سياسةمحليات لبنانية

رسالة من أستاذ جامعي إلى الرئيس إيمانويل ماكرون: لماذا؟

 


د.طارق عبود – الحوارنيوز

سيادة رئيس الجمهورية الفرنسية الموقر،
‎ بعد التحية والسلام، أتمنى أن تصلكم هذه الرسالة وأنتم في رخاءٍ وعافية.
‎استهلالًا، نقدّر لكم عاليًا عاطفتكم اتجاه لبنان واللبنانيين المنكوبين في يومياتهم، وفي صباحاتهم وأمسياتهم، في معيشتهم، ومعاشاتهم، في أمنهم، وأمانهم، وفي حاضرهم، وفي مستقبل أبنائهم.

‎سيادة الرئيس

‎    أعلم أنّ سيادتكم قد وصلتم إلى الإليزيه من خلفية أكاديمية علميّة، والذي يخاطب فخامتكم في هذه الرسالة، هو أستاذ جامعي أيضًا يدرّس في الجامعة الوطنية اللبنانية، وباحث في شؤون مآسينا السياسية في لبنان وفي المنطقة. لذا سأحاول أن يكون الكلام صريحًا وواضحًا، وأتمنى أن يسهم ذلك في توضيح الحقائق والوقائع.

‎سيادة الرئيس

‎ ليس تفصيلًا أن يلقى فخامتكم، وهو رئيس لدولة أجنبية، هذا الترحيب الحار والصادق من مجموعة كبيرة من اللبنانيين الذين طالبك جزءٌ منهم بإعادة الانتداب على لبنان، ولكنّ مجموعة كبيرة صامتة أيضًا تتمنى في نفسها أي انتداب أو وصاية، وليس فرنسا بالتحديد، للتخلص من اللصوص في الطبقات السياسية والاقتصادية والمالية وحتى الإدارية، لأنّك صرتَ على علم أنّ اللبنانيين وصلوا إلى مرحلة اليأس من كل شيء، ويرغبون في الحياة بكرامة كبقية شعوب العالم.

‎سيادة الرئيس

‎  لقد استبشر اللبنانيون خيرًا في زيارتكم الأخيرة، وفي الضغط الذي مارسْتُهُ على الطبقة السياسية لتشكيل حكومة سريعًا، ولإجراء الإصلاحات المطلوبة، ما يؤدي إلى تفادي لبنان الانهيار الكامل، وهدّدتهم في مصالحهم، ولكنّ معظم اللبنانيين يأملون منكم المضي في إصلاحات حقيقيّة، وليست شكلية أو ظرفية أو مصلحية، تماشيًا مع مصلحة الدولة الفرنسية ورؤيتها. مع علم اللبنانيين أيضًا أن لا مكان للعواطف في السياسة والعلاقات الدولية، ويدركون أيضًا حساسية الأوضاع في شرق المتوسط، والصراع على النفط والغاز في مياهه الجميلة، والرغبة الفرنسية في حجز أحد الموانئ الأكثر أهمية على الحوض الشرقي في إطار الصراع على الموانئ ومصادر الطاقة في الأزرق الكبير، وفي العالم. إضافة إلى قطع الطريق على الصين وروسيا وإيران من أي استثمار في لبنان، أو في بناء علاقات اقتصادية وسياسية قوية مع اللبنانيين وليس مع الحكّام، وبالتالي، نتفهّم خوفكم من تغيير وجه لبنان الاقتصادي والثقافي، والخوف من الحضور التركي المتنامي في بلاد الأرز، وهو ما قلتَه حرفيًا فخامة الرئيس قبل زيارتك الثانية إلى لبنان، عندما حذّرتَ من اندلاع حرب أهلية جديدة إذا ما تخلّت فرنسا عن لبنان، وتركته بأيدي القوى الإقليمية، ما سيؤدي إلى فقدان هوية لبنان، أي الهوية الغربية، كما يحلو لكثير منّا الوصف. ونعلم أيضًا خوفكم من هجرة جماعية إلى فرنسا، وعدم رغبتكم في رؤية المجموعات اللبنانية المؤلّفة تحتسي القهوة في سان دونيه، أو على ضفاف نهر السّين. ونحن نعلم وإياكم أنّ الدولة الفرنسية تحاول حجز مكانٍ لها في المنطقة، بعد تراجع نفوذ الولايات المتحدة الأميركية، وارتخاء قبضتها، وتحوّلها من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى. وأنّكم تتحركون من أجل إيجاد بيئة هادئة للاستثمار في النفط والغاز في المتوسط، بعدما تسرّب كثير من الكلام عن منع شركة توتال من إكمال عملها في المياه اللبنانية.

‎ولكن يا فخامة الرئيس

‎ اللبنانيون يريدون منكم – طالما أخذتم القرار في التدخل العلني بهذ الشكل- أن تكونوا إلى جانبهم، وليس إلى جانب الطبقة السياسية والمالية والمصرفية، ولديهم خوف – وهذا حقهم- من أن تشكّلوا حماية لورثة هذه الطبقة، بسبب احتراق ورقة الآباء، وبالتالي الحفاظ على عقاراتهم ومصالحهم وأصولهم المالية، وعلى النموذج الاقتصادي الذي يحمي طبقة المحتكرين والمستفيدين، والذي أدّى إلى هذه المقتلة الاقتصادية الرهيبة، وخوف الناس وحذرهم أيضًا ألّا يستفيد عامّتُهم من "الإصلاح الفرنسي الموعود" والغامض، بمعنى أنّ البلد ومقدراته سيبقى محميّةً للمجموعة ذاتها وورثتها لعقود طويلة، طالما لم تتغيّر المقاربة الاقتصادية، ولم نصبح دولةً منتجة وصناعية كفرنسا مثلًا.

‎فخامة الرئيس

‎ أنتم تعلمون ونحن أيضًا، أنّ الفرنسيين لهم إسهام كبير في استدامة هذا الفساد وتجذّره وتقوية بنيته وحمايتها. والإدارات الفرنسية المتعاقبة كانت تدرك حجم السرقات التي حصلت في البلد على مدى ثلاثين عامًا على الأقل، ومع ذلك استمرّوا في الدعوة إلى مؤتمرات دولية في فرنسا، كباريس واحد وإثنين وثلاثة، ومن ثم أخيرًا مؤتمر سيدر أو باريس أربعة، ليستدرجوا مساعدات وديونًا على لبنان بمليارات الدولارات، وهم يعلمون كل تفصيل في الإدارة اللبنانية، وأنّ جلّ هذه الأموال ذهبت إلى جيوب المنتفعين وسماسرة الدولة اللبنانية، ولم يحرّكوا ساكنًا أو ملفًا لإيقاف هذه المجزرة بحق اللبنانيين.
‎فخامة الرئيس، أتمنى أن يكون صدرُكَ رحبًا، وأنتم في الغرب معتادون على النقد، وأعلم ألّا أحد يؤلّهكم، أو يعصمكم عن الخطأ، كما في بلادنا، فاسمح لي أن أدخل في صلب الموضوع. فإذا كنتم وحلفاءكم في الغرب حريصين على لبنان واللبنانيين حقيقةً، وليس على مجموعة من السياسيين والاقتصاديين المرتبطين بهذا الغرب الذين تضاربت مصالحه معهم في هذا الظرف؛ فلماذا لا تُجبرون من هرّبوا أموالهم إلى الخارج كي يعيدوها إلى لبنان، أو يخضعوها للمحاسبة والتدقيق والتحقيق، وأنتم من المهتمين بسيادة معايير الشفافية الدولية، وفي مكافحة تبييض الأموال، أو سرقة الشعوب والدول ونهبها، واللبنانيون عندها لن يحتاجوا إلى بضعة مليارات من صندوق النقد الدولي وشروطه المأساوية أو من غيره، لأنّ أكثر من عشرين مليار دولار هُرّبت إلى الخارج منذ بداية العام ٢٠١٩ إلى شباط ٢٠٢٠ ، وهي كفيلة بإنقاذ الاقتصاد اللبناني وووقوفه على قدميه. عدا عن عشرات المليارات التي نَهَبَها سياسيون ومصرفيون معروفون في الأرض وفي السماء، وأصبحوا يشكّلون أرقامًا صعبة في العقارات والقصور والشقق واليخوت، وفي العملة الصعبة، بعدما كانوا أرقامًا عادية. وثمة سؤال أيضًا، وهو هل أنّ الفرنسيين لم يعلموا أنّ السياسيين اللبنانيين أهدروا أكثر من ستين مليار دولار على قطاع الكهرباء منذ العام ١٩٩٢، ولماذا لم يفرضوا عليهم أو يلزموهم ببناء معامل للكهرباء، وإلا تهديدهم بوقف المساعدات والقروض؟ ولماذا لم يرفع الفرنسيون صوتهم، لينبّهوا- فقط ينبّهوا- الحكومات المتعاقبة أيضًا منذ العام ٢٠٠٥ حتى العام ٢٠١٧ إلى ضرورة وجود موازنة يوافق عليها المجلس النيابي،ومن الخطورة بمكان أن تبقى دولةٌ عصرية في القرن الحادي والعشرين أكثر من اثني عشر عامًا من دون موازنة. وبالمناسبة هي الفترة نفسها التي كان في جزء منها مسؤول المخابرات الفرنسية اليوم برنارد إيميه سفيرًا للدولة الفرنسية في لبنان حينها. وأين كان الفرنسيون من الهندسات المالية لحاكم البنك المركزي وسياساته النقدية؟ وهل كنتم ترضون بذلك لو كان حاكمًا للبنك المركزي الفرنسي.    

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى