انتماءهم لوطنهم من جهة اخرى، فتبني هوية وطنية واحدة بتنا اليوم بأمسّ الحاجة اليها.

مرّت السنوات لكن الحرب التي انتهت لم تقضِ على جرثومة الطائفية وتركت الباب مفتوحاً لأزماتٍ واحداثٍ أليمة متتالية اوصلتنا الى ما نحن عليه اليوم من قلقٍ يوميٍّ واستقرارٍ معدومٍ، واملٍ وأمانٍ مفقودَين وغيابٍ تام لأي تعاطفٍ من جانب السلطة مع مآسي اللبنانيين.
رغم ذلك لم يتزعزع إيماني بقدرة أهل هذا البلد على النهوض به. كيف لا وجميعنا يحب هذه الارض! فهل يتجرأ احد ويشكك بحب اللبنانيين (على اختلاف انتماءاتهم) للبنانهم ،وقد ذرفوا جميعهم ما ذرفوه من دماءٍ ودمعٍ لحماية وتحرير هذه الارض؟! اسألوا اللبنانيين المسافرين والمهاجرين كيف يحملون لبنان في قلبهم أينما حلّوا وكيف يفاخرون بهويتهم الوطنية رغم كل الشدائد. لا أجد معنى آخر لهذا الامر سوى إيمان اللبنانيين الصلب بقدرتهم على تجاوز الخلافات للوصول الى تضامنٍ حقيقيٍّ فيما بينهم مثل ذلك التضامن الذي اظهروه في حرب تموز ٢٠٠٦ عندما فتح اللبنانيون بيوتهم وأديرتهم وكنائسهم وجوامعهم لإيواء اخوتهم المهجرين الهاربين من وحشية العدو الاسرائيلي. لم أجد حينها أعظم واشرف من هذا التضامن وكان هذا التصرف تعبيراً كافياً على ان ما يجمع الناس هو اكثر بكثير مما يفرقهم.
ان تضامن اللبنانيين لا يمكن ان يستمد ركائزه من التصارع الدائم الذي لا طائل منه بل من أهداف مشتركة يجمع عليها الناس.

ولكن لماذا نتصارع؟
ان الإجابة على هذا السؤال هي في صلب اي محاولة للإصلاح لأنها تشرح سلوك اللبناني العدواني تجاه المعتدي كلما شعر بخوف يهدد هويته المنبثقة من انتمائه الى مجموعة ما تمدّه بالاعتراف بشخصه وبكيانه ووجوده بغياب وضعف الهوية الوطنية التي لم تتبلور كفايةً بعد ليشعر اللبناني بالطمأنينة حيال لبنانيته فيكتفي بها.
فإذا توضحت هذه الحقيقة هل يمكننا ان نتّفق على الأقل على ان سياسة التناحر لا جدوى منها، وان فقط سياسة السلام التي لا تقصي احداً هي التي يجب تعزيزها لانها تعترف بحق الجميع بالعدالة والحرية والمساواة؟
كما قلت لحسين في تلك الليلة من سنة ١٩٩٦ اني "بدونه ما كنت وصلت" أعيد وأكرر القول للجميع "نحنا بدون بعض ما رح نوصل".
كارول شبلي تويني

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى