هدى سويد ـ إيطاليا- الحوار نيوز
للمرّة الأولى ومنذ سنيّ إقامتي في إيطاليا لم ترتفع الأصوات المؤيدة للشعب الفلسطيني ، كما ارتفعت مؤخرا إثر عملية السابع من أكتوبر، إذا وضعنا جانبا الموقف الرسمي السلبي الذي يسيطر على الحكومة الأخيرة المحسوبة على اليمين الإيطالي المساير لإسرائيل ، والذي كان فاشيّا فيما مضى ، متحالفا مع النازي في إلمانيّا في مُعاقبة اليهود المُقيمين تحديدا في كلا البلدين ، هذا العقاب الذي عُرف فيما بعد باسم المحرقة اليهوديّة ،وكأن هذا العقاب بات رفع عصا دائمة، لكن هذه المرة على الغرب من قبل إسرائيل .
في ظل الإنقسام الأوروبي وتحديدا المجموعة الأوروبية ، التي زادت الحرب الأوكرانية من وضعها الدراماتيكي ، ووجود أميركا كلاعب وعنصر أساسي في هذه الحرب ، يُمكن قراءة الموقف السلبي الأخير هذا ،واختصاره على لسان نائب رئيس الحكومة ووزير الخارجية “أنطونيو تاجاني”، أي ما أعلن عنه بالوقوف إلى جانب دولة إسرائيل في الدفاع عن أمنها وشعبها (وإن كان هذا الدعم قائم منذ الأبد ، إلا أنه تمّ تأكيده تحديدا بعد عملية السابع من أكتوبر وما حصدته من هشاشة الأمن في إسرائيل ، أو من أسرى متنوعي الجنسيات) مع تلاعب الألفاظ بأن هذا الموقف ليس ضد الشعب الفلسطيني ، بل ضد منظمة “حماس الإرهابيّة التي تستخدم الشعب الفلسطيني دروعا وسواتر بشريّة”. هذا من جهة ، بينما من جهة أخرى قلّما ارتفع الصوت الرسمي بشكل عام ضد الاحتلال ، وما تقترفه إسرائيل بحق شعب احتُلت أرضه ونُفي شعبه وتعمل على سحقه يوميّا، وإن ارتفع فبخجل مناديّا بالدولتين كما طالبت إيطاليا باستمرار.
وإن سعينا للتطرق بعمق نجد أن إيطاليا تعمد في علاقتها هذه ، إلى تعامل دبلوماسي وسياسي طبيعي كما تشاء التعبير عنه بين دولتين ، بينما الأمر ليس على حاله هذه مع الضفة ، وان كان للفلسطيني سفارته في روما ، وباعتراف رسمي إيطالي بقطاع غزة كدويلة منذ انسحاب المحتل الإسرائيلي من أرضها عام 2005 ، لكن تبقى المسألتان مُختلفتين ، فالمصالح المُشتركة الاقتصادية والسياسية ما بين الدولتين، ومنها الدينية بالطبع ــ نظرا لوجود الإرث الثقافي الديني التاريخي المعروف حيث مهد السيد المسيح ــ جديرة أكثر من الضفة والحق الفلسطيني الفقير والدويلة المزنرة . هذا التعاطي المصلحي إنما هو ضريبة ، تدفع ثمنه لغاية اليوم إيطاليا منذ الحرب العالمية الثانية ، ينبع إما إعتقادا وإمّا خوفا ، هي ضريبة تدفعها إيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية منذ سنين طلبا للغفران بعد المحرقة ، التي يستخدمها الإسرائيلي في كل مواقفه ساعيا للدعم الدائم له متمثلا بالضحية ، ويُترجم هذا الإعتقاد والخوف الإيطالي بوجود الكيان الصهيوني بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، في الحياة اليومية ووسائل التواصل وتحديدا الإعلامية التلفزيونية .
فمنذ مجيئي لإيطاليا يكاد لا يمر يوم من دون بث فيلم وثائقي عن المحرقة أو بما حل باليهود (مع احترامي لليهود والدين اليهودي ) أو مجموعة مسلسلات لا بد وأن يكون مضمونها وموضوعها ضحية يهودية ، أو كيف استطاع رجل دين أو”بطل” وعائلة إيطالية من إنقاذ يهود أو عائلة من المحرقة ، إجراء مقابلة مع شخصية نفدت من المحرقة إلخ… وخير مثال عن الأفلام هو فيلم “الحياة جميلة” الدرامي 1997 ، يتناول فيه المخرج المحرقة بقصة طفل يهودي ووالده الذي ينتهي في عداد الآخرين . فيلم ذاع صيته ، حائز على جائزة الأوسكار كأفضل فيلم وأفضل ممثل، من تأدية الممثل الدرامي والكوميدي البارع روبرتو بانيني، ولا أدري ما إذا كان الفيلم يلقى الجائزة أو جائزة ما إن تناول القضية الفلسطينية ؟
ولذا من هول ما يحدث اليوم ، لم تعد الأمور عمّا كانت عليه من قبل لعدة أسباب ، منها مثلا توافد جنسيات عربية أكثر في السنوات الأخيرة وتمازجها مع الشعب الإيطالي، وبالطبع شرح بعض القضايا التي كانت مستعصية بل مرفوضة من الذهنية الإيطالية، ولنقل في مناطق معينة ، في ظل إنقسام الصف الفلسطيني وغياب السياسة الإعلامية العربية التي تتطلب ضخّا ماليا ، لم تبال به الأنظمة العربية بقدر ما اهتمت بشراء لاعبي كرة قدم .
ولعل تطور وسائل التواصل لعب ويلعب دورا في إيصال الحدث والحقائق إلى شريحة كبرى من الإيطاليين، الذين باتوا قادرين بجرأة على القول ، ناسفين الثابت من المعتقدات الخاطئة من جهة ولما يحدث في غزة من جهة أخرى، من محو وإبادة شعب ، غيّر معادلات كثيرة في الشارع والفكر السياسي، ليس فقط على مستوى التيارات اليسارية المنقسمة الإيطالية ، بل على صعد مختلفة ومنها غير المنتمية أيضا التي كانت تبتعد عن السؤال البعيد عن اهتماماتها، وابتعادا منها عن المشاكل.
منذ اندلاع الحرب على غزة ، عمّت التظاهرات بما لم يسبقها مثيل ، من دون المنع الرسمي لها كما حصل في دول أخرى ، كما وتكاد البرامج السياسية تصب يوميّا حول هذه الحرب وأبعادها تحمل آراء داعمة للفلسطينيين والقضية ، من دون إعطاء الحق لإسرائيل بهذه الحرب، ولا بما ارتكبته حرصا على أمنها . بالطبع الأمر مرهون بالمشاركين في اللقاءات والندوات وحسب المدعوين وإن تخللتها آراء داعمة لإسرائيل بالدفاع عن النفس أمام الإرهابيين كمسلّمة ثابتة . آراء تتناول القضية باختلاف ما يحصل من أمور ومواضيع ساخنة على الأرض ، نقاشات وآراء تتجاذب وتتناقض، لكن النسبة الكبيرة باتت مواقفها أوضح من إسرائيل ومن حق الشعب الفلسطيني.
في هذا السياق يهمني نقل بعض من هذه الآراء والمواقف ، منها مثلا مقالة ومقابلات تلفزيونية مع المؤرخ في علم الفلسفة ،السياسي والصحافي أنجلو دورسي عندما اتهم صحافي يميني المنظمات الفلسطينية بالحركات الإرهابية رد عليه قائلا : “إن سلمت معك جدلا ، وأن ما يقوم به الفلسطيني لاسترداد حقوقه المشروعة هو عمل إرهابي ، علينا ألا ننسى بأن إسرائيل لعبت دورا إرهابيا، بل أكثر من ذلك عملت على مسح عرقي من أجل صنع دولتها “.
وفي مقالة مطولة له حملت عنوان :”حول المسألة الفلسطينية والمستعمرات اليهودية ، هل يمكن التسامح عمّا يحصل في غزّة؟”..أقتطف منها :
” لم يعد للمسألة اليهودية مبرر أو وجود ،والتي تحدث عنها كارل ماركس أواسط الأربعينات في القرن التاسع عشر، بينما اليوم يمكن اختزال المسألة الفلسطينية بما يحصل ، آخر أمثلتها المستوطنات غير المشروعة التي بنتها إسرائيل خارج القوانين والعدالة ، بمثابة بؤرة استيطانية أوروبية أميركية في الشرق الأوسط .. علينا اليوم رفع الصوت والقول : كفى ! في كل مناسبة تستعين إسرائيل بحججها وعبارات تستخدمها للحفاظ على استمرار دعم العالم لها ، كاتهاماتها المغلفة بريائها، أي ما تطلقه دوما من معاداة السامية .. علينا انكار رواياتها الكاذبة التي بنيت على أساسها دولة إسرائيل ، فوق ما ألحقته من حطام وأضرار للشعب الفلسطيني عام 1948″..مسلسلا تاريخ الصهيونية ومساعدات الغرب وتحديدا أميركا في تأهيلها عسكريا وتوسيع رقعة احتلالها أمام عالم عربي محطم وغير منظم . “
لم يكتف دورسي بذلك بل تابع مشيرا إلى لا قانونية إسرائيل بإعلان القدس عاصمة دائمة وأبدية بمساعدة ترامب “.
السياسي اليساري العتيق بيار لويجي بيرساني بدوره يقول إن “ما حصل لم يولد من لا شيء . المسألة الفلسطينية تطرح نفسها اليوم ، بعدما رفض نتنياهو كل الحلول السلمية منذ تربعه على السلطة صانعا 500 مستوطنة غير قانونية ، لا يمكن لشعب أن يقبل بالذل وهذه مسؤولية لا تقع فقط على عاتق نتنياهو ، بل تتحمل أميركا والغرب المسؤولية لما وصلت إليه الأمور اليوم . فقط الحل العادل للفلسطيني يساهم في إحلال السلم وليس السلاح والعنف”.
أما لوشيو كاراشيولا مدير مجلة استراتيجية “ليمز” فيقول إن “إسرائيل أظهرت في هذه الحرب أن لا إستراتيجية لها ، واعتقد أنها باشرت بالحرب بعبثية ولا تعلم كيفية الخروج منها “.
أما اللقاء الذي تم في برنامج 8 ونصف السياسي الذي تديره ليللي غروبر الصحافية و التي كانت عضوا في البرلمان الأوروبي ، وقد استضافت خلاله حنان الشعراوي التي قالت من بين جملة ردودها: “تسألوننا دوما بإدانة حماس ولا تحاسبون أنتم الإسرائيليين على ما اقترفوه من جرائم خلال احتلالهم “!
البرنامج استضاف كلا من المؤرخ والمثقف اليهودي يوفال نوا هاراري والصحافي الشهير ميكيل سانتورو رئيس جمعية “سلام ، أرض وهوية”. الأول طعن بمصداقية نتنياهو والحرب وأحقية عودة الشعب الفلسطيني إلى أرضه ، أما الثاني فمن أبرز ما قاله بألم ردا على أسئلة غروبر :
“أنا قلق جدا على الأطفال والمليون المتبقي من الشعب الفلسطيني (ربما أقل بعد القصف الأخير) حيال قصف إسرائيل للمستشفيات متذرعة بدعاياتها ووجود إرهابيي حماس ، وقلق على غزة من عدم اسقلاليتها ،فإسرائيل متى أرادت قادرة على قطع الكهرباء والمياه عن الأطباء والمستشفيات والمدنيين كحنفية تمد أو تقطع متى شاءت ، ناهيك عن قطع وسائل الاتصالات !”
وأضاف :” يجب على العالم أن يهتم بالشعب الفلسطيني وحياة إنسانه المعدم من حقوقه منذ 50 عاما ، في العالم كله وليس في غزة فقط ، هو شعب بلا حقوق في مختلف أرجاء العالم” ، “
وقال :”قتل الإسرائيليون وتحديدا نتنياهو ،الساعين للسلام كبيريز ورابين . أعداء السلام من الجهتين صحيح، ولكن أي نصر تجنيه إسرائيل بالقضاء على حماس؟ ..النصريتمثل ببناء علاقات طبيعية مع الدول العربية وأن يعيش الفلسطيني بكرامة في أرضه ..أي نصر تجنيه بالدخول إلى غزة وطرد الشعب الفلسطيني ، الدخول إلى غزة المحروقة يضاعف العداء ضدها في العالم بأجمعه . الدخول إلى غزة ليس ضد الشعب الفلسطيني وحسب بل ضد الدول العربية والإسلامية .. علينا العمل على عدم طرد الفلسطينين خارج غزة ، لأن ذلك ضد الشرائع والحقوق الإنسانية وتهديد للسام العالمي “.
وتساءل سانتورو:”كيف يمكن لشعب تعرض لمحرقة أن يهتم بأمنه ومستعمراته ، يعيش بالخوف والإغلاق الدائم ويتغاضى عن حقوق الشعب المحيط به ؟ ماذا يفيد هذا الإغلاق كما حرص نتنياهو بهذه الطريقة والتذرع أنه للحفاظ على أمنه ؟ ولنجد هذا الأمن والإغلاق يسقطان في كل مرة ، معلنا فشل نتنياهو الذي ضرب بكل حلول السلام ، وسارع بعد عملية السابع من أكتوبر إلى ارتداء بذلته العسكرية ، يريد القيام بدور المقاتل ! أنا لا أريد العيش في دولة تعيش في الخوف منذ نشوئها حرصا على أمنها ،ولا أريد أن يكون نموذجها نموذجا عالميا !”
أضاف:لا يمكن ترك بايدن ونتنياهو يلعبان هذه المباراة ، وعلى أوروبا أن تلعب دورها ، علينا أن نعلم ما الذي يمكن أن يبقى في غزة ؟ لا يمكن طرد الفلسطينين. إلى أين يتوجه الفلسطينيون ؟ إلى غزة أصغر وأضيق ليتم من جديد تصفيتهم وإبادتهم ؟”.