دراسةسياسة

جمهوريّة الفراغ: نحو الدولة الفاشلة في قانون الأمم(أنطونيو أبو كسم)

 

د.أنطونيو أبو كسم* -الحوارنيوز

يشكّل الفراغ المُقنن في لبنان نهجاً في الحوكمة السيئة وغياب الشفافية. فالديمقراطية تصبح حينها أداةً فقط لتجديد ولاية السلطة السياسية، وبالتالي وسيلة من وسائل سوء استعمال السلطة. بخدمة نهج الفراغ، تكتسب الديمقراطيّة اللبنانيّة صفات غير شرعيّة، كالديمقراطية الاستنسابية وديمقراطية التعطيل وديمقراطية الامتناع وديمقراطية إقفال المؤسسات الدستورية. فالفراغ في المؤسسات جرّاء الممارسات المناقضة لدولة القانون، يؤدّي إلى تدمير الدولة وإعلانها دولة فاشلة، فتفقد شرعيّتها شيئاً فشيئاً في القانون الدولي.

 

مؤشّر الدولة الفاشلة

 

الدولة الفاشلة في قانون الأمم، هي الدولة التي لم تعد تتمتع بالشرعية ضمن حدود أراضيها. كانت الصومال هي الدولة الأولى التي حددها مصطلح «الدولة الفاشلة» ولا تزال اليوم على رأس ترتيب «مؤشر الدولة الفاشلة»، وهو مؤشر تمّ إنشاؤه لتقييم صحة شرعية الحكومات. أمّا لبنان، فما زال «يتسلّق نزولاً» لينافس أوغندا والنيجر على المرتبة 25، بمعدّل فشل 91,8 للعام 2023، وذلك بدءاً من العام 2017 حيث كان في المرتبة 43. تجدر الإشارة، إلى أنّ سوريا حلّت في المرتبة الخامسة، والسودان في المرتبة السابعة واليمن في المرتبة الثانية والعراق في المرتبة 27.

 

من السمات المميزة لما يسمى بالدولة الفاشلة: فقدان السيادة على أراضيها؛ فقدان الشرعية في صنع القرار العام؛ عدم القدرة على ضمان عمل المرفق العام؛ عدم القدرة على الحوار كعضو كامل العضوية في المجتمع الدولي. هذه الخصائص الأربع، لا تشترط وجودها مجتمعة لإعلان فشل الدولة. في الواقع، إنّ الفساد السياسي أو الدولة البوليسية أو الأزمات الاقتصادية أو الحرمان الثقافي هي عوامل مهمة لفشل الدولة.

 

أمّا مؤسسة The Fund for Peace التي تنشر المؤشّر FSI، قد لحظت اثني عشر معياراً منها مؤشران اقتصاديان وستة مؤشرات سياسية. أربعة مؤشرات اجتماعية: الضغط الديموغرافي وجميع المشاكل التي تولدها، تحركات اللاجئين والنازحين داخلياً، والعنف المجتمعي والهجرة المكثفة والمنتظمة. مؤشران اقتصاديان: عدم المساواة في الحصول على الثروة والخدمات العامة والأزمات الاقتصادية التي تؤثر على أعداد كبيرة من الناس مع جميع أنواع العواقب.

 

أخيراً، ستّة مؤشرات سياسية تنقسم إلى مجموعتين:

أولاً، تلك التي ترتبط بالعنف: ظهور الجرائم الصغيرة وفقدان المصداقية في الشأن العام، وإنشاء ميليشيات مدنية وتدخل قوى خارجية. ثم تأتي المؤشرات المتعلقة بالحوكمة العامّة ودولة القانون: تدهور الخدمات العامة، وتكوين مجموعات صغيرة داخل النخب السياسية، وانتهاك حقوق الإنسان.

 

في ما خصّ لبنان، إنّ المؤشّر الذي يمنع انحداره نحو مراتب دنيا، هو مؤشّر الأمن، الوحيد الذي يتطوّر بشكل إيجابيّ تصاعديّ منذ العام 2017 حيث كان 8,7 ليصبح 7,3 في العام 2023 بالرغم من الأزمة الاقتصادية الخانقة والرواتب المتدنيّة للجيش والتحديات الأمنيّة المتفاقمة.

 

تفريغ المؤسسات وتعطيلها: المؤشّر الأخطر

 

يسود نهجٌ سياسيّ في لبنان قائم على التفريغ الممنهج للمؤسسات بهدف تعطيلها. وفي حال فشلت خطّة التفريغ، يتمّ اللجوء إلى وسائل أخرى بهدف تعطيل المؤسسات الحكوميّة. وكأنّ الخطّة تقوم على تدمير كافة مؤسسات القطاع العام، وضرب الثقة بمؤسسات الدولة، ما يؤدّي إلى تهجير الموظفين الأكفّاء وإحباط الشباب اللبناني لعدم الدخول إلى الإدارة اللبنانيّة. فحتّى خلال وجود رئيس للجمهورية وحكومة حائزة على الثقة، كانت مقاربة موضوع التعيينات سياسيّة كيديّة قائمة على المحاصصة وعلى الترهيب والترغيب.

 

أولى المؤشرات كان سقوط قانون آلية التعيينات الإدارية للمراكز القيادية في المجلس الدستوري، وسط تعيينات مشبوهة قائمة على التمديد لقيادات أمنيّة ونقديّة وقضائيّة وتربوية وأكاديميّة، عبر اجتهادات غبّ الطلب تارةً خلافاً للقانون وطوراً خلافا لمبدأ توارد السلطة. ناهيك عن ترك مجالس إدارة لمؤسسات عامّة انتهت ولايتها تمارس صلاحيتها وفقاً لمبدأ استمرارية المبدأ العام.

 

الخطر الأبرز هو محاولة تطبيق هذا النهج في قيادة الجيش، عبر التسلّح بالصلاحيات الاستنسابية للامتناع عن اقتراح ضباط عامّين لمراكز شاغرة. إلّا أنّه في حال الشغور، تكون صلاحية سلطة التعيين مقيّدة وغير استنسابية من أجل تسيير المرفق العام. إنّ التذرّع بالصلاحية الاستنسابيّة لتعطيل التعيين، يشكّل جرم إساءة استعمال السلطة وإخلالاً بواجبات الوظيفة. إنّ عيب انحراف السلطة أو استغلالها يتحقّق عندما تقوم الادارة بإصدار قرارات أو عبر الامتناع عن إصدار قرارات بغية تحقيق هدف غير الهدف الذي منحت هذه السلطة من أجله، ممّا يشكّل تجاوزاً لحدّ السلطة ويعرّض قراراتها للإبطال.

 

يُضاف إلى ذلك، أنّ كلّ شخص انتدب إلى خدمة عامة بالانتخاب أو بالتعيين وانتهت مدته يعاقب جزائياً إذا مضى في ممارسة وظيفته خلافاً للقانون. إنّ ممارسات صلاحيات استنسابية لتحقيق غايات ومكاسب سياسية في ظروف استثنائية، قد تهدّد حوكمة مرافق أساسيّة في الدولة واستمراريتها، ممّا يؤدّي إلى الانحدار السريع نحو الدولة الفاشلة؛ حيث المشكلة الأكبر تكمن في تعطيل آليات المحاسبة القضائية.

 

عدم ملاحقة الجرائم الفظيعة عمداً

 

إنحرفت سياسة التعاطي مع مرفق العدالة- الذي لم يُحتَرم يوماً كسلطة مستقلّة- من مفهوم العدالة بالتراضي، إلى مفهوم العدالة الانتقائية الاختياريّة غير الإلزامية. للأسف أصبحت العدالة في لبنان خياراً انتقائياً اختيارياً غير ملزم بيد السلطة السياسية. وبالتالي من أجل تثبيت قواعد العدالة الانتقائية، لجأت السلطة السياسية إلى خطّة التعطيل عبر التدخلات السياسية الترهيبية، ما أدّى إلى اضطراد عمليّة تفريغ مرفق القضاء لتصبح العدالة فارغة حيث تركت مئات الضحايا تئنّ ألماً من دون عدالة.

 

إنّ العدالة الانتقائية الاختيارية تشكلّ مؤشراً خطراً لإعلان دولة أنها فاشلة، في خطوة متقدّمة لإدراجها على لائحة الدول المجرمة، الدول التي تقتل شعوبها، وهنا تطرح مسألة المسؤولية الجنائية الدولية للدولة.

 

إنّ الفراغ في المؤسسات يشكّل مؤشراً لفقدان السّيادة ويشرّع التدخلات الخارجية التي تتطوّر لتصبح إلزاميّة، حيث يشكّل تدخّل صندوق النقد ألطف الآليات. والخشية من تصنيف لبنان دولة مارقة وفقاً لمعايير القانون الدولي لعلّة أنّ سياساتها تشكل تهديداً مفتوحاً لبيئتها، ولأنها تنتهك المعاهدات الدولية. فالسياسة المعتمدة بخصوص المهجرين والمهاجرين السوريين في لبنان تثير القلق والخشية من أن تتحوّل قضية أمن إقليمي. الحلّ بعدم تشويه الديمقراطية والإقلاع عن ممارسة سياسة التعطيل بهدف الفراغ بغية تغيير شكل النظام. يقع على عاتق العهد الجديد تحديد استراتيجيات متكاملة لبناء الدولة واستعادة الثقة، لاستقطاب مساعدة مؤسسات المجتمع الدولي.

 

(*) محامٍ دوليّ وأستاذ جامعي.

 (*)بالتزامن مع  نداء الوطن

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى