(إن العلوم أربعة، أحدُها هو علم الموسيقى، وهو علم تأليف اللحون، وهذا العلم غذاءٌ للنفس ومطربٌ لها، وهو من شريف ما تركته المعرفة.. إن النغم والأغاني فضيلةٌ شريفة كانت تعذّرت عن المنطق، ليست في مقدرته، فلم يقدر على إخراجها، فأخرجتها النفس ألحاناً وسرَتْ بها وعشقتها وطربت لها).
هذا الكلام تحدث به “المسعودي” وهو في رحاب “سيف الدولة” في حلب.
وفي رحاب “سيف الدولة” كان هناك “الفارابي” العظيم وصاحب المؤلفات الموسيقية الهامة التي كتبها في حلب وهي:
– كتاب الموسيقى الكبير.
– كتاب الايقاعات.
– كلام في الموسيقى.
وفي رحاب “سيف الدولة” أيضاً كان هناك “أبو الفرج الأصفهاني” الذي استكمل كتابه (الأغاني) وأهداه إلى “سيف الدولة”، وهو أهم كتاب في تاريخ الأدب والغناء والموسيقى وأيام العرب وحياتهم الاجتماعية.
وإلى حلب رحلت فنون الطرب الأندلسي من موشّح وزجل، وإليها رحل الموّال من المشرق، فطوّرت ذلك كله وأعطته لونها وشخصيتها، حتى أصبح هناك: الموشّح الحلبي والقدود الحلبية والزجل الحلبي.. الخ.
وارتبط هذا كله بتطوّر الإنشاد الديني في الزوايا والتكايا الصوفية المنتشرة في المدينة، ومن أبرزها (الزاوية الهلالية) التي لا زالت تعمل منذ أكثر من خمسمائة سنة، ولا زالت تقام فيها الأذكار، وتخرّج المنشدين والمطربين والمؤلفين والعازفين وأعلام رقص السماح.
والفن لا ينشأ من الفراغ، إنه ابن البيئة الاجتماعية بكل ألوانها وتشعّباتها، ومدينة حلب مدينة التراث والحضارة والاستنارة والتسامح والحركة الاقتصادية الدائبة الناشطة. وهي مدينة اللقاء بين الحضارات والأعراق والطوائف التي انصهرت جميعاً في بوتقة المدينة، واتخذت شخصيتها وطابعها المتفرد المتميز.
*****
يأتي ارتباط فصل “اسق العطاش” بمدينة حلب من عدة نواح، أهمها:
1- البيئة الجغرافية لمدينة حلب، وهي مدينةٌ قليلة المياه وقليلة الأمطار. وطالما شهدت جفافاً ترك أثره السيء في حياة المدينة ومواسمها الزراعية.
وليس غريباً أن تلجأ المدينة وأبناؤها إلى كل الأساليب الممكنة لاستدرار الغيث وطلب الاستسقاء، معتمدةً في ذلك على الموروث الشعبي دينياً واجتماعياً.
2- إن فكرة الاستسقاء وطلب الغيث أمرٌ مألوف لدى أبناء المدينة، كما أنه أمرٌ مألوف في المدن العربية عموماً. وهو عملٌ يقوم به كل أبناء المدينة بشتى طوائفهم وطبقاتهم، يخرجون إلى ظاهر المدينة ويدعون الله أن يسقيهم الغيث ويرزقهم المطر الذي انحبس عنهم.
3- ربطت الذاكرة الشعبية بين البيئة الاجتماعية وبين التراث الفني، فوظّفت الفنّ في إطار العمل النفسيّ للتعبير عن مكنونات الفرد والمجتمع.
والاستسقاء أمرٌ وارد في الأدبيّات الدينية لدى أكثر الفقهاء، سواء أكان ذلك بالدعاء، أم بالصلاة طلباً للغيث ودفعاً للجدب، استناداً إلى الآية القرآنية الكريمة: {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} ]سورة نوح 10-12[.
وقد وردت حوادث الاستسقاء عن زمن الرسول والخلفاء، ويُروى دعاء عن الرسول: (اللهم اسقنا غياثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً غدقاً مغدقاً عاجلاً غير رائث). ودعاء آخر: (اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين).
ودعاء ثالث: (اللهم أنبت الزرع، وأدرّ لنا الضرع، واسقنا من بركات الأرض).
4- أصبحت عملية الاستسقاء أمراً شعبياً مألوفاً في سنوات القحط والجدب، ويُروى أنه في أواخر القرن الثامن عشر -قبل أكثر من مائتي سنة- حدث في مدينة حلب قحطٌ وجدب، وشحّت المياه وقلّت الامطار، فخرج الناس الى ظاهر المدينة ينشدون ويتضرعون ويستسقون، وهنا تختلف الروايات فيمن كتب كلمات فصل (اسْقِ العطاش) وفيمن وضع اللحن.
*****
تقول الرواية أن الشيخ “محمد المنبجي” -أحد شيوخ الموسيقى في عصره- هو الذي وضع كلمات النشيد في أوائلها وهي:
(يا ذا العطا يا ذا الوفا.. يا ذا الرضا يا ذا السخا
اسْقِ العطاش تكرُّما.. فالعقل طاش من الظما)
وتقول الرواية أن الشيخ “محمد المنبجي” كان ينشد ذلك مع تلاميذه وهم منطلقون خارج المدينة.
بينما يرى الشيخ “علي الدرويش” أن هذا الدعاء يعود إلى الشيخ “عبد الغني النابلسي” إمام المتصوفة في عصره، وقد خرج الناس إلى ظاهر المدينة يستسقون فافتقدوا الشيخ “النابلسي” فلم يجدوه، فأرسلوا إليه يطلبون حضوره فوجدوه يعلّم تلاميذه كلمات الدعاء الذي نظمه: (اسْقِ العطاش تكرما.. فالعقل طاش من الظما).
أما لحن الدعاء، فهو منسوب الى الشيخ “محمد الصيداوي”.
ومن الواضح أن الدعاء ازداد مع الأيام صقلاً، وأُضيفت إليه أبيات أخرى وألحان أخرى، واكتمل شكله خلال أكثر من مائتي سنة، حتى أصبح جزءاً من الذاكرة الشعبية في مدينة حلب.
وفي أواخر القرن الماضي قام الشيخ “محمد الوراق” أحد أركان الإنشاد والموسيقى في (الزاوية الهلالية) بتدوين هذا الفصل في شكله النهائي. وإلى الشيخ “الوراق” يعود الفضل في كثير من النصوص و الالحان التي دونها و حماها من النسيان والذوبان.
*****
يمتاز فصل (اسْقِ العطاش) ببساطةِ ألحانه وعمق تأثيره وسموِّ كلماته وخلوّها من التبذل. ويتألف الفصل من:
– قسم الدعاء
– قسم يتضمّن قصائد وتحميلات وموشحات ملحقة، يمتزج فيها الإنشاد الديني بالعمل الفني التقليدي.
ويستغرق الفصل نحو ساعتين إنشاداً.
أما من حيث الألحان، فإن بداية فصل (اسقِ العطاش):
– قطعة صامتة من نوع البشرف، من نغم حجاز نوى.
– تقاسيم ثم إنشاد تمهيديّ بين المحيّر والنوى، بتصرّف
– نغم (يا ذا العطا) على درجة الجهاركاه، وببطء.
– نغم (يا ذا الرضا) على درجة النوى.
– نغم (اسق العطاش تكرُّما) على درجة الحسيني.
إن فصل (اسْقِ العطاش) عملٌ صوفيّ فنيّ شعريّ اجتماعيّ متكامل، يندر أن تضمّ مدينةٌ مثله، وهو يمثّل ضمير مدينة حلب الصوفي والاجتماعي والأدبي والفني. وهو زادٌ إنساني كامل يتذوّقه كلُّ من سمعه، لأنه يحمل صفات الشمول الإنساني.
وتتألف الملحقات من قصائد وملحقات وموشحات من 21 قطعة، لا تُنْشد كلها في العمل الذي يؤديه الفنان “صباح فخري”، بل يُنشد بعضها.
أما كلمات الدعاء فتقول:
مولاي أجفاني جفاهنّ الكرى
والشوقُ لاعجُه بقلبي خيّما
مولاي لي عملٌ ولكن موجبٌ
لعقوبتي، فاحننْ عليَّ تكرّما
واجْلُ صدا قلبي بصفوِ محبةٍ
يا خيرَ مَن أعطى الجزاءَ وأنعَما
يا ذا العطا.. يا ذا الوفا
يا ذا الرضى.. يا ذا السخا
اسْقِ العطاشَ تكرُّما
فالعقلُ طاشَ من الظما
غِثِ اللهفان
وارْوِ الظمآن
واسقنا يا رحمان
من منهل الإحسان
غربا الأوطان
يا صاحب الوِرْدِ الذي
أحيا الحمى
املا لي الكاسات
يا ساقي الأجواد
وانعش مِن قد مات
ظمآن الأكباد
مضناكَ المأسور
العاني المهجور
العبدُ المكسور
كئيب الفؤاد أتى
غريب إليك أتى
يروم الوفا فمتى
هجرني فرحت من البعاد
أبكي من وجدي
وخلّى دمــوع العين
تجري على خـدّي
دموعي جرَتْ على الخدود
وحبّي بَلاني بالصدود
أترى زماني يعود
كامل المعاني
وأصِل نصيبي
واطفِ بالتداني
لوعتي التي بي
جُدْ لي يا سُؤْلي
شرِّفْ محلّي
ما هذا الجفا؟ وَفِّ نذورك
زُرْني يا قمر، وإلا أزورك
أنا ان غاب عني القمر
غابت نجيمات سعدي
أما ملحقات الدعاء فأبرزها:
– ملكتُم فؤادي في شرْع الهوى.. عليكم رقيب
– ومِن عجبي أن الصوارم والقنا.. تحيض بأيدي القوم وهي ذكور