قراءة في منهج ثقافة اللبنانين مع العائلة السياسية والزعيم(وجيه فانوس)
د.وجيه فانوس* – الحوارنيوز خاص
تَكادُ الغالبيَّةُ العُظمى مِن الشَّعبِ اللُّبنانيِّ، وفي ظاهرة واضحة مِن قِبَلِهِم، تكونُ على ارتباطٍ أساسٍ، بمبادئ ثقافةِ الولاءِ السِّياسيِّ والاجتماعيِّ للعائلة السِّياسِيَّةِ وللزَّعيم في لبنان.
واقع الحال، لا يجد كثير من اللّبنانيين أيّ غضاضة ظاهرة في هذا التّطبيق لمفاهيم الوراثة السِّياسِيَّة، في عيشهم الحالي؛ رغم أنّهم يعيشون، ووفاقًا للمادة السّابعة، من الدّستور الوطنيّ المعمول به في لبنان، التي تنصُّ على أنَّ “كلَّ اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتّعون بالسّواء بالحقوق المدنيَّة والسِّياسِيَّة، ويتحمَّلون الفرائض والواجبات العامَّة دون ما فرق بينهم”، وذلك ضمن نظام جمهوريٍّ ديموقراطيٍّ برلمانيٍّ، تتساوى فيه الحقوق، بين جميع المواطنين؛ وفاقًا لما يِرِدُ في البند “ج” من مقدِّمة هذا الدّستور. ولذا، فإنّ ظاهرة التَّوريث السِّياسِيِّ، وخاصَّة عبر آليَّة الانتخابات النِّيابيَّة، التي تشكِّل أساسًا عمليًّا للممارسة الدِّيموقراطيَّة، ما انفكَّت تجد لمفاهيمها انتشارًا واسعًا وقبولًا ملموسًا لدى فئاتٍ عديدةٍ من الشَّعب؛ على اختلاف مناطقهم الجغرافيَّة وانتماءاتهم الدِّينيَّة وتعدُّد مذاهبهم، ضمن هذه الأديان؛ ناهيكَ بتنوُّع الغالبيَّة المطلقة مِن معتقداتهم السِّياسِيَّة، وما في هذه المعتقدات مِن توجُّهات ورؤىً؛ فضلًا عمَّا يمكن أن يكون بينهم مِن اِنميازاتٍ في الدَّخل الماليِّ أو التَّحصيل الثَّقافيِّ.
واقِعُ الحالِ، ثَمَّةَ إصرارٌ عمليٌّ، ملحوظٌ من جهة هؤلاء اللبنانيين، على متابعة هذا المبدأ وتعزيزه؛ وذلك بِتَجيير ِكثيرٍ مِن مفاهيم الانتظام السِّياسيِّ والوطنيِّ في البلدِ لصالِحِهِ؛ رغمَ كلِّ ما يكمُنُ، في هذا المنحى، مِن تناقض مع كثير مِن القِيَمِ السِّياسِيَّةِ المُعاصِرَةِ، التي لا تستسيغ مفاهيم الوراثةِ في الولاءِ السِّياسِيِّ؛ بل ترفُضُها؛ إذ ترى فيها افتِئاتًا واضحًا لِمفاهيمِ العيشِ الإنسانيِّ الحُرِّ الدَّوليَّة المعاصِرة. إنَّ المفاهيم المعتمَدَةَ دوليًا اليوم، هي تلك المستندةُ إلى احترامِ الوجودِ الفرديِّ للمرءِ، والنَّاهضةِ على مباديء “شُرعَةِ الأممِ المتّحدة” في حقوقِ الإنسانِ؛ وهي الشُّرعةُ التي يحتفلُ المجتمع الدَّولي بسببها، بـ”يوم حقوقِ الإنسانِ”، في 10 كانون الأوَّل (ديسمبر) من كلَّ سنةٍ؛ إحياءً لذكرى هذا اليوم مِن سنة 1948، الذي اعتَمَدَت فيهِ “الجمعيَّةُ العامَّةُ للأممِ المتَّحدةِ”، “الإعلانَ العالَميَّ لحقوقِ الإنسانِ”، المعروف دوليًا باسم (UDHR). إنَّها الشُّرعةُ المناديةُ، في ما تُنادي به، بحقِّ كلِّ مواطنٍ، كاملِ المُواطِنِيَّةِ، في الوصولِ إلى مجالاتِ السُّلطَة رأيًا ومُمارسةً.
تُستَخلَصُ الملاحظةُ التَّحليليَّةُ الأكاديميةُ التَّالي وُرُدُها لاعتمادِ منهجِ الولاءِ للعائلةِ السِّياسِيَّةِ وللزَّعيمِ، المُمَثِّلِ لهذه العائلةِ أو المُنْشئِ السِّياسِيِّ لها، تَوَجُّهين أساسين. يتجلَّى التَّوَجُّه الأوَّل منهما، في فاعليَّة مبدأ الميراث السِّياسِيِّ، القائم على نمط تتبُّع بعضِ الأبناءِ لِمِهَنِ آبائِهم في المجالِ السِّياسِيِّ؛ ومِن ميزاتِهِ أنَّ اتِّباعَ منهجِ ثقافةِ الميراثِ السِّياسِيِّ يفيد كثيرًا، ههُنا، وبشكل واضحٍ، المرشَّحين الأصغرَ سِنًّا، في مساعي إيصالهم إلى معارجِ السُّلطَةِ السِّياسِيَّةِ؛ إذ مِن هذا القَبيلِ، على سبيل المِثال وليسَ الحَصر على الإطلاق، وُصولُ أفرادٍ عديدين مِن عائلاتِ الأسعد، الجميِّل، جُنبُلاط، حرب، الزَّين، سلام، غُصن، الفِرزلي، فرنجيَّه، كرامي، مراد، معوَّض، الهراوي، إلى عضويَّة المجالس النِّيابيِّة المُتعاقِبَةِ، جرَّاء كونهم أبناء أو أحفاد أو أبناء أخ أو أنسباء، لشخصيَّات سياسيَّة أساسٍ، مِن العائلةِ التي ينتسبون إليها.
وتؤكِّد المُراقَبَةُ العمليَّة لهذه الملاحظة، كذلك، أنَّ اتِّباعَ مفهوم هذا المنهجِ الثَّقافيِّ، في الشَّأن السِّياسِيِّ، يُساهم إلى حدٍّ كبيرٍ في وصولِ النِّساءِ، مِن ذواتِ العائلاتِ السِّياسِيَّةِ، إلى المجلسِ النِّيابِيِّ؛ ومِن الأمثلةِ على هذا في لبنان السَّيِّدات ميرنا البستاني، ابنة النّائب إميل البستاني، وصولانج الجمِّيل، أرملة الرَّئيس بشير الجميل، ونايلة معوّض، أرملة الرَّئيس رينيه معوَّض، وبهيَّة الحريري، شقيقة الرَّئيس رفيق الحريري. ومِن الجِهة الأخرى، وفي المُقابِلِ، تُركِّز ُهذه الملاحظةُ الاستِنتاجِيَّةُ لفاعليَّةِ ثقافةِ منهجِ الولاءِ للعائلاتِ السِّياسِيَّةِ، مساهمةً لا بأس بها في توفيرِ أرضيَّةٍ خصبةٍ لِنُمُوِّ المحسوبيَّة الذاتِيَّةِ وتوسُّع نطاقِ الفَساد وتشجيعِ مساعي الاستيلاءِ على مراكِزِ قِوى النِّظام السِّياسِيِّ في منطقة معيَّنة، أو بشكل عام.
يبدو، استنادًا إلى هذا الواقع، أنَّ العائلة السِّياسِيَّة في لبنان تنهضُ، بهمَّة زعيمها السِّياسيِّ، أساسًا عملِيًّا في توجيه الرَّأي السِّياسيِّ، إلى درجة باتت معه قادرةً على فرضِ وجودِها حضورًا لا يمكن لا الاستغناءُ عنهُ ولا حتَّى عن توجُّهاته، في المجالات السِّياسِيَّة. إن الزَّعيمَ هو المرجع الأساس في اتِّخاذِ أيِّ قرارٍ أو موقفٍ سياسيٍّ، بما في ذلك تسميَّة من يراه مناسِبًا من مناصريهِ المُوالينَ لعائلتِهِ والمتحالفين معه ومعها، للتّرشُّح للانتِخابات النِّيابيَّةِ أو تولِّي الحقائب الوزارِيَّةِ، وكذلكَ الأمر في الوصول إلى المناصبِ الإداريَّة.
إنَّ في هذا ما يؤشِّرُ إلى ما يُعتبرُ، في مصطلحاتِ العلومِ السِّياسِيَّةِ، مدخلًا إلى دكتاتوريَّة الأسرة، أو الدِّيكتاتوريَّة الوراثيَّة؛ وهذا، بحدِّ ذاته، يُفسِّرُ أحدَ أشكال الدِّيكتاتوريَّةِ التي تَحدُثُ في لبنان؛ إذْ تَسْتَغِلُّ العائلةُ السِّياسِيَّةُ، ههنا، مبادئَ النِّظامِ اللبنانيِّ الدُّستوريِّ الدِّيموقراطيِّ البرلمانِيّ الجُمهوريِّ، بِصِفَةٍ اسمِيَّةٍ ورَسمِيَّةٍ، لِتَنْشَطَ، في مجالاتِ المُمارسةِ السِّياسِيَّةِ العمليَّةِ، ضمنَ مفاهيم وقِيَمٍ تتشابَهُ، إلى حدٍّ بعيدٍ، مع مفاهيم الملكيَّةِ المُطلقَةِ أو الاستبدادِ وقِيَمِهِم. ومِن هذا القبيلِ، أنَّ مخالفةَ توجُّهاتِ العائلةِ السِّياسِيَّةِ، أوالزَّعيمِ تحديدًا، يمكنُ أنْ تُعتَبَرَ أمرًا شديدَ السُّوءِ، في بيئةِ الزَّعيمِ ومجتَمَعِهِ ومُهَدِّدَةً بالخَطَرِ لمصالِحَ لهُ؛ كما قد تقودُ، بطريقةٍ أو أخرى، إلى ما يمكنُ تشبيههُ بالخيانةِ العُظمى للزَّعيم. ولعلَّ في الارتباكِ، الحاصلِ مؤخَّرًا، بين مُوالِيِ الرَّئيس سعد الدِّين الحريري ومناصريهِ والمتحالفينَ مَعَهُ، جَرَّاءَ إعلانِهِ الاستنكافَ عن الشَّأنِ الانتِخابِيِّ النِّيابِيِّ راهنًا، مُشاركةً عامَّةً وترشيحًا وتصويتًا، لخير دليلٍ على هذا الاستنتاج.
إنَّ في هذا جميعهِ، وعَبْرَ الملاحظةِ الأكَّاديميَّة، ما يفيدُ تَفَرُّدًا واضحًا وفاعِلًا، في حضورِ عدمِ ثقةٍ فاعلٍ بقوَّةٍ طاغِيَةٍ، في الوجود السِّياسِيِّ للجماعةِ أو الفردِ؛ وضعفًا جَلِيًّا في القدرةِ على اتِّخاذِ القرارِ السِّياسِيِّ لأيٍّ منهما؛ والحاجة العمليَّة، تاليًا، إلى مَن يَسُدٌّ فراغاتِ هذا الضّعف وتلك الثِّقة، بقيادته للأمورِ وحسمِهِ لِما يجدهُ مُناسبًا مِن قراراتٍ وتصرُّفاتٍ تجاهها. ولعلَّ في هذا ما يؤكِّد عدَّة أمورٍ، لدى هذه الجماعاتِ وهؤلاء الأفرادِ، لعلَّ مِن بينها:
1) اضمحلالُ أيّ حضورٍ عملِيٍّ للذَّاتِ الجَمْعِيَّةِ أو الفَردِيَّةِ المُستَقِلَّةِ في تفكيرهم.
2) متابعتهم الثَّقافيَّة لمفهومٍ سياسِيٍّ، يعود إلى عصور قديمةٍ من التَّاريخ؛ ينهضُ على قُدسيَّة الزَّعيمُ وسُمُوِّه، إذْ هو، ضمن هذا المفهومِ، خليفةٌ لِلَّهِ بينهم؛ أو مفهومِ رِفعَةِ الأُسرة المُمْسِكَةِ بزمامِ السُّلطةِ، إذ تُعتبر أكثر رُقيًّا مفهوميًّا مِمَّن هم بمنزلة الاتباع لديها.
3) تخاذلٌ عامٌّ في استيعابِ الجوهرِ الإنسانيِّ المعاصِرِ لِلفِكرِ الوطنيِّ.
4) وَهَنٌ في احتواءِ قِيمَةِ المُواطَنَةِ وأهمِّيَّتِها.
5) عدمُ نُضجِ الوَعيِّ السِّياسيِّ العام.
6) الاستهانةُ بالقيمةِ الإنسانيَّةِ التي لهم، والتي جرى تحصيلها بحكم تطوُّر نضالاتِ الوَعيِّ الحضارِيِّ والثَّقافيِّ المُعاصِر للإنسانيَّة الحَيَّة.
قد لا يَبقى، في نهايةِ المطافِ، والحالُ كما جرى وصفُهُ وتحليلُه آنِفًا، ولبنان في عشيَّة انتخابات نِيابيَّة؛ يَتكاثَرُ الكلامُ الانتِخابِيُّ عن أهمِّيَّتها وقدرتها على الحَسم السِّياسيِّ والبناء الوَطَنِيِّ، وضرورةِ المشاركة الفعَّالة والكثيفة فيها، سِوى القولِ إِنَّ كلَّ هذا الكلامَ سيبقى ممَّا تَذْرُوهُ رِياحُ الدَّقائقِ الأولى لِإعلانِ نتائجِ هذهِ الانتخابات، هذا إنْ حصلت بسلام، لِيُصبحَ مُجَرَّدَ غُبارٍ يَتطايَرُ بِزَهوٍ مجنونٍ فَوقَ رُكامِ العذاباتِ المُستمرَّةِ لِهذا الشَّعب.
*رئيس ندوة العمل الوطني – لبنان