منوعات

علاج تصلّب شرايين القلب بالطرق التّدخليّة :ثورة الروسور(الجزء الثاني)

كنا قد تكلمّنا سابقاً عن المراحل التي تمّ خلالها تطوير العلاج التدخّلي لأمراض القلب والشرايين، وشرحنا كيفية واهمية إنشاء غرف العناية القلبية المُشدّدة والادوية المُضادة للتخثر والادوية المسيّلة القوية التي تُذيب الجلطة داخل الشرايين،  مروراً بالبدء بعمليات التمييل او القسطرة القلبية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ما ساهم بشكلٍ  كبير في تطوير عمليات تشخيص مرض تصلّب الشرايين التاجية للقلب ، الى إن وصلنا الى مرحلة تطوير الطُرق العلاجية التي قلنا انه يمكن تلخيصها بأربع حقبات او ثورات متتالية ،وهي على الشكل التالي بالتسلسل التاريخي الدقيق:

ا-الثورة الأولى( 1977-1986): تطور علاج أمراض القلب والشرايين بالبالون      ( angioplasty Balloon):
    يعود الفضل في تطوير عملية توسيع الشرايين بالبالون إلى طبيب سويسري شهير  من أصل نمساوي اسمهAndreas Gruntzig والذي قام في سنة 1977 بأول عملية توسيع لشرايين القلب التاجية بالبالون ، وطوّر بشكل واسع جميع الأدوات التي تستعمل حتى اليوم في هذه التقنية بعد أن هاجر الى الولايات المتحدة الأميركية ،حيث اعتبر الأب الروحي لهذه التقنيات وعلّم الأطباء الأميركيين هذه التقنية التي لا تزال في تطور مستمر منذ ذلك الوقت. وقد عمل مهندسو وخبراء الشركات الطبية المتخصصة  وبتعاون وثيق مع الأطباء على تطوير هذه التقنية وإيجاد وسائل قادرة على توسيع معظم تضيقـات الشرايين تقريباً مهما كانت درجة صعوبتها . وقد تطورت عمليات توسيع الشرايين بالبالون بشكل مهم في تلك الفترة ونافست بشكل كبير العمليات الجراحية ( القلب المفتوح ) بسبب سهولتها وقدرتها على علاج معظم الحالات المرضية. ولكن المشكلة الاساسية لعمليات توسيع الشرايين بالبالون كانت كما ذكرنا ،في معاودة الانسداد التي تم دراستها ومحاولة مكافحتها من خلال أكثر من سبعين دراسة شارك فيها حوالي خمسين الف مريض ،وتم خلالها اختبار عدة أدوية ومواد مضادة لتكاثر الخلايا والالتهابات ومعدلات المناعة ومضادات التخثر وغيرها،من دون منفعة كبيرة في كل تلك الدراسات. وقد حاول أطباء القلب أيضاً معالجة هذه المعضلة بتقنيات أخرى مختلفة تعمل على تذويب او  تفتيت الكتل الدهنية او استخراجها ،او على منع تكاثر الخلايا الموجودة في منطقة الانسداد مثل تقنيات الليزر والاشعاعات والترددات الصوتية وغيرها (Directional atherectomy Transluminal  extraction atherectomy, Laser, Brachytherapy, Rotational atherectomy, Therapeutic ultrasound….). ولكن كل هذه التقنيات  لم تلق ايضا نجاحاً كبيرا وسقطت فيما بعد ولم يبق لها مكان سوى في بعض الحالات الخاصة وفي مجال الأبحاث، الى ان تم في نهاية تلك المرحلة اكتشاف الروسورات والذي شكل ثورة حقيقية في هذا المضمار.

ب- الثورة الثانية(1986-2001): اكتشاف الروسور ( Stent ) كان من أهم الوسائل التي ساعدت في منع معاودة انسداد الشرايين :
    لاحظ أطباء القلب تدريجياً أن عمليات البالون لها عوارض جانبية مثل  إمكانية حدوث تمزق في جدار الشريان قد يؤدي أحياناً إلى انسداده جزئياً أو كلياً ،وأن المنطقة الموسعة بالبالون يمكن أن تكون عرضة لتكاثر غير طبيعي للخلايا العضلية وخلايا متنوعة أخرى موجودة في جدار الشريان، مما يؤدي إلى معاودة الانسداد بنسبة تتراوح بين 30% إلى 50% خلال الأشهر الستة التي تلي عملية التوسيع ، فعمد الباحثون إلى تطوير تقنيات جديدة لمعالجة هاتين المشكلتين وحدث ذلك لأول مرة سنة 1986 على يد طبيب فرنسي مشهور يدعى (Jacques Puel) الذي وضع جسرا" معدنيا" بشكل روسور  أو لولب في المنطقة التي تم توسيعها بالبالون، وقد كانت تجربته ناجحة نسبيا في ذلك الوقت ما كان يسمح بتدعيم جدار الشريان ومنعه من الاطباق السريع بعد التوسيع ،ويحد ايضا من امكانية معاودة الانسداد عن طريق منع تكاثر الخلايا في تلك المنطقة من الشريان.
ومنذ ذلك الوقت توالت الاكتشافات وطور الأخصائيون بمساعدة تقنيات الليزر أشكالا هندسية مختلفة ومتنوعة من الروسورات أدخلوا فيها معادن مختلفة: (Stainless steel, Cobalt Chromium, Platinium, Nitinol)، وتبين نتيجة أبحاث واسعة أن هذا الاختراع لعب دوراً كبيراً في تخفيف العوارض الجانبية لعملية توسيع الشرايين ،وخفّض بشكل كبير إمكان معاودة التضييق  الى نسب تتراوح بين 10% إلى 20% حسب الدراسات المتعددة التي اجريت في تلك الفترة. وقد أصبحت هذه القطع المعدنية منذ ذلك التاريخ ،وتحديدا منذ سنة 1988 ،الخبز اليومي لأطباء القلب المختصين في عمليات توسيع الشرايين، حيث يقوم الاطباء حاليا بوضع الروسور في حوالي 95% من الحالات، وذلك توخياً للفوائد الكبيرة لهذه التقنية ،واصبح استعمال الروسور شبه الزامي في كل الحالات التي من الممكن فيها تمريره الى مكان الانسداد لان وجود الكلس او الاعوجاجات في الشرايين قد يمنع تقدم الروسور في بعض الحالات.

ج-الثورة الثالثة:(2001-2010): -تطوير الروسورات المطلية بالدواء أو ما يعرف بالروسورات الذكية (Drug eluting stent or Coated stent):
عمل أطباء القلب في هذه الفترة على تطوير أسلحتهم الذكية ،وقد عمدوا الى استعمال أدوية مختلفة شملت عدة عوائل من الادوية التي ضمّت مضادات حيوية، مضادات للالتهابات و معدّلات للمناعة     (  Interferon, M-Prednisolone, Cyclosporine, Tacrolimus, Transilat, Dexamthazone,)، أدوية تستعمل في علاج السرطانات(Sirolimus, Biolimus, Everolimus, Zotarolimus, Novolimus, Myolimus,  Methothrexate, Vincristine,)، ومواد أخرى مشجعة  او مسرعة لالتحام جدار الشريان وتغطيته بواسطة الخلايا الجدارية ومواد أخرى لمنع هجرة الخلايا  (Paclitaxel, Batimastat, Probucol VEGF, NO donors Estradiol,  ) وأدخلوها في المعدن المكون للروسور حيث يقوم الروسور باداء دوره المطلوب منه كالعادة ،ويتسرب الدواء الموجود على غلاف الروسور الى جدار الشريان في المنطقة التي تم توسيعها ،ويقوم بدوره بمنع الالتهابات او منع تكاثر الخلايا وهجرتها او منع تخثر الدم في هذه المنطقة ،ما يزيد من فعالية الروسور في مكافحة عوامل معاودة الانسداد ويحد منها. وبفضل هذه الروسورات الذكية هبطت نسبة معاودة الانسداد الى معدلات تتراوح فقط بين %0 الى 5%.
    وفي ما بعد، اجريت دراسات اخرى اكدت انه يمكن استعمال هذه الروسورات الذكية بشكل فعال عند توسيع الشريان الأمامي للقلب ،خاصة في منطقته القريبة من الشريان الأبهر وعند المرضى الذين يعانون من معاودة انسداد داخل أحد الروسورات العادية التي استعملت عنده من قبل وعند المرضى المصابين بمرض السكري وفي الانسدادات الطويلة والمعقدة. لكن المشكلة الأساسية المحدودة  التي لا تزال تواجهنا حتى اليوم هي الكلفة المرتفعة لهذه الروسورات بحيث يبلغ سعر القطعة الواحدة منها حوالي 1400 الى 1600  دولار أمريكي ،ولكن هنا نشير ايضا الى ان الجهات الضامنة في لبنان اصبحت ومنذ فترة طويلة  تعترف بهذه الروسورات وتغطي كلفتها ما سهل كثيرا استعمالها على نطاق واسع في لبنان حيث يستعمل منها سنويا حوالي 12000 الى 15000 قطعة ،وهنالك شركات عالمية كبرى تتنافس على تقاسم السوق في لبنان وتقوم بتنظيم ورش العمل وتساعد الاطباء على حضور المؤتمرات العالمية التي تناقش فيها كل الامور المتعلقة بهذه التقنيات وغيرها.
ومع مطلع عام 2019 يمكننا القول أنّ كل المرضى تقريبا في لبنان وفي الدول المتقدمة ،يستفيدون من هذه الروسورات ولم يبق سوى القلة القليلة من المرضى الذين نستعمل عندهم الروسورات العادية غير المطلية بالدواء(المرضى اللبنانيون الفقراء جدا,النازحون السوريون,بعض اللاجئين الفلسطينيين الذين لا يستطيعون تأمين تغطية كاملة لكلفة العملية عبر الأنروا.)

د-الثورة الرابعة ( من 2010 حتى تاريخ اليوم):
وهي المرحلة التي حاول فيها أطباء القلب استعمال الروسورات البيولوجية او المتآكلة حيويا، أي أنها مكوّنة من مواد غير معدنية تذوب تدريجيا بعد زرعها داخل الشرايين (Bioresorbable Stent):
لاحظ أطباء القلب أن استعمال المعادن في تركيب الروسورات من الجيل الاول والثاني كان السبب في حدوث بعض المشاكل الجانبية اللاحقة بسبب  امكانية حدوث ما يسمى بالانسداد المفاجئ المتاخر في الشريان الذي يوجد فيه هذا النوع من الروسورات  المعدنية، وذلك بعد مرور سنتين أو ثلاثة على تركيبه داخل الشريان ،وأن هناك امكانية لأن يكون المعدن غير مغطى كلياً بخلايا جدارية شريانية وأنه توجد بعض بؤر الالتهابات في بعض الأماكن التي توجد فيها  هذه الروسورات ،ما يعرض المريض أيضاً لمشاكل ثانوية أخرى لاحقة. هذا بالاضافة الى أن وظيفة الشريان الذي يوجد فيه روسور معدني لا تكون طبيعية من ناحية تأثره بعوامل الارتخاء او الانقباض .لذلك عمد اطباء القلب والخبراء العاملون في هذا المجال  الى تطوير نوع ثوري وجديد من الروسورات البيولوجية التي تؤدي وظيفة الروسور العادي المعدني من حيث تدعيمها لجدار الشريان الذي قد يتمزق في بعض الاحيان بعد عمليات البالون. و لكن هذه الروسورات الحيوية المكونة من مواد بيولوجية تتآكل وتذوب تدريجياً بعد تركيبها ابتداء من  4 ال 6 اشهر من تاريخ استعمالها الى ان تختفي كليا بعد مرور سنتين من اجراء العملية بحيث لا يبقى لها أي أثر في داخل الشريان، وتكون قد أنجزت ما أطلق عليه الأطباء مصطلح التقنيات الترميمية والتصليحية للشرايين Vascular reparative therapy .وقد استحق هذا الانجاز أن يطلق عليه اسم الثورة الرابعة لأن هذا الروسور يقوم بعمله ويختفي كليا من جدار الشريان مما يسمح للمريض أن يتم علاجه بكل التقنيات المتوفرة في الوقت الحاضر ،بما فيها الجراحة فيما بعد وأن يعود الشريان الى حالته الطبيعية حيث يعود ليتأثر كما في السابق بعوامل الانقباض والارتخاء وأخيرا يسمح هذا الانجاز باستعمال كل تقنيات التصوير الطبقي المحوري والرنين المغناطيسي، دون أي عائق عند المريض .وأخيرا  يمكن القول انه نظريا لا يعرض هذا النوع من الروسورات المريض لحالات الانسداد المفاجئ المتأخر التي قد نراها مع الروسورات المعدنية. وهذا ما قد يسمح في المستقبل القريب في تخفيف العلاجات وخاصة تقصير فترة العلاج بالادوية المضادة للتخثر.
وقد تم حتى تاريخ اليوم  تطوير اكثر من 15  نوعا مختلفا من هذه الروسورات البيولوجية التي أدخلت في تركيبتها مواد بيولوجية مختلفة (Poly-L- Lactic Acid, Magnesium, Poly-Tyrosine, Polymer Salicylate, Adipic Acid + Salicylate)   ومنها انواع مطلية بادوية فعالة في محاربة معاودة الانسداد مثل مادة   (Everolimus)وقد اختبرت جميعها عند الحيوان واستعمل بعضها عند الانسان حيث جرى تطوير فعاليتها خلال الثلاث سنوات الماضية ،وتم التسويق العالمي لنوع منها يدعى (Absorb stent ) من قبل شركة Abbott في شهر أيلول 2012 وقد استعمل منه عند المرضى  آلاف القطع في مختلف انحاء العالم  وفي لبنان .لكن الشركة التي سوّقت لهذا الروسور تحديدا اضطرت منذ حوالي سنة الى سحبه كليا من الأسواق في كل دول العالم لأنّ أطباء القلب لاحظوا وبعكس المتوقع حالات وفيات مفاجئة ناتجة عن ذبحات قلبية سببها انسداد مفاجئ للشريان الذي زرع في هكذا نوع من الروسورات، وذلك بعد مرور سنتين الى ثلاث سنوات من زرع هكذا دعامات.
لكنّ الخبراء لم يقطعوا الأمل بعد بأن يحلوا هذه المعضلة .وقد سوّقت شركة Biosensors روسور  مكونا من مادة الماغنيزيوم تحت اسم Magmaris والذي بدأ استعماله في مختلف دول العالم وفي لبنان منذ حوالي السنة.وتعتبر النتائج الأولية التي ظهرت حتى اليوم مع استعمال هذا الروسور مبشرة وايجابية ما دفع شركات اخرى  منها شركة (Abbott) التي سوّقت الروسور البيولوجي الاول في العالم الى الاستمرار في البحث عن الروسور البيولوجي المثالي الذي يذوب بسرعة اكثر ولا يترك بؤر التهابات في جدار الشرايين ما قد يعرض المريض لمخاطر الانسداد المفاجئ والذبحة القلبية المفاجئة.
في المقابل وبعد الفشل النسبي لهذا النوع من الدعامات استمر الخبراء في تطوير دعامات مطلية بالدواء من الجيل الثالث وهي خالية كليا او عليها جزئيا طبقة خفيفة من الطلاء  Polymer،ما يمنع حدوث ردة فعل سلبية في جدار الشريان عند زرع الروسور ما يتسبب بحدوث التهابات موضعية في هذا الجدار ويتسبب بالتالي بحدوث انسدادات مفاجئة ناتجة عن تخثّر الدم على تلك البؤر الملتهبة.وقد شكّل تطوير هذه الدعامات من الجيل الثالث ثورة مهمة أخرى في علاج مرض تصلب شرايين القلب، لان هذا الجيل من الدعامات يسمح بايقاف الادوية المضادة للتخثر خلال فترات قصيرة ،قد تتراوح بين شهر الى ثلاثة اشهر حسب نوع الروسور المستعمل .وهذا ما قد يسمح لأطباء القلب بتخفيف جذري لحالات النزيف التي قد نشاهدها عند الاستعمال المطوّل للادوية المضادة للتخثر.
* طبيب قلب تدخلي 


 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى