بقلم د. عادل بشاره
(التقرير المصور إعداد وسام نصر الله)
إنعام رعد، ذلك القيادي الاستثنائي والباحث النشيط والكاتب اللامع والناشط بلا كلل، ألهم إرثه العديد من الناس وأثَّر في حياتهم داخل الوطن وخارجه. لأكثر من خمسة عقود، انتهج سيرة مهنية فريدة في العمل من أجل القضية القومية والقضايا الإنسانية الأشمل التي نشأت في حياته. وعلى الرغم من أن حياته المهنية تميزت بإنجازات معترف بها محلياً وإقليمياً، إلا أن رعد كان رجلاً متواضعاً ولم يسعَ للحصول على الأوسمة أو التقدير الشخصي ولم يعمل في أي منصب لكسب المال والفخر، إيماناً منه بالمثل العليا التي كان يتمسك بها ويعتز. ورغم زهده بطلب الثناء، فكم استحقه.
يُسلط هذا المقال الضوء على إنجازات رعد الرئيسية في مسيرته الاستثنائية، من خلال التركيز على سيرته كباحث وقيادي وخطيب وناشط في الحزب السوري القومي الاجتماعي والحقل العام، مع الأخذ في الاعتبار أن إنجازاته على كافة الأصعدة كانت، إجمالاً، ثمرة امتزاج مرن بين التطور الفكري والتصميم العملي.
السيرة الذاتية
ولد رعد في عين زحلتا عام 1929، ونشأ في عائلة ثرية وطنية بروتستانتية. كان الأصغر بين شقيقين وأربع شقيقات. في عام 1936، غادر رعد إلى مصر مع والده، وفي رحلة العودة عام 1938 على متن القطار الذي كان يربط مصر بفلسطين ولبنان (لم يكن الكيان الصهيوني موجوداً في ذلك الوقت) توقف لبعض الوقت في حيفا – جوهرة كل المدن كما وصفها في مذكراته.
في لبنان، استقرت العائلة في رأس بيروت، وهي منطقة قريبة من الجامعة الأميركية ومركز للنشاط الوطني. بعد أن أكمل تعليمه الابتدائي في مدرسة محلية والثانوي في الكلية الوطنية في عاليه، تخرج رعد من الجامعة الأميركية ببيروت عام 1949 بدرجة البكالوريوس في الاقتصاد السياسي. خلال ذلك الوقت، التقى ليلى داغر التي تزوجها لاحقاً فأنجبا ثلاثة أولاد هم إلهام وعصام وأمل.
عقل رعد الفضولي وشغفه بالقراءة دفعاه إلى السياسة. في عام 1945، اكتشف مصادفةً الحزب السوري القومي الاجتماعي وانضم إلى صفوفه بعد عام، رغم المعارضة المشتركة من والديه. تحوَّل انضمامه إلى هذا الحزب، بعد ذلك، ارتقاءً بمكانته داخله. وبحلول عام 1948، كان قد اكتسب خبرة كافية، بصفته “مديراً” للمُنضمين الجدد إلى الحزب من طلاب الجامعة الأميركية في بيروت وناموسَ منفذية الطلبة، فرُشِّح لمناصب مختلفة في إدارات الحزب العليا. ساهمت في تسريع هذا الانتقال، قدرةُ رعد الخطابية والإدارية مع احترام سعاده (الزعيم المؤسس للحزب) وتقديره العميق للموهبة والعمل الجاد.
في عام 1947، بعد ما يقرب من عقد من النفي القسري، عاد سعاده إلى لبنان وسط ترحيب كبير. وكان رعد بين مستقبليه. وعلى الفور عمل سعاده على تطهير الحزب من جميع العناصر المنحرفة. في هذه العملية، أصبح رعد هدفاً رئيسياً في مشروع إعادة البناء الداخلي والبحث عن مواهب جديدة لتحل محل الأعضاء الذين طُردوا. وعلى الرغم من صغر سنه ومن أنه كان ما زال يدرس في الجامعة، فقد استجاب للتحدي بحماسة. تولى عدة مهمات وبدأ في المساهمة بمقالات أدبية وثقافية في جريدة الحزب. لكن سعاده، ومن دون سابق انذار، نحاه جانباً وطلب منه إنتاج مقالات تحليلية بدلاً من ذلك.
تركت قيادة سعاده انطباعاً جيداً على رعد، خاصة بعد أن زار سعاده مسقط رأس رعد في عين زحلتا في عام 1948. ويذكر رعد أن التأثير الأكبر فيه حدث خلال خطاب سعاده المدوي في عام 1949 حيث وقف على كرسي محاطاً بقوى الأمن الداخلي وألقى واحداً من أكثر خطاباته جرأة.
هذه الجرأة وسط الترهيب غير المبرر علّمت رعد درساً في التحدي والقيادة الحاسمة. فقد خرج منها بشعور جديد بالهدف والمعنى، وإدراك أوضح للعقبات الهائلة والتحديات التي قد تظهر في العمل السياسي. كما تحسّن وعيه لبراغماتية العمل الحزبي وكذلك تقديره لأرقى وأسمى معاني النشاط الحزبي.
لكن ربما كان التأثير الوحيد الأكثر أهمية في رعد هو ملاحظة ما ورد من سعاده في خطاب آخر، بأن الطلاب يشكلون حجر الزاوية في الحركة القومية الاجتماعية. استمد رعد، وكان آنذاك طالباً في الجامعة الأميركية، الثقة والإلهام من هذا الإقرار وتكوَّن لديه إحساس بأهمية الذات وتقدير أكبر للطلاب في عملية التغيير. وفعلاً، خلال فترات قيادته الحزب، احتل الطلاب دوراً رئيسياً في رؤية رعد الاستراتيجية والحزبية.
بعد حادثة الجميزة في حزيران (يونيو) 1949، سُجن رعد مع مئات من الأعضاء الآخرين. اجتاز باقتدار هذا الاعتقال السياسي الأول له. لا شيء، ولا حتى الأخبار المروعة عن إعدام سعاده البربري في 8 تموز (يوليو) ردعته عن الحزب. فقد ظل مخلصاً لأهدافه وأدى واجباته بضمير حي. في الواقع، خرج رعد من أحداث عام 1949 أقوى، وأكثر ثقة من أي وقت مضى، وأصبح أكثر ثورية مع مرور الوقت. ربما جاء الواقع القاسي في السياسة والسلطة في وقت مبكر جداً على رعد، لكن ذلك لم يُخِفه أو يثبط حماسته. وعلى الرغم من صغر سنه وقلة خبرته، إلا أنه استوعب تلك الحوادث وتقبَّلها بكل ما فيها من صعوبات ومخاطر، فقد أمدته باهتمام جديد في مفاهيم الثورة والالتزام والأيديولوجية والقيادة.
كانت خمسينيات القرن الماضي عقداً من الصعود والهبوط بالنسبة إليه. بعد إعدام سعاده انتخب الحزب جورج عبد المسيح رئيساً ونُقل مقره المركزي إلى دمشق. انتقل رعد إلى مصر لعدم قدرته على العمل في لبنان لأسباب سياسية، لكن الحزب استدعاه عام 1951 للإشراف على نشاطه السري في لبنان. وكانت وتيرة التغيير السياسي في المنطقة (ظهور الحرب الباردة، وتغيير النظام في الجمهورية السورية، وازدياد الاستياء الشعبي من نظام الخوري-الصلح في لبنان، والتوسع الإقليمي الإسرائيلي، وعدم الاستقرار في مصر) قد وصلت إلى درجة تتطلب مشاركة وخدمة كل كادر. وعند ذلك لم يخيب رعد الآمال. فبعد عودته إلى لبنان، تولى عدة مناصب قيادية وعيِّن مديراً لحملة غسان تويني الانتخابية. وكان حاضراً ليشهد صعود أديب الشيشكلي إلى الرئاسة السورية بانقلاب عسكري، ومراقبة الجدل الكبير في شأن قيادة عبد المسيح للحزب وأول انقسام داخله ومحاولة الاقصاء الفاشلة لعبد المسيح عن قيادة الحزب، والإخفاق السياسي في الانتخابات السورية عام 1954.
استرعى الانتباهَ تفاني رعد ودوره الإيجابي خلال هذه المرحلة ولم يمرا من دون أن يكونا ملحوظين. ففي عام 1954، حصل على لقب “أمين” تقديراً لخدماته وبعد فترة وجيزة انتُخب عضواً في المجلس الأعلى للحزب.
كانت تداعيات تورط الحزب في اغتيال عدنان المالكي، عام 1956، والآثار السياسية التي نجمت عنها قد أقنعت رعد بأن أداء الحزب ضعيف. ومن العوامل التي أدت إلى دقه ناقوس الخطر: تحالف الحزب مع نظام كميل شمعون الموالي للغرب عام 1958؛ تركيزه على الشيوعية بدلاً من الصهيونية؛ عدم اهتمامه بالقضايا الاجتماعية؛ وتحيزه ضد الكتلة الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي وحلفائه اليساريين في المنطقة. ظل رعد صامتاً مراعاة لدستور الحزب وسلطاته العليا.
مع وصول فؤاد شهاب إلى الرئاسة اللبنانية عام 1958، أصيب الحزب بصدمة. أصبح معزولاً ومحاصراً من جميع الجهات ولكنه حاول أن يكسر الحصار عليه من خلال الانتخابات. فقد رُشح رعد مرتين لأحد المقاعد في منطقة الشوف، حيث النفوذ القوي لجنبلاط، وذلك في الانتخابات الفرعية لعام 1959 والانتخابات العامة لعام 1960. ونال عدداً جيداً من الأصوات، ولكنه لم يفز في كلتا الحالتين. عندها بدأ رعد يروِّج خطاباً سياسياً جديداً بنكهة يسارية في عام 1960. فدعا إلى:
- إبراز صورة الحزب “اليسارية”
- التعاون مع اليسار الثوري في العالم
- توسيع أجندة الحزب الاجتماعية
- تركيز أكبر على التغيير الثوري
- معارضة الإمبريالية الغربية
- التقارب مع الاتحاد السوفياتي
بصفته عميد الإعلام والعلاقات العامة بالحزب ورئيس التحرير المسؤول عن جريدة الحزب “البناء”، كان رعد في الوضع المناسب للتعبير عن هذا الخطاب وصياغته. لكن الانقلاب الفاشل للحزب عشية رأس السنة، عام 1961 أنهى المبادرة فجأة. فقد أمضى السنوات السبع التالية في السجون اللبنانية.
عند إطلاق سراحه في عام 1969، أحيا رعد الخطاب نفسه بإرادة أعمق وأكثر حماسة. فبعد تأثره بكارثة حرب الأيام الستة، بدأ في ترويج الأجندة اليسارية بشكل علني وأكثر فاعلية. في المؤتمر الأول للحزب في عام 1970 (مؤتمر ملكارت)، قاد الجناح اليساري بنجاح وقدَّم طروحات جديدة مختلفة للوصول إلى اقتراح يحظى بموافقة غالبية الحاضرين. رغم ذلك، ظلت بعض القضايا معلقة وبدأت، في نهاية المطاف، تظهر على السطح انقسامات وانحرافات جديدة. في أثنائها وُصف رعد بأنه “ماركسي متخفٍّ”، وانتشرت الدعوات لطرده في دوائر الحزب. ومع ذلك، فقد تمسك بموقفه وأصبح رئيساً للحزب في عام 1975.
في هذا الوقت، كانت الانقسامات تعصف بالحزب. وتمحور الانقسام الرئيسي حول مستقبل تحالفاته السياسية. فضّل جناحٌ التحالف مع نظام البعث السوري بينما عارضه بعمق جناح آخر بقيادة رعد. كان رعد متشككاً للغاية في النظام السوري، واعتبر سياسته الإقليمية بمثابة مناورة مدروسة لتعزيز موقفه في مفاوضات السلام مع إسرائيل بذريعة التهديد بالحرب. بقي رعد غير مبالٍ بالضجيج المحيط به، وانطلق لتعزيز رئاسته وبناء شبكة من العلاقات القوية مع القوى المحلية والإقليمية. وتحت قيادته، أقام الحزب تحالفات جديدة مع الجماعات اليسارية في لبنان وخارجه، وبدأ في حضور المؤتمرات الدولية. وتزامناً مع هذه التحالفات تمت مراجعة الخطاب الحزبي ليعكس الميل إلى اليسار، وبُذلت جهود حثيثة لضخ دماء جديدة في قيادة الحزب المركزية.
في عام 1975، اندلعت الحرب الأهلية في لبنان. ومستشعراً وجود مؤامرة إقليمية، قدّم رعد بسرعة إجراءات جديدة لحماية الحزب من الأخطار المحتملة. ترقّى إلى منصب نائب رئيس الحركة الوطنية اللبنانية المشكلة حديثاً، وأقام علاقات أوثق مع منظمة التحرير الفلسطينية. كما وجد وسائل ومصادر مختلفة لتسليح ميليشيا الحزب. لم يكن ذلك بالمهمة السهلة، لكن شبكة العلاقات السياسية والشخصية الواسعة لرعد مكنته من الحصول على أسلحة من مناطق بعيدة مثل ليبيا القذافي. وفي هذه الأثناء، توترت علاقة رعد مع دمشق بسبب الخلاف بين النظام السوري والحركة الوطنية. ورغم ذلك، فبحلول عام 1977، تمكّن من تصحيح خلافاته مع دمشق وإنهاء فترة رئاسته بشكل جيد. وقد مُنح “وسام سعاده” لقيادته الماهرة.
أعيد انتخاب رعد رئيساً للحزب ثلاث مرات بعد عام 1977 (1980 و1992 و1995) وعندما لم يكن رئيساً للحزب، كان عضواً في المجلس الأعلى للحزب أو في مكتبه السياسي أو في مجلس العمد. لقد برع في أي منصب شغله. طغت قوته الخطابية وعقله التحليلي على أي نقاط ضعف قد تكون لديه ومكّناه من شق طريقه عبر الحرب الأهلية اللبنانية بمزيج من النجاحات والإخفاقات. شهد رعد خلال رئاسته الحزب اجتياحين اسرائيليين ودفع للمشاركة في المقاومة العسكرية ضدهما. في بعض الأحيان كان يتعثر، وفي أوقات أخرى كان يتفوق. ظل إيمانه بسعاده وبالاستراتيجية السياسية التي صاغها بعناية على مر السنين قوياً، لكنهما لم ينقذاه من الانتكاسات السياسية. كان حجم ووتيرة التحولات بعد عام 1980 هائلين للغاية بحيث لا يمكن السيطرة عليهما: الإخلاء القسري لمنظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982؛ وانتصار الاستراتيجية السورية عام 1990؛ والانبطاح الكامل في أوسلو؛ وانهيار الاتحاد السوفياتي وصعود الإمبريالية العسكرية الأميركية؛ وتراجع حركات التحرر الوطني. لقد سلبت هذه التغييرات منظور رعد الاستراتيجي من النزاهة والمرونة الأساسية اللتين كان يتمتع بهما في السابق.
توفي رعد عام 1998 بعد صراع طويل مع مرض السرطان، وقد تم وداعه بجنازة كبيرة حضرها كبار الشخصيات والأصدقاء من جميع أنحاء العالم. كما تدفقت التعازي من شخصيات عامة وأفراد لم يعرفوه إلا بالاسم والسمعة. من بين جميع الإشادات التي وصلت، قدّم كلوفيس مقصود، سفير الجامعة العربية في الأمم المتحدة، أدق تصوير للمتوفى: “كان إنعام رعد في كل أوجه حياته إنساناً كبيراً… كان مفكراً رائداً بين السياسيين وسياسياً بين المفكرين… كانت مساهمته دوماً في إخراج “السياسة” من حيز المناورة إلى حالة التزام”.
الميزات الأربعة لرعد
أولاً. القيادي
بحلول عام 1975، كان إنعام رعد قد قطع شوطاً طويلاً. خلال العقدين اللذين أعقبا إعدام سعاده، حصل على الاعتراف به باعتباره قيادياً من حيث النزاهة والمهارة. لقد ساهمت فصاحته كثيراً في نجاحه على المستوى التنفيذي للحزب وفي سمعته كقائد محتمل. خلال سنوات من العمل الجاد والتفاني الدؤوب في أداء الواجب، فاز بالعديد من المعجبين وحقق قدراً من السلطة، وطور نظرية متماسكة حول كيفية قيادة الحزب.
بالفعل، منذ بداية ولايته الرئاسية الأولى في عام 1975، أظهر رعد لمحات عما كان قادراً عليه وما يمكن أن يقدمه للحزب. أولاً، رغب في تحسين التنظيم الحزبي وتحديث إدارته وتوجهات موظفيه. ولأنه يؤمن إيماناً راسخاً بالتغيير والإصلاح، فقد مارس تأثيراً كبيراً على الإدارة المركزية، واتبع برنامجاً مستنيراً ومستداماً لتقويتها. كان أحد العناصر الأساسية لهذا البرنامج هو توظيف المواهب الجديدة وتدريبها وتطوير إداريين أكثر فاعلية. مثل سعاده من قبله، سعى رعد ووجد الأعضاء المناسبين للمراكز المناسبة. اتفق أولئك الذين عرفوه أو خدموا تحت قيادته على قدرته الفطرية على تحديد المواهب وجذب الموهوبين وتدريبهم على الأدوار القيادية في المستقبل. وبمجرد توظيفهم، كان رعد يحثهم على تكريس أنفسهم ليس فقط لشؤون الحزب ولكن أيضاً لتوسيع آفاقهم الفكرية لتشمل مسائل أخرى ذات أهمية قومية ودولية.
ثانياً، لم يقبل رعد الرئاسة لمجرد الهيبة. حمل هذا المنصب القليل من المكافآت مقارنة بالعمل الهائل الذي يستلزمه ولم يدخر رعد نفسه في أداء هذا الواجب. لقد وضع أفكاره الخاصة في ما يتعلق بواجبات الرئيس، وكان حازماً ومثابراً في متابعتها. على طول الطريق، دافع عن سياساته بحماسة واتخذ موقفاً حازماً وموقف رجل الدولة ضد منتقديه. حتى في ولايته الأولى، اكتسب شهرة كقائد متعدد المواهب منفتح على إمكانيات جديدة ومعرفة جديدة. كان يبحث باستمرار عن أفكار جديدة وطرق جديدة للنظر إلى الأشياء. تسبَّب هذا ببعض القلق في دوائر معينة ولكن رعد كان مترفعاً جداً لدرجة عدم السماح للحقد بالتدخل في عمله.
ثالثاً، في إطار السياسة الحزبية الواسعة التي التزمها، كان لرعد سجل جيد ومتسق. لقد ساعدته معرفته الواسعة وتنوعاته الفكرية على مواجهة بعض التحديات المختلفة في عصره. كلما كان هناك موعد مع تحديات وتجارب جديدة، كان مستعداً للمشاركة فيها وتحليلها. لقد كان مطابقاً للنوع المثالي من “القائد الفكري” ليس فقط بسبب سجله كمنتج للمعرفة، ولكن أيضاً لقدرته على التفاعل بذكاء وبشكل فعال مع الآخرين وتحفيز المرؤوسين على المساهمة في إنتاج المعرفة الجديدة ونقلها.
رابعاً، في دور قيادة الحزب الذي أرسى له أحقية قاطعة، جسد رعد كلاً من روح ومبدأ المنطق المؤسساتي. لقد كان نموذجاً أصلياً لـ “رجل المؤسسات” بامتياز، أي الذي آمن بأولوية المؤسسات كإطار للعمل الحزبي. وعن قصد أو غير قصد، جسد رعد مبدأ مونتسكيو القديم الذي يقول، في البداية، “القائد هو الذي ينتج المؤسسات. فيما بعد فإن المؤسسات هي ما تنتج القادة”. لقد أظهر إيماناً قوياً بمؤسسات الحزب واعتبر الاستمرارية المؤسساتية ليست فقط عنصراً أساسياً لنظام مستقر ولكن أيضاً حماية ضد الفوضى وعدم اليقين. وبالفعل، لم يرَ مؤسسات الحزب على أنها غاية في حد ذاتها أو مجموعة من الأجزاء الجامدة أو “الوظائف” التي معاً تجعل الحزب “ينشط”. يفترض هذا المنظور أن “الوظائف” ثابتة وأن الروابط أو “العلاقات” بين الوظائف ليست مهمة وأن الوظائف لا تتغير.
بشكل واقعي، اعتبر رعد مؤسسات الحزب هياكلَ ديناميكية تخضع للقوانين وحتمية التغيير وكذلك للاحتياجات والتطلعات المتطورة للحياة البشرية.
ربما كان الجانب الأكثر إبداعاً في مسيرة رعد القيادية هو دوره كمدافع عن المثل الديمقراطية. كان ميله المباشر الى الديمقراطية يعكس قناعته بأن إزالة الاجراءات الصارم تزيد بشكل تناسبي من فرص الانتهاكات السياسية. النظام الذي يعمل بشكل صحيح هو النظام الذي يعمل بشكل طبيعي لضبط الانتهاكات السياسية، وذلك من خلال تجسيد الحيادية والعدالة عبر الانتخابات النزيهة. بسبب هذه القناعات، وجد رعد نفسه في كثير من الأحيان في الطرف المتلقي لملاحظات دنيئة وانتقادات لا معنى لها. ومع ذلك، فقد تصدى لخصومه وقاتل حتى في المواقف الصعبة. وفي النهاية، فإن التزامه بمبدأ اللعب النزيه وروحه الفطرية للولاء الحزبي والحكم المتوازن، كانا يحميانه من المحاولات الخبيثة لأولئك الذين تخيلوا تدميره.
كان إرث رعد إرثاً للقيادة الحقيقية. لقد كان قيادياً لم يسر على رأس الحزب فحسب، بل كان يسير في وسطه. كان مدفوعاً باهتمامه بحاضره ومستقبله. في سعيه وراء قناعاته، أظهر حباً عميقاً وتفانياً لا يخطئ للحزب ولم تتضاءل شهوته إلى المعرفة أبداً. لقد ظل مخلصاً للقلم ومؤمناً حقيقياً بقوة العقل البشري. ربما أكثر من أي أمر آخر بخلاف ذلك، هذا هو السبب في أن قيادته كانت مؤثرة للغاية، ولهذا لا تزال توفر الإلهام والتوجيه للحزب اليوم.
ثانياً. الباحث
لا يمكن قياس إنجازات رعد العلمية بدرجة البكالوريوس التي حصل عليها من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1949، فقياسها الحقيقي هو حجم ومضمون الإنتاج الفكري الذي انبثق من قلمه الذي كان لا يهدئ. كان كاتباً غزير الإنتاج، ألف العديد من الكتب والعديد من المقالات في الموضوعات السياسية والعقائدية. بدت مساهمته في الصحافة ذات طبيعة نموذجية أيضاً وكان يساويها فقط تفاعله ومشاركته النشطة في المؤتمرات والمنتديات، على المستويين المحلي والدولي. عند شعور رعد بشغف تجاه أمر ما، كان يقوم بتحليله والكتابة عنه. ولكن، بكل المقاييس، أبقى نفسه مطلعاً على ما يحدث في جميع أنحاء العالم، وقارئاً نهماً للفكر المعاصر ومناهجه وذلك إضافةً إلى قراءته الصحف اليومية.
بصفته باحثاً، كان رعد يتمتع بعين حريصة على الحقيقة التاريخية والدقة، وعلى معرفة شاملة بموضوعاته. امتلك أيضاً بريقاً في الموهبة التي تحسنت ونضجت مع مرور الوقت. والمنشورات التي كتبها أكسبته مكانة محترمة بين المثقفين في عصره. وتشهد القائمة الطويلة لكتاباته على اتساع اهتماماته مع التذكير أن العديد منها نشأ بشكل طبيعي عن عمله السياسي وواجباته الحزبية. أولئك الذين عرفوه عن قرب يتذكرونه باعتباره كاتباً متفانياً ومجتهداً، فقد كان له عقل مفعم بالحيوية ونظرة متعمقة واستقصائية وكذلك عين فطنة ومدركة للتفاصيل والتحاليل.
لا تكمن قيمة كتابات رعد في عدد الكتب والمقالات التي صاغها ولكن في طريقته النظرية والتحليلية. لم يكتب من أجل الكتابة أو لمجرد وضع الكلمات على الورق. لقد كتب لغرض ولجمهور معين. بأسلوب القائد الحقيقي، كان يفكر باستمرار في القضايا ويختار كلماته بعناية لتحقيق هدفه (بما في ذلك محاولته تشكيلَ رأي شعبي). لم يدخر رعد جهداً عندما كان الأمر يتعلق بالمسائل القومية. من حيث النطاق، امتدت أبحاثه وكتاباته إلى طيف كامل من السياسة والتاريخ: ما قبل الاستعمار، والاستعمار، وما بعد الاستقلال. إضافةً إلى ذلك، كتب عن القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية عبر الزمان والمكان. ومن السمات البارزة في كتاباته مدى تصوره لأي قضية أو موضوع قيد المناقشة: القومية والديمقراطية والحقوق المدنية، إلخ. ومن السمات الأخرى قدرته على تأطير ادعاءاته وتحديد صحتها في سياقها المناسب. ساهم هذا مساهمة كبيرة في دقة تحليله وأصالة حججه.
مر مسار كتابات رعد بمرحلتين مختلفتين لكن متداخلتين. تألفت المرحلة الأولى، من عام 1949 إلى عام 1970، بشكل أساسي، من مقالات صحافية وتوضيحات عقائدية وبيانات حزبية. ولعل أهم مساهماته خلال هذه الفترة كانت في عام 1960 عندما كتب مقالاً شديد اللهجة في “البناء” دعا فيه الحزب إلى تشكيل تحالف مع الاتحاد السوفياتي. وأشار لاحقاً إلى أن المقال سقط “مثل القنبلة”: خلق ضجة داخل الحزب وخارجه. واستشهد بالمثل القديم “عدو عدوي صديقي”. وجادل رعد في أن الدولة الصهيونية إذا كانت “أخطر تهديد لأمتنا” وإذا كانت تتمتع بدعم ومباركة كاملة من الغرب، فلن يسبِّب الارتباط بالمعسكر السوفياتي المناهض للغرب أي ضرر للحزب. لكنه امتنع عن تقديم تنازلات أيديولوجية لموسكو خاصة في ما يتعلق بالكيان الصهيوني والمصالح القومية.
كان رعد استراتيجياً سياسياً يتمتع بفهم عميق لاحتياجات البلد وتطلعاته. ولم تتوافق حساباته دائماً مع الواقع لأن الاستراتيجيات السياسية نادراً ما تحقق جميع أهدافها في مجتمعات غير مستقرة بطبيعتها ومنقسمة بشدة. وعلى الرغم من ذلك، فإن ثقة رعد بصحة تشخيصه شجعته على متابعة الانفتاح على السوفيات. لسوء الحظ فقد أدى سجنه بسبب الانقلاب الفاشل للحزب عام 1961 إلى توقف تلك المحاولة.
خلال فترة اعتقاله التي استمرت ثماني سنوات، أنتج رعد بعضاً من أفضل كتاباته. صاغ العديد من المقالات المُبدعة والتحليلية المميزة عن التيارات السياسية والأيديولوجية المنتشرة في ذلك الوقت (الستينيات) وخاصة الماركسية والقومية العربية، وأخضع “الثورات الشيوعية” لفحص نظري دقيق. وأتبعه بسلسلة من المقالات الصحافية عن نكبة 1967 والتي تم تهريبها سراً من السجن ونشرت في صحيفة “النهار” اليومية في بيروت تحت اسم مستعار “قيس الجردي”.
بعد إطلاق سراحه من السجن، وصلت أعمال رعد السياسية والأدبية إلى آفاق جديدة. بدأ في إنتاج كتب كاملة ودراسات عن الموضوعات الفردية ذات الصلة والمقالات البحثية. ازداد مقدار إنتاجه الصحافي أيضاً وظهرت كتاباته في مجموعة من المنشورات. ولم يترك رعد قضية سياسية واحدة تمر دون تحليلها وإبداء رأيه فيها. لقد تمسك بأيديولوجية الحزب، ولكنه كان مصمماً على عدم الخضوع للمعايير المنصوص عليها أو كبح دوافعه الإبداعية وفق قيود مسبقة. كانت مرونته الذهنية تصل إلى درجة تمنعه من الاشتراك في المعتقدات الجامدة أو الاختباء خلف الشخصية المنفصلة كما هو الحال مع الساكن في برج عاجي.
كمؤمن شديد بالفكر الحر والنزاع الفكري، اعتبر رعد أن مبادئ الحزب تشكل جزءاً من أساس عظيم ورائع وليست حقائق منفصلة ومعزولة. لقد التزم بهذا المبدأ طوال حياته وحاول ترويجه بدرجات متفاوتة من النجاح وذلك باعتباره انعكاساً حقيقياً لمنظور سعاده. التحرر من العصبية الجامدة والتجانس مكّنا رعد من تطوير نظريات جديدة أو توسيع النظريات الموجودة. وكانت النتيجة مجموعة ضخمة من الأعمال وأدباً راسخاً يغطي مختلف الأنواع.
موضوعان مهمان في كتاباته يستحقان الاهتمام. الموضوع الأول يدور حول مفهوم “حرب التحرير القومية”. ولا شك أن العمل المكثف الذي قام به رعد لتطوير هذا المفهوم قد عزز سمعته كمنظر كفء ورائد في الفكر السياسي المعاصر. في هذا السياق، تحدى رعد المنظور الاشتراكي لحرب التحرير القومية باعتباره مجرد شعار ضد الاستعمار قائم على شعور متخيل للهوية القومية، وسعى لإثبات: (1) أن الأيديولوجية الماركسية اللينينية التي كانت شعبيتها تتقدم بسرعة في العالم الثالث في ذلك الوقت، قصيرةُ النظر لأن نظامها المتمركز حول الطبقية استبعد البعد الاجتماعي لحروب التحرير القومية. (2) أن مذهب الحزب السوري القومي الاجتماعي كان أكثر توافقاً أيديولوجياً مع احتياجات وتطلعات الحركات القومية مما كان عليه مع الماركسية اللينينية.
وفقاً لرعد، فإن القومية الاجتماعية، خلافاً للمنظور الماركسي اللينيني، لا ترى حروب التحرير القومية حصرياً من خلال منظور اقتصادي يُبالغ بدور الصراع الطبقي في المجتمع. وبدلاً من ذلك، فهي تقر بالدوافع الاقتصادية والاجتماعية على السواء في مثل هذه الحروب وتعتبرها غير قابلة للتجزئة.
أشاد كلٌّ من المعجبين والمنتقدين بتقييم رعد الثاقب والصريح لفكرة القومية الاجتماعية. ولم يكن هذا بالأمر الهين بكل المقاييس، وقد كانت النتيجة مرضية لكلٍّ من رعد والحزب. كان من المحتمل أن ينجح اليساريون والعناصر الشيوعية الطموحة في ذلك الوقت في سعيهم إلى “مركسة” الحزب، كما فعلوا مع حركة القوميين العرب، لولا إصرار رعد الفكري وعمله الجاد. لقد أدت توضيحاته العميقة للقومية الاجتماعية إلى إعاقة هذا الدافع ولذلك فهو يستحق التقدير.
الجانب الثاني: يخص قضية فلسطين وطبيعة المخطط الصهيوني. كانت مساهمة رعد في هذا المجال لا تضاهى. لقد برع في صياغة تقييم عملي وعقلاني للصهيونية وفي تقديم دفاع منطقي عن حقوق الأمة في فلسطين.
يشهد عملاه الضخمان “الصهيونية الشرق أوسطية والخطة المعاكسة” و”حرب وجود لا حرب حدود” على شدة اهتمامه بالحركة الصهيونية وتصميمه على فضح المغالطات والسخافات التي تزخر بها. لم يترك رعد ناحية في الرواية الصهيونية إلا وفندها. لقد تساءل عن كل جانب وافتراض وتفصيل فيها وكل خطوة أو حركة كانت تتبلور عنها. كان يتابع تقدم الحركة الصهيونية بقلق ودقة كبيرين، ويردّ على تصريحاتها بتعليقات ومراجعات مفيدة وثاقبة وظلَّ مطلعاً على شؤونها الجارية وآخر المستجدات. في الواقع، لم تحظ أي قضية باهتمام كبير من قلم رعد أكثر من الصهيونية.
معتمداً على نقد سعاده اللاذع للصهيونية، رفض رعد كلاً من فكرة “إسرائيل” كوطن للشعب اليهودي والأيديولوجية المرتبطة بإنشائها. بالنسبة إليه، كانت الصهيونية تدل على أمر مشؤوم للغاية يتجاوز كل أعراف الحضارة. لقد برزت كمشروع غامض شرير مقدر له إحداث الفوضى أثناء أداء دور سيد الدمى في السياسة العالمية. واصل رعد وصف الصهيونية بأنها أيديولوجية إبادة جماعية ومشروع استعماري شبيه بالطراز الأوروبي. أطلق عليها “أيديولوجية دولة استعمارية – استيطانية” على النقيض من تلك النظرة الخاطئة في الغرب إلى الصهيونية على أنها حركة تحرير لشعب مشتت يتوق إلى العودة لديار أجداده.
إن معرفة رعد الواسعة بالموضوع والمكتسبة من خلال البحث الجاد والمشاركة النشطة في حركات التحرر التي ارتبط بها بشكل بارز، قد قدمت خدمة ثمينة للحقيقة التاريخية. إن ما يُميزه من منتقديه المعاصرين للصهيونية، إضافةً إلى تحليله الثاقب والمبتكر، هو الجرأة والطاقة الديناميكية اللتان أتبع بهما وجهات نظره. نادراً ما يترك رعد فرصة دون أن يعبّر عن رأيه أو يهاجم الصهاينة.
والأهم من ذلك كله، ما أزعج رعد بصورة كبيرة هو إمكان تجريد الشعب الفلسطيني من حقوقه بتلك السهولة والوحشية. واعتبر الغزو الصهيوني الاحتيالي لفلسطين عملاً تخريبياً هائلاً لن يُغفر أبداً. كان أحد أقواله التي تكررت “لا يمكنك إصلاح خطأ بخطأ أكبر” وكان ذلك في إشارة إلى قرار أوروبا المشؤوم لمعاقبة الشعب الفلسطيني على أخطاء النازية.
على الرغم من معارضته الشديدة للصهيونية، إلا أن رعد لم ينحدر إلى معاداة السامية. فقد حافظ على خطاب متوازن ودعم باستمرار حججه بحقائق تاريخية وعلمية. غير أنه التزم وروَّج فرضيةَ سعاده لعام 1925 القائلة “إن الحركة الصهيونية تسير على خطة نظامية دقيقة، فإذا لم تقم في وجهها خطة نظامية معاكسة كان نصيبها النجاح”.
بإيجاز، هذه هي السمات الرئيسية لإرث رعد الأدبي والسياسي، إلى جانب تفكيكه الماركسية اللينينية والصهيونية، وعمله على القومية، وتناول العديد من القضايا الأخرى مثل الديمقراطية والحق المدني والعدالة الدولية والحرب والسلام وسياسات القوة والسياسة الخارجية والتمييز العنصري والطائفية وبناء الدولة. غزارة كتاباته تجعل المرء يتساءل عما إذا كان قلمه أبداً قد استراح أو جف. تشكل كتاباته الرائعة والصحافية والأيديولوجية اليوم أبرز الإنجازات في تاريخ الفكر السوري والعربي. وبشكل عام، فهي معترف بها – داخل التقاليد القومية وخارجها على حد سواء – كمساهمة فريدة في فكر القرن العشرين الذي كان له تأثير خارج سورية والعالم العربي.
ثالثاً. الخطيب
إضافةً إلى التزاماته الكتابية، عمل رعد لسنوات عديدة كرجل الحزب الأول في الأمور العامة والأيديولوجية. فقد سيطر على المنصة بأدائه المذهل مرة تلو الآخرى وأثار إعجاب الجماهير بمهاراته الخطابية وارتجاليته القيادية. يمكن للمرء أن يضيف أن رعد كان واثقاً جداً من قدراته الفكرية وربما اكتسب إحساساً قوياً بالسعادة والرضا من استخدامها. كان بلا شك يدرك موهبته الخطابية ولم يتردد يوماً في وضعها بخدمة النهضة والحزب.
يُعد مخزون رعد الكبير من الخطب والمحاضرات إحدى السمات المميزة لمسيرته السياسية، ويغطي سلسلة كاملة في السياسة والتاريخ والقومية والقضايا الإنسانية. بشكل عام، تكشف الخطابات عن عدة سمات ملفتة للنظر بشأن رعد:
– استمتع بتحدي الخطابة وأعطاها كل المهارات والقدرات الخطابية التي كان يتقنها،
– على الرغم من أنه تحدث في مواضيع متنوعة، إلا أنه عادة ما كان يرجع للحزب ويتحدث في ضوء أيديولوجيته،
– اتجهت خطاباته إلى جذب الجماهير والإعجاب حتى إن الجماعات السياسية والفكرية خارج الحزب دعته أحياناً للخطابة في موضوعات معينة أو للمشاركة في نقاش عام،
– لم يكن يمانع في السفر للتحدث،
– كان بامتياز أبرز المتحدثين العامين للحزب.
إن كثافة وتواتر خطابات رعد دليل على الحماسة الثابتة التي حمل بها الحزب ودافع عنه، وانعكاس لقناعته العميقة بأهداف ومبادئ برنامجه. رعد لم يُلطِّف الكلمات أو يخفي مشاعره، كما أنه لم يُخف ازدراءه لخصوم الحزب السياسيين. فقد تناول ببراعة القضايا الخلافية وتحدث بصراحة وبشكل مباشر: بمساعدة المنطق السليم والتحليل النقدي والواقعي وهذان أصبحا السمة المميزة لأعماله بأكملها. ورغم ذلك، فإن الحزب يستحق الكثير من الفضل لوضع أجهزته بالكامل تحت تصرفه ومنحه كل الدعم الذي يمكنه حشده لمساعدته على تطوير مهاراته وإتقانها.
بغض النظر عن قدرة المتحدث على تقديم حجج منسقة وبطريقة مرضية، يجب أن يكون قادراً على إقناع جمهوره بأنه مؤهل أخلاقياً وفكرياً للتحدث بنفسه في موضوع ما. ومن المؤكد تقريباً، كما يخبرنا أرسطو، أن شخصية أو روح المتحدث هي أقوى وسيلة للإقناع تحت تصرفه. خلقت هذه الحقيقة وضعاً وتحدياً صعبين لرعد بسبب ولاءاته السياسية. ومع ذلك، لا يبدو أن ذلك قد أعاق فعاليته. كانت سمعته كسياسي نظيف لا تشوبها شائبة. كذلك، فإن قدرته على دعم حججه بالبراهين المنطقية واسترجاع التفاصيل الدقيقة والاستشهاد بالعوامل المساهمة كاملة بالأسماء والأرقام واستخدام القياس والمقارنة كانت تسير بشكل صحيح مع الجمهور.
وكما هو الحال مع الكتابة، تناول رعد مجموعة متنوعة من الموضوعات عادةً بهدف إقناع جمهوره أو إيصال رسائل معينة. وتراوحت المواضيع البارزة في خطاباته بين مخاطر النزعات الطائفية، والتهديدات الصهيونية، وعدالة القضية القومية. كما حظيت أوجه القصور في الأيديولوجيات الجزئية وخطر الإمبريالية الغربية والصهيونية بنصيب كبير. بعد عام 1970، تحوّل تركيز خطبه العامة إلى الاشتراكية والعروبة والصهيونية والقضية الفلسطينية. لقد ظهرت هذه الموضوعات منفردة أو مجتمعة، لكنها كانت موجودة دائماً. علاوة على ذلك، كان رعد أحد المتحدثين القلائل الذين يمكنهم إلقاء العديد من الخطب المبدعة والمختلفة والمرتجَلة والمؤثّرة، في اليوم عينه، وجذب اهتمام جمهوره وتركيزه. عزا البعض هذه المهارة إلى إلمامه بالقواعد النحوية التي لا تشوبها شائبة في حين أن البعض الآخر عزاها إلى بساطة أسلوبه ومنطقه السليم. ربما كان ذلك بسبب التحليل الدقيق والرائع الذي حافظ عليه حتى تحت الضغط.
رابعاً. الناشط
إذا كان من سمة مميزة تميز إنعام رعد من معاصريه، في داخل الحزب وخارجه، فهي إحساسه بكونه رائداً وناشطاً ديناميكياً في مجالات متعددة. كان مدى تأثيره قوياً على امتداد الحزب وخارجه. قام رعد بأكثر من مجرد تبني فكرة كونه ناشطاً، بل عاشها. قد يكون من المستحيل النظر إلى حالة النشاط السياسي في الشام ولبنان وما حولهما بعد عام 1975، من دون ظهور اسم رعد في مرحلة أو أخرى. قائمة الندوات والجبهات والتجمعات السياسية والتحالفات الحزبية والمؤتمرات الإقليمية والدولية التي حضرها تكاد لا تنتهي: الحركة الوطنية اللبنانية، والجبهة الوطنية الديمقراطية (1983)، وجبهة الإنقاذ الوطني، وتنظيم الأحزاب الاشتراكية والتقدمية في حوض البحر الأبيض المتوسط، ونقابة الكتاب العرب، ونقابة الصحفيين العرب، ومؤتمر الشعوب العربية، واللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية. شارك رعد أيضاً مجموعة من التيارات اليسارية، وكان القوة الدافعة الرئيسية وراء العديد من الالتماسات والحملات السياسية. كانت مشاركته في هذه المنظمات شائعة لأنه كان البادئ أو المؤسس أو المنظم أو المتحدث الرسمي. إن إدراك هذا التمييز لا يعود إلى أن لدى رعد إحساساً أكبر كمفكر فحسب، بل إنه يوفر أيضاً نظرة ثاقبة إلى نوع سياسات العمل المباشر التي ترتكز على العقل والتي جاء ليجسدها.
كان عمل رعد السياسي عملياً وليس نظرياً في المقام الأول. فقد هدف إلى الانخراط في مجموعة من الأشخاص من داخل الحزب وخارجه وإشراكهم. لهذا، كان من الضروري له أن يستفيد من القدرة على التعاطف والتواصل، بوعي، مع المجموعات والأحزاب الأخرى التي تشترك في أرضية مشتركة مع الحزب. تجاوزاً للقيود الأيديولوجية، استخدم رعد أربعة معايير لتحديد هذه الأسس: (1) معاداة الصهيونية، و(2) مناهضة الإمبريالية، و(3) التحرر القومي، و(4) الإصلاح الاجتماعي والسياسي. كان يعتقد أن هذه المعايير متشابكة وأن كل مجال من مجالات نشاطها يتغذى فيما بينها. لا يمكن أن يكون المرء معادياً للصهيونية وأن يكون إمبريالياً في الوقت نفسه أو العكس. وبالمثل، فإن طبيعة التحرر القومي تتطلب الالتزام بالإصلاح الاجتماعي والسياسي.
كمناصر للحرية القومية والحقوق الديمقراطية، سافر رعد في طول وعرض المجتمع الدولي. حملته رؤيته إلى جميع أنحاء العالم. على طول الطريق، صادق العديد من القادة (بمن في ذلك فيدل كاسترو ومعمر القذافي) وأقام علاقات وثيقة مع القيادة السوفياتية، والمسؤولين الحكوميين في الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية، والأحزاب والمنظمات اليسارية في أفريقيا ونصف الكرة الغربي. من خلال حزب العمال البريطاني، طلب الفرصة لمخاطبة مجلس النواب بشأن قضية فلسطين وحصل عليها. في عام 1981، أقام تحالفاً ثنائياً بين الحزب السوري القومي الاجتماعي (SSNP) والحزب الاشتراكي القبرصي (EDEK)، وقد توِّج بزيارة رسمية من رئيسه فاسوس ليساريدس إلى مقر الحزب في بيروت.
في سياق هذه الرحلة الطويلة، تحدث رعد عن العديد من القضايا، ولا سيما عن الكارثة القومية في فلسطين. كان الظلم الذي لحق بالفلسطينيين، ليس فقط في عام 1948 ولكن أيضاً على مر السنين، موضوعاً قريباً من قلبه لأنه شعر، وبحق، أن الشعوب الغربية لا تزال غافلة عن الوحشية التي ارتكبتها حكوماتهم بتجاهل الاستعمار الصهيوني في فلسطين.
كان رعد مدركاً جيداً الصورةَ السيئة السمعة للحزب السوري القومي الاجتماعي في الخارج على أنه “حزب يميني فاشي”. ومع ذلك، ومن خلال العمل الجاد والسعي الدؤوب لتحقيق أهدافه، تمكّن من استبدالها بصورة أكثر إيجابية. كانت إحدى الاستراتيجيات التي تبناها للتعامل مع هذا الأمر هي تنمية قدر كبير من المرونة في مفرداته السياسية. لذلك حاول رعد باهتمام تحسين سمعة الحزب، حتى إنه كان على استعداد لتبنّي لغة اشتراكية سياسية “مُبطنة” بقدر أقل تسودها إشارات إلى مفهوم التسامح ومبادئ العدالة الاجتماعية. كان التكتيك الآخر الذي تبناه هو تنظيم حملات بشأن القضايا التي تتقاطع مع السياسات الحزبية. ومن الأمثلة التي كشفت عن ذلك، جهوده لتشكيل تحالف مع الأحزاب السياسية التي تدافع عن أجندات تحرر وطني شبيهة بأجندات الحزب السوري القومي الاجتماعي. ومع ذلك، لم يكن رعد لينجح لولا قوة قدراته الخطابية والتحليلية واهتمامه الشديد بالتفاصيل. علاوة على ذلك، كان تصميمه على تجنب الرموز والشكليات وتأمين رأي ذي مغزى في صنع القرار عاملاً مساهماً.
بينما سار رعد على طريق النضال – وهو مسار تم تحديده بالسياسة والأخلاق والانخراط في صراع بالتعاون مع الآخرين – انخرط في قضايا مختلفة ولكنها متداخلة. كان اهتمامه بالمسائل الاجتماعية واضحاً ولم يفصل أبداً القضايا السياسية والقومية عن الاهتمامات الاجتماعية. كما كرس قدراً كبيراً من الطاقة للقضايا المتعلقة بمناهضة الاستعمار، وكتب باستمرار وتحدث عن محنة الشعوب المضطهدة. بدافع من الانبهار والاحترام المستمر لكرامة الإنسان، انخرط رعد عن كثب في الحملات الاجتماعية التي غالباً ما جمعت بين عدد من الفئات المتباينة من اليسار. إن مشاركته في الحركة المناهضة للفصل العنصري (anti- Apartheid) والدعم الصريح لحقوق الشعوب الأصلية أمران مهمان ويشهدان على التزامه بالعدالة الاجتماعية والسياسية.
بشكل أساسي، لم يكن نشاط رعد شخصياً أو فردياً بطبيعته. وفي حين أكسبه تقديراً في أوساط واسعة، إلا أنه كان مدفوعاً، على نطاق أوسع، برغبته الشديدة في إخراج الحزب من العزلة السياسية وإقامة روابط خارج حدود السياسة المحلية. لم يتبع أجندة نشطة لذاتها أو من أجل تحسين وضعه السياسي الخاص. كانت الحكمة السائدة التي وجّهت نشاطه هي أن الرؤية القومية والاجتماعية للحزب فيها الكثير من البصيرة التي يمكن أن تقدمها حتى إنه سيكون من غير العدل كبح جماحها أو عزلها عن بقية العالم. يجب استغلال إمكاناتها أو تنميتها وعدم الاحتفاظ بها بسرية أو حجبها عن أولئك الذين يمكن أن يستفيدوا منها. اعتبر رعد أن المشاركة النشطة مع المجتمع الدولي والسياسة العالمية ليست ضرورية فحسب، بل أيضاً لا غنى عنها لتحقيق رؤية الحزب.
باختصار، كان رعد “ناشطاً متأصلاً” بكل معنى الكلمة. قادته طاقته وروحه التقدمية إلى جميع أنحاء العالم وأكسبتاه سمعة قوية كناشط يتمتع بثقة وموضوعية. ومع ذلك، على الرغم من اتساع وعمق نشاطه، وحتى أثناء محاولاته التنسيقَ بين التيارات السياسية، فلم يغب عن الحزب أبداً. ظل قومياً ملتزماً مقتنعاً بأن مستقبله يخدم القضية. وفي بعض الأحيان، جعله نشاطه يقترب بشكل خطير من انتهاك مباشر لمعتقداته، لكنه كان دائماً قادراً على العودة إلى قيم الحزب ومبادئه.
خلاصة
مسيرة إنعام رعد تُلخص حقبة كاملة من التاريخ. امتدت لعقود من الزمن، وكانت مضطربة ومليئة بتوقعات كبيرة وخيبات أمل كثيرة. كان رعد حاضراً في غمارها يشهد، ويشارك، ويحاول التأثير في مسارها. في هذه المسيرة، اكتسب اعترافاً واسعاً، وأصبح على دراية بكل ما له علاقة بالسياسة القومية والدولية تقريباً، ونال حب واحترام رفاقه وإعجاب أعدائه السياسيين على السواء. ورغم كل ذلك، كان كل هذا تافهاً مقارنةً بالإشباع الذاتي الذي حصل عليه رعد من خدمة الحزب والنهوض بقضيته. لا شيء آخر كان يهمه أكثر من رؤية الحزب ينجح.
لم يعش رعد في الحزب بل عاش الحزب فيه حرفياً. فقد كان خبزه وزبده اليومي. من اليوم الذي التحق بصفوفه عام 1946 حتى وفاته عام 1998، خدم قضيته بحماسة وتميز كبيرين. كان الذكاء والطاقة والخيال والتفاني التي أظهرها ملفتة للنظر. رفع رعد معايير القيادة الجيدة وخلق معايير جديدة ووضع سوابق جديدة للعمل الحزبي. لقد نجح ليس فقط في دفع حدود المشاركة السياسية إلى أماكن كانت مجهولة سابقاً، ولكن أيضاً في إعادة تأهيل صورة الحزب ووضعه على مسار جديد في الحياة.
لا يمكن وصف عمل رعد وإرثه بشكل كامل ومناسب في دراسة مقتضبة. مطلوب قراءة موسعة لحياته، لا تشمل فقط عمله السياسي ونظرياته عن الحزب ولكن أيضاً حملاته من أجل العدالة الاجتماعية والسياسية. باختصار، هناك وصفان ينطبقان على رعد: (1) كان رجلاً يتمتع بمواهب فكرية مميزة و(2) كان جندياً جيداً في الحزب.