خليل الوزير(أبوجهاد) في ذكراه : أول الرصاص.. أول الحجارة(محمد صادق الحسيني)
كتب محمد صادق الحسيني
سُمّي بالرجل الثاني للثورة الفلسطينية ونائب القائد العام لقوات العاصفة ، و”جياب” الثورة الفلسطينية لشدة شباهته ب”جياب فيتنام” ، لكننا كماعرفناه في اللحظات الاستثنائية على امتداد سنوات العمل الفدائي، فهو الرجل الطاهر وقاهر الجنرالات.. كلل وملل واحباط ويأس وقنوط…!
الرجل المهذب والمؤدب والخجول الذي يعتني بهندامه ويحرص على تسريح شعره حتى وهو ذاهب الى معسكر التدريب ،واهدأ رجال الثورة على الاطلاق واكثرها وداعة ووسامة وخُلُقاً في كل ايام السنة ،حتى لتظنه ابعد ما يكون عن الحرب والسلاح …!
لكنه هو نفسه صاحب الروح العاصفة التي تنتفض من داخله وسرعان ما يظهر لك بركانا ثائرا يمتلأ دفعاً وعنفواناً وروحاً حربية لا تهدأ ولا تكل ولا تمل بعد ثوان من جلوسك اليه..
شخصيته الهادئة هذه لا تقوى على السكينة بعد دقائق من الحوار معه ،اذ سرعان ما يشي لك بان كل كيانه يحن للاشتباك مع العدو كما يحن الطفل لحليب أمه ، وتدفعه المشاعر الجياشة للانتقال الى فلسطين المستولية على وجوده أساً كان المكان او الزمان الذي تواجد فيهما، وهو الذي تنقل في كل الساحات حاملاً هموم شعب الجبارين الحافلة بالمفاجآت والمتغيرات…!
وقد تكثفت كل هذه السمات لدى قائد الفدائيين الشعبي الذي لم يستقر له قرار ، بطريقة حولته عملياً الى غرفة عمليات متنقلة ومتحركة خاصة بعد ان تسلم مسؤولية القطاع الغربي – اي فلسطين المحتله – وهي التسمية التي تعود الى حقبة تواجد الفدائيين الفلسطينيين في الاردن ، حيث كانت الجبهة مع العدو مقسمةً الى ثلاثة قواطع هي : القطاع الشمالي والقطاع الاوسط والقطاع الجنوبي .
فمن المعروف ان الشهيد “ابو جهاد” كان قد عكف منذ توليه هذه المسؤوليه خلفاً لكمال عدوان ، على إحداث انقلاب استراتيجي في مفهوم الحرب الشعبيه طويلة الامد وتطويرها وتعميقها ، وهي الحرب التي كانت تمارسها قوات الثوره الفلسطينيه ، منذ انطلاق الثوره بتاريخ ١/١/١٩٦٥ .
وقد تمثلت الفكرة المركزيه ، لديه ، في تطوير هذا المفهوم ، في ايجاد او بناء القاعده الجماهيريه القادره على تحويل هذه الفكرة(فكرة الانقلاب الاستراتيجي) الى خطوات عملية تتبلور في كل انسان فلسطيني ، بحيث تتحول شخصية الواحد من السكان الى قوة فاعلة في مواجهة العدو واضعاف سيطرة الغاصب والمحتل العسكرية على الارض التي يحتلها ، من خلال استنزافه الدائم في معركة لا يمكن له ان ينتصر فيها حتى صارت عقيدة عمله الكفاحية الفدائية تقول : أنا الفلسطيني.. اشتبك اذن ان موجود !
بدأ ابو جهاد باعادة هيكلة تنظيم حركة “فتح” وانشاء أطر جديده لهذا التنظيم ، كحركة الشبيبة ( الفتحاويه ) ، التي بدأت تنشط في الثانويات والجامعات داخل الارض المحتله ، تمهيداً لاشراك كل جماهير الشعب الفلسطيني في الارض المحتله في استنزاف جيش العدو ومشاغلته والمشاغبة عليه في كل وقت وحين .
وبالتوازي مع بناء التنظيم والخلايا الفدائيه المسلحة ، داخل فلسطين المحتله ، واصل الجنرال ابو جهاد من موقعه كنائب القائد العام لقوات الثوره الفلسطينيه ، الى بناء وتطوير الوحدات القتالية الفدائيه القادره على اختراق اجراءات العدو الامنيه والوصول الى عمق تشكيلات العدو وبنيانه وتنفيذ عمليات فدائية كبرى ضد قواته ومنشآته في فلسطين المحتلة .
ولعل من المفيد في ذكرى استشهاده الثالثة والثلاثين ١٦-٤- ١٩٨٨ الاضاءة على بعض تلك العمليات الفدائيه الكبيرة ، التي شكلت ضربات موجعةً جداً للعدو والتي قلبت معادلة الصراع معه ، ومن بينها العمليات التالية :
١)عملية فندق سافوي في تل ابيب ، والتي نفذتها قوة فدائيه ، قوامها ثمانية فدائيين ، بتاريخ ٦/٣/١٩٧٥ ، حيث سيطرت على الفندق ، بعد ان لم تتمكن من الوصول الى وزارة الدفاع الاسرائيليه والسيطرة عليها ، حسب الخطه الاساسيه للعمليه . حضر الى مكان العمليه كل من رئيس وزراء العدو آنذاك ، اسحق رابين ، ووزير حربه ، شمعون بيرس ، ورئيس اركان جيشه ، الجنرال مردخاي غور ، وقاموا بالاشراف شخصياً على محاولات القوات الخاصة الاسرائيليه لاقتحام الفندق وقتل الفدائيين الفلسطينيين ، حيث حاولت هذه القوات مرة اولى وثانية وفشلت فيهما ، ما جعلها تقوم بقصف الفندق بمدفعية الدبابات وتنفيذ عملية انزال قوات محمولة على سطح الفندق والاشتباك من جديد مع المجموعه الفدائيه ، التي قاتلت ببسالة حتى نفاذ ذخيرتها ، واستشهاد سبعة من افرادها ووقع الثامن أسيراً بعد اصابته بجراح ،في ما قتل من قوات العدو المهاجمه ٥٦ عنصرا واصيب ما يربو عل ١٠٠جندي بجراح مختلفه ،بينهم العقيد عوزي يائيري، ضابط الاستخبارات العسكريهالاسرائيليه، الذي وضع خطة اغتيال القاده الفلسطينيين الثلاثه،كمال عدوان وابو يوسف النجار وكمال ناصر في بيروتبتاريخ ١٠/٤/١٩٧٣، والذي شارك في تنفيذ العمليه على الارضايضاً.
٢)عملية الساحل ، بقيادة الفدائيه دلال المغربي ، والتي تم تنفيذها بتاريخ ١١/٣/١٩٧٨ واطلق عليها اسم : عملية الشهيد كمال عدوان ، حيث وصلت تلك القوه الى السواحل الفلسطينيه ، على متن باخرة تجارية كانت تحمل الزوارق المطاطيه التي استخدمها الفدائيون في الوصول من نقطة انفصالهم عن الباخرة الام حتى وصولهم الى ارض فلسطين ، شمال تل ابيب ، وقيامهم بالسيطرة على عدة حافلات عسكريه اسرائيليه واشتبكوا مع دوريات العدو ، التي بدأت مطاردتهم فوراً ، الى ان وصلت الحافلات الى منطقة هرتسيليا حيث قامت قوات خاصه اسرائيليه بالهجوم من الجو والبر على الحافلات الاجاب كان يستقلها الفدائيون مع الرهائن الصهاينة .
وقد اشتبك الفدائيون الفلسطينيون ، لمدة تزيد على الساعتين ، مع القوات الخاصه والمروحيات العسكرية الاسرائيليه ، التي كانت تساند وحدات العدو ، وتطلق النار من الجو على الفدائيين ، الذين استشهدوا جميعاً باستثناء واحد منهم وقع في الاسر بعد ان نفذت ذخيرته . اما خسائر العدو فقد وصلت الى ٧٩ قتيلاً بالاضافة الى ما يزيد على ١٢٣ جريحًا جرى اخلاؤهم جواً من ارض المعركة .
علماً ان الجيش الصهيوني قد بدأ بعمليات التمهيد الناري، لشن هجوم، واسع على قواعد الفدائيين في جنوب لبنان،اذ عمدت مدفعية العدو إلى فتح نيرانها على طول الحدود اللبناني مع فلسطين المحتله، بينما بدأ الطيران الحربي المعادي، عند الساعه الواحدة من فجر ١٥-٣-١٩٧٨ بتنفيذ غارات جوية
كثيفة على اهداف للقوات المشتركه، اللبنانية الفلسطينية، في جنوب لبنان وجنوب العاصمه بيروت، واتبع ذلك بعمليات انزال جوي في منطقةالعزيه/قضاء صور…. وبدأ اجتياحه البري لجنوب لبنان في عملية عسكرية واسعة النطاق اسماها العدو:عملية الليطاني.
ولا يخفى على احد طبعاً ان العملية كان مخططا لها مسبقاً وبانتظارالتنفيذ فقط ، اذ لا يعقل ان يجري التخطيط لعملية
عسكرية واسعة النطاق وتحريك قوات برية وبحريه وجويه كبيره خلال ثلاثة ايام فقط.
٣)محاولة الهجوم البحري على ميناء ايلات سنة ١٩٨٥ . وهي عملية تم خلالها تجهيز باخرة ، في ميناء من موانئ احدى الدول العربيه ، لتنفيذ عملية بحرية لتدمير ميناء ايلات عن بكرة ابيه واخراجه من الخدمة لسنوات طويله ،حيث تم تدريب مجموعه من الضفادع البشرية الفلسطينيه على قيادة السفينه ثم تم تحميلها بمئات الاطنان من المواد المتفجره ، وذلك كي يتم تفجيرها عند دخول الباخرة الى الميناء ،بالتزامن مع قصف صاروخي ، بمائة وستين صاروخ غراد ، لمنطقة الميناء ، كان يفترض ان ينفذ من منطقة العقبه الاردنيه المقابله لايلات .
لكن تآمر جهاز مخابرات احدى الدول العربيه ، المشاطئه لخليج ايلات ، ورصدها للسفينة المسلحه ونقل معلومات حولها للعدو ، قد افشل العمليه ، حيث بادر العدو الى مهاجمة السفينة على مدخل خليج العقبة واشتبكت معه المجموعه الفدائيه لحوالي الساعه والنصف . وقد اسفرت العمليه عن استشهاد المجموعه الفدائيه المكونه من تسعة مقاتلين وايقاع عدد من القتلى والجرحى بين جنود العدو .
٤)اما كبرى ثمار جهود الشهيد ابو جهاد المتواصله لاحداث انقلاب استراتيجي ، في المواجهة مع العدو الصهيوني ، فقد نضجت في شهر ١٢/١٩٨٧ ، عندما انفجرت الانتفاضه الشعبيه الفلسطينيه ، التي شاركت فيها جماهير الشعب بكل فئاتها وفي كل المناطق المحتله ، في الضفة والقطاع وحتى تلك المحتله عام ١٩٤٨ والتي خلدت في التاريخ باسم انتفاضة الحجارة ،حيث قام الشهيد ابو جهاد ، عبر القياده الوطنيه الموحدة للانتفاضة التي شكلها ورعاها داخل فلسطين المحتله ، بمتابعة كافة التفاصيل الميدانية والعملياتيه ، بما في ذلك عمليات الامداد والتمويل والدعم الاعلامي والسياسي والديبلوماسي ، على امتداد العالم . حيث قام بانشاء غرف عمليات قيادة وسيطرة في اكثر من دولة في العالم لمتابعة ادق تفاصيل الانتفاضه بهدف تطويرها ودفعها الى الامام .
نجح الشهيد ابو جهاد اذاً ، في جعل المواجهة مع العدو حرباً شعبية طويلة الامد ، استمرت لسنوات بعد استشهاده ، سنة ١٩٨٨ . اي انه احدث تحولات استراتيجياً عبر انخراط كل جماهير الشعب في العمل الوطني المباشر في الميدان ، وان باستخدام ابسط وسيلة اشتباك الا وهي الحجارة فقط .
كما انه نجح ، من خلال هذه الانتفاضة بفرض حرب استنزاف طويلة الامد على جيش العدو الصهيوني ، الذي اضطر الى نشر ثلاث فرق كاملة ، في الضفة والقطاع ، محاولاً قمع الانتفاضة واخمادها دون جدوى .
٥)وبعد هذا النجاح الهائل ، في اشراك الشعب باكمله في مقاومة الاحتلال ، تابع الشهيد ابو جهاد جهوده لتعزيز الصمود الشعبي وتوجيه المزيد من الضربات العسكريه الموجعه للعدو ، تعزيزاً للشعب الثائر ولممارسة المزيد من الضغط على قادة العدو ، رئيس الوزراء اسحق شامير ووزير دفاعه اسحق رابين ورئيس الاركان الصهيوني دان شومرون ، الذين امعنوا في تكسير عظام الفلسطينيين وفشلوا في اخماد ثورتهم .
وفي هذا الاطار قام الشهيد ابو جهاد ، بوضع خطة لتوجيه ضربة عسكرية استراتيجية ، للعدو الصهيوني ، من خلال مهاجمة مفاعل ديمونا النووي الاسرائيلي لتكون بمثابة قوة ضاربة في طليعة المواجهة، حيث تم تدريب وتجهيز ثلاثة من الفدائيين الفلسطينيين ونقلهم الى داخل الارض المحتله وذلك بعد عملية رصد واستطلاع دقيقه لمحيط المفاعل والاجراءات الامنيه الاسرائيليه المتبعه لحمايته .
وفي صباح يوم ٧/٣/١٩٨٨ تمكن الفدائيون الثلاثه من الوصول الى نقطة ،تبعد سبعة كيلومترات فقط عن مركز المفاعل ، وقاموا بالسيطرة على حافلة تحمل ضباطاً وخبراء نوويون اسرائيليون وانطلقوا بها الى مركز المفاعل . وعلى الفور تم تفعيل اجراءات التأمين وقامت المروحيات العسكريه الاسرائيليه بمحاصرة الحافلة ومن على متنها بالنيران ثم قاموا بانزال قوة صهيونية مجوقلة عند نقطة اشتباك قريبة من الحافلة . وقد بادر الفدائيون قوات العدو بوابل من النيران واشتبكوا مع قوات العدو لمدة تزيد عن الساعه الى ان نفذت ذخيرتهم واستشهدوا جميعا.
كانت تلك هي المرة الاولى التي يتخذ فيها قائد عربي قراراً بالهجوم المباشر على هذا الموقع الاسرائيلي الحصين والاستراتيجي، وهو ما اعتبرته القيادة العسكريه والسياسيه الاسرائيليتان تجاوزا خطيراً لكل الخطوط الحمر ، الامر الذي ادى بها الى اتخاذ قرار باغتيال الشهيد خليل الوزير / ابو جهاد .
وقد تم تنفيذ عملية الاغتيال في ضواحي العاصمه التونسيه ، تونس ، حيث تم انزال القوه المكلفه بعملية الاغتيال ، وبتواطؤ من اجهزة نظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي ، بحراً على شاطئ مدينة المرسى التونسيه التي تبعد بضع كيلومترات فقط عن مقر قيادة الشهيد ابو جهاد .
تسللت تلك القوه الى الموقع وقامت باغتيال الحراس الليليين للموقع واقتحمت المبنى ، حيث يتواجد الشهيد ابو جهاد ، والذي تصدى لجنود العدو بما يملك من اسلحة نارية واشتبك معهم داخل المقر الى ان نفذت ذخيرته وارتقى شهيداً ، بعد ان أصيب بثلاثة وسبعين رصاصة معادية . علماً ان العقل الذي خطط للعملية وقادها ، من على متن طائرة قيادة عسكرية اسرائيليه ، كانت تحلق على بعد مائتي كيلو متر شمال مكان العمليه ، هو الجنرال ايهود باراك ، الذي تولى لاحقاً وزارة الدفاع ثم رئاسة الوزراء في كيان العدو .
وعلى الرغم من الخسارة الكبيره التي مني بها الشعب الفلسطيني ، بشهادة مؤسس وقائد انتفاضة الحجاره الفلسطينيه ابو جهاد ، الا ان هذا الشعب قد واصل انتفاضته ، بقيادة القائد العام لقوات الثوره الفلسطينيه ، الاخ الشهيد ابو عمار ، الذي قاد هذا الشعب الى عودة جزئية الى الوطن المحتل ، لا بل الى اقامة سلطة وطنية فلسطينية ، مرغماً العدو الصهيوني على التفاوض مع قيادة هذا الشعب ، ممثلاً بمنظمة التحرير الفلسطينيه رغم ماشاب هذه العملية التفاوضية من اخطاء فادحة وعثرات ، لكن ما يكتب لابي جهاد ومقولته الثورية انا اشتبك اذن انا موجود انه هو من اسس عملياً لاعتراف العدو بوجود الشعب الفلسطيني لعقود طويلة من الزمن . الامر الذي شكل محطة هامة من محطات نضال الشعب الفلسطيني لتحرير وطنه فلسطين واقامة دولته الوطنيه المستقله على ارضه كل ارضه طال الزمان ام قصر .